سراب المصالحة الفلسطينية

بقلم: 

لماذا كلما اشتد ظمأ الفلسطينيين إلى استعادة وحدتهم الوطنية وذهبوا إلى واحات الاتفاقات العديدة التي أبرمتها قياداتهم لتحقيقها، لم يجدوا هناك سوى السراب .

هل أصبح الفلسطيني مدمن مفاوضات وأسيراً لها لا يحقق منها أي نتائج؟ يتفاوض مع العدو الصهيوني طوال عشرين عاماً من دون نتائج، لكنه يواصل . ويتفاوض مع أجزاء ذاته لسبع سنين ويصل إلى اتفاقات تتحول إلى سراب .

والسؤل الأهم، من المسؤول عن ذلك؟

يصعب إعطاء إجابة شافية عن هذا السؤال . فقد جعلت سنوات الانقسام ومناقشة قضاياه ومعيقاته وتبرير المواقف على الفضائيات من مسؤولي التنظيمات الفلسطينية أساتذة في فن المحاججة الكلامية، وخبراء في فن المراوغة ومبدعين في أساليب التملص من الالتزامات، وزرع مسالك هروب في صياغة الالتزامات التي يعلنونها .

لكن الحقيقة أن الكل يتحمل جزءاً من المسؤولية كبر هذا الجزء أم صغر . صحيح أن حركتي فتح وحماس تتحملان المسؤولية الأولى لكن ذلك لا يعفي القوى الأخرى من المسؤولية كونها لم تنجح في تشكيل طرف ثالث ذي وزن مؤثر يحسب له حساب ويلتفت إلى مواقفه، بسبب من تراجع وزنها وفعلها الجماهيري والسياسي والنضالي . كما أن حالة الاستقطاب الحادة بين فتح وحماس وضعف الطرف الثالث، إضافة إلى تأثير الاحتلال واعتداءاته وقيوده وصعوبة العيش، قد أدت بدورها إلى إضعاف الحركة الجماهيرية وإضعاف دورها وتأثير قواها وهيئاتها المدنية .

وفي كل الحالات فقد ظلت أكثر العقبات وأصعبها في وجه تحقيق المصالحة الوطنية هي أن صانعي الاتفاق هم أنفسهم صانعو الانقسام . وهم أنفسهم الذي كرسوا الانقسام حتى خلق حقائق أمر واقع وهياكل ومؤسسات يصعب الفكاك منها، وطرائق عمل قائمة على “انفرادية” القرار أصبحت أقرب إلى العادة .

وبتعبير سياسي آخر، فإن صانعي الانقسام يفتقدون الإرادة السياسية الجادة لإنهائه، هذا، من دون الحديث عن الموقف “الإسرائيلي” الهستيري ضد الاتفاق وما يخلقه من مصاعب وعقبات .

مخاطر الانقسام أكثر من أن تعد وتحصى، تبدأ بالخطر الداهم على القضية الوطنية، وتمتد إلى كل المناحي والأمور، وتصل إلى التأثيرات السلبية في العلاقات المجتمعية التي تتكرس على شكل عادات تهدد بانقسام مجتمعي إذا استمر الانقسام السياسي .

وفي الفترة التي تصاعد فيها دور قوى الإسلام السياسي في المنطقة ووصلت إلى الحكم بالذات في مصر، تصاعد إلى درجة عالية خطر انقسام وحدة الشرعية الوطنية الفلسطينية ووحدة التمثيل السياسي، واقترب الانقسام كثيراً من تشكل كيانين سياسيين فلسطينيين، باعتراف وقبول آخذ بالتزايد والتشجيع بدوافع فكرية أساساً وخلفيات أخرى متنوعة .

صحيح أن هذا الخطر قد تراجع كثيراً بعد تراجع دور هذه القوى، وخاصة بعد سقوط حكم الإخوان في مصر، إلا أنه كشف عن نوايا واستعدادت انقسامية قصووية البعد وشديدة الخطورة .

عقدة الانتخابات

نظرياً، وصلت القوى الفلسطينية إلى اتفاق على كل القضايا التي ناقشتها والتي تتعلق باستعادة الوحدة الوطنية . وتجاوزتها إلى الاتفاق على قضايا تتعلق بإعادة ترتيب البيت الفلسطيني ومؤسساته، مثل مفاصل البرنامج السياسي ومثل الإطار المؤقت لقيادة منظمة التحرير لحين انعقاد مجلسها الوطني وانتخاب قيادة جديدة لها، ومثل لجان المصالحة المجتمعية ومثل تعديل قانون الانتخابات وغيرها .

حصل ذلك عبر اتفاقات عديدة بدءاً من وثيقة الأسرى وصولاً إلى إعلان الدوحة والاتفاقات الأخيرة في القاهرة .

ووصل الأمر في موضوع الانتخابات إلى تحديد موعد لإجرائها في مايو/ أيار 2012 .

لقد ظل التملص من استحقاق الانتخابات أهم الأسباب وراء فشل اتفاقات المصالحة، بالذات الأخيرة منها .

فمن دون انتخابات عامة تشمل المجلس التشريعي للسلطة الوطنية والمجلس الوطني لمنظمة التحرير والرئاسة، لا يمكن أن تكون هناك مصالحة ولا يحزنون، بل إدارة للانقسام في أحسن الأحوال .

التملص من استحقاق الانتخابات بعد أن تم الاتفاق الإجماعي عليها ثم الاتفاق على آلياتها في إعلان الدوحة (حكومة مستقلين مؤقته برئاسة أبو مازن تدعو لانتخابات عامة وتشرف عليها) ثم الاتفاق على موعدها، كان دائماً، لأسباب ذاتية متعلقة بالحسابات الخاصة التنظيمية .

أبرز الأمثلة على ذلك وأكثرها صراحة كان مماطلة حماس وطلبها المتكرر تأجيل الانتخابات العامة وتعطيل إجراءاتها، تحت حجج مختلفة وغير واقعية، بينما السبب الحقيقي وراء ذلك هو رغبتها انتظار نتائج “الربيع العربي” واستقرار حكم حركة الإخوان المسلمين في أقطاره، بالذات في مصر أو وصولها إلى الحكم فيها (سوريا) .

خصوصاً وأن حماس بدأت بتحديد مواقفها وممارسة سياساتها كفرع منضبط لحركة الإخوان المسلمين الأم، بل إنها وضعت نفسها وإمكاناتها وخبراتها وحوّلت نفسها إلى أداة في تصرف هذه الحركة ولخدمتها في أي مجال ممكن، وعلى حساب التزاماتها الوطنية .

إن عدم الدعوة إلى انتخابات عامة هو في الحقيقة اعتداء سافر على حق أصيل وأساسي من حقوق المواطن الفلسطيني . حقه في تقرير شؤونه واختيار القيادة التي تتولى أمره بشكل حر، وبشكل دوري أيضاً .

ويزيد من ضراوة هذا الاعتداء أن كل المؤسسات الفلسطينية قد فقدت شرعيتها وفقدت دورها ويتم التجديد لبعضها بإجراءات قيصرية مبتسرة .

استحقاق 14 أغسطس

هذا الاستحقاق نتج عن اتفاق فتح وحماس، في آخر جولة مفاوضات بينهما على تأجيل تنفيذ المصالحة إلى 14 أغسطس/ آب . حصل ذلك، كما أعلن، بناء على طلب من حماس حتى تنتهي نهائياً من ترتيب أمورها الداخلية .

لكن مع الوصول إلى التاريخ المحدد لا شيء حصل ولا حديث عن تنفيذ لاتفاق المصالحة، بل العكس تماماً هو ما حصل:

حماس ليست في وارد المصالحة واستحقاقها، بعد زلزال التغيير الذي حصل في مصر وإسقاط حركة الجماهير العارمة حكم الإخوان، وانهماكها التام فيه بأكثر مما يحتمله وضعها الوطني الفلسطيني ومتطلباته النضالية .

وفتح تعلن على لسان عزام الأحمد، مسؤول ملف المفاوضات فيها، أنها في حل من الاتفاقات الموقع عليها مع حماس من جراء تنصل الأخيرة عملياً منها . وأضاف أن فتح لم تتخذ قراراً بإجراء الانتخابات من دون قطاع غزة، وأشار إلى وجود بدائل أخرى لم يوضحها .

من جهته، الرئيس محمود عباس كرئيس للسلطة الوطنية لا يبدو أنه في وارد اتخاذ قرارات بإجراءات أحادية أو استثنائية .

لو كان في وارد ذلك لبادر إلى تشكيل حكومة المستقلين المؤقته والدعوة إلى الانتخابات العامة، مستنداً في ذلك إلى وجود اتفاق لم يعلن أي طرف التراجع عنه، وإلى إنجاز لجنة الانتخابات المركزية قاعدة البيانات الانتخابية وإعلانها جاهزيتها للذهاب إلى الانتخابات . لكنه بدلاً من ذلك أعاد تكليف الدكتور الحمد الله تشكيل حكومة جديدة عادية .

كان يمكنه اتخاذ هذه الخطوة في أكثر من مناسبة قبل الآن . وكان يمكن، ولا يزال ممكناً حتى الآن، تخطي عقبة احتمال منع سلطة حماس إجراء الانتخابات في قطاع غزة بالتعديل لقانون الانتخابات، ورفع نسبة القوائم في التمثيل النسبي المقر إلى 100%، واعتماد الضفة والقدس والقطاع دائرة انتخابية واحدة .

عباس لم يفعل ذلك لأنه لم يكن يريد الذهاب إلى انتخابات من دون مشاركة حركة حماس فيها، وبالغصب عنها . ومن المستبعد أن يفعلها الآن، والظروف أقل ملاءمة وحماس في أصعب أوقاتها وفي أكثر حالاتها رفضاً لإجراء الانتخابات . وربما لوجود اتجاهات داخل حركة فتح تضغط ضد إجرائها .

وعباس لن يفعلها الآن لأنه ينخرط بقناعة، كما يعلن، في جولة جديدة من المفاوضات مع “إسرائيل” يريد أن يوفر لها من طرفه كل فرص النجاح ويعطيها التركيز اللازم . ويبقى كل حديث عن بدائل مجرد تسريبات وتكهنات غير مؤكدة، أو توقعات لأفكار أو مواقف لم تنضج بعد.

وتبقى الصورة الواضحة الآن أن المصالحة الوطنية الفلسطينية، في وضع “مكانك راوح” على أرض السراب .

المصدر: 
الخليج