عن الهوية والعولمة الثقافية في زمن الفضائيات
صدر كتاب لافت للكاتب المغربي عبد الرزاق الدواي بعنوان "في الثقافة والخطاب عن حرب الثقافات، حوار الهويات الوطنية في زمن العولمة" (عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات). ويقترح المؤلف "مقاربة تحليلة ونقدية لإشكالية الثقافة في الفكر المعاصر، والمفاهيم المتفرعة عنها، الحديثة المنشأ، تعني مفاهيم معيّنة بالذات مثل: الهوية الثقافية، المثاقفة، الهيمنة الثقافية، الصراع والحوار بين الثقافات، الديمقراطية والحقوق الثقافية"، كما جاء في مقدمة الكتاب. خمسة فصول يصوغها المؤلف, الأول "عناصر تصور جديد لإشكالية الثقافة"، الثاني "الخطاب بشأن "حرب الثقافات" في الفكر الغربي المعاصر"، الثالث "في أخلاقيات الحوار...", الفصل الرابع "صدام الحضارات وحوارها..", والفصل الخامس "في الهوية والعولمة الثقافية".
اخترنا مقاربة مهمة من الفصل الخامس بعنوان "عن الهوية والعولمة الثقافية في زمن الفضائيات".
1 صحيح أن العولمة بصفة عامة، والعولمة الثقافية بصفة خاصة، تبدو في أعين بعض المفكرين والمثقفين العرب المعاصرين، وكأنها اذا ما أُحسن فهمها واستغلالها، تمنح فرصاً استثنائية، يمكن أن تخرج بالمجتمعات الغربية من دوامة الاستبداد والتخلف، وتفتح أمامها آفاقاً رحبة للاستفادة من امكانات غير مسبوقة، ولممارسة حريات جديدة. بيد أن الأمر غير ذلك في أعين كثيرين من مفكرينا الذين درسوا الظاهرة، ورصدوا انعكاساتها السلبية على الأقطار العربية والإسلامية وعلى كثير من دول العالم. هؤلاء لا يترددون في وصف العولمة الثقافية باعتبارها الثقافة الغربية الظافرة، بمختلف مكوناتها وروافدها، وخاصة الرافد الأميركي منها؛ وهي تسعى الى فرض اختياراتها ومرجعياتها القيمية على سائر الثقافات الانسانية الأخرى، بل وتساهم في تفكيكها وإعادة تشكيلها على نحو هجين، وكأنها مظاهر صارخة لهيمنة قوى عظمى تتحكم اليوم في مصادر الثروات، وفي مراكز تأويل القانون والحق والقيم؛ وكأنها استعمار جديد، لطيف وناعم، وهو يستهدف العقول والضمائر بالايحاء والإغراء؛ استعمار لم يعد يفرض على الشعوب الأخرى من خلال عولمة ثقافته، ضرورة محاكاته في نموذجه فحسب، بل أضحى يعطي لنفسه الحق في تحديد كيفية هذه المحاكاة أيضاً. وقد سبق أن ذكرنا في تذييل ملحق بمطلع هذا الفصل عيّنة ممثلة لهذين الموقفين المتميزين.
والحق أن "العولمة الثقافية" التي رأينا أن من خصائصها البارزة سعيها المستمر الى تحقيق أكبر قدر ممكن من التنميط والتجانس الثقافي على الصعيد العالمي، قد تأتي في بعض الأحيان بعكس ما هو مُتوقّع منها. ذلك لأن الثورة الهائلة المصاحبة لها، والمتمثلة بصفة خاصة في التقدم الهائل الذي تشهده باستمرار ميادين تكنولوجيات الأقمار الاصطناعية والفضائيات، من الممكن أن تساهم أيضاً، ربما عن طريق غير مباشر ومن دون قصد، في لم شتات بعض القوميات التي يتشكل منها العالم اليوم. بل إنها قد تساعد على إعادة إحياء الروابط التاريخية والثقافية التي انفصمت في ما بينها بسبب الدسائس والأطماع ورواسب العهد الاستعماري، ومن ثم ربما تبعث الروح في هوياتها الثقافية الوطنية وتعززها. ونحن نرجح أن هذه الواقعة تنطبق بالفعل على التأثيرات الكبيرة التي أحدثتها الفضائيات في العالم العربي في زمن العولمة.
بخصوص هذه المسألة نعرض لرأي لاحظنا أنه يتبلور حالياً في أوساط معظم المهتمين والباحثين في مجال الاتصال السمعي البصري العربي الفضائي. مفاد هذا الرأي أن عصر البث الفضائي، الذي دخله العرب مرسلين ومستقبلين خلال مدة زمنية لا تكاد تتجاوز عقداً من الزمن، قد ساهم في دفع المجتمعات العربية والإسلامية الى الإقبال المنقطع النظير على مشاهدة الفضائيات العربية الحديثة العهد بالانطلاق. وربما ذلك لأنها كانت الأقرب إليها لغوياً وثقافياً، وكذلك لأنها تتجاوب مع كثير من طموحاتها السياسية والثقافية على المستوى الوطني والقومي والانساني.
وتتضح لنا هذه الفكرة أكثر عندما نتفحص بعض الدراسات التي أجريت في الأعوام الأخيرة بشأن هذا الموضوع، حيث نجد أنها تكاد كلها تؤكد أن الفضائيات العربية الجديدة غدت تحتل مكان الصدارة في اهتمامات المواطنين العاديين، وكذلك لدى النخب العربية السياسية والثقافية، التي يبدو أن اهتمامها بالقنوات التلفزيونية الأجنبية كمصدر للأخبار والتفاعل مع العلالم، قد تضاءل بشكل ملحوظ عما كان عليه من قبل. وفضلاً عن ذلك، لا يمكن نكران أن الفضائيات العربية الجديدة ساهمت بفعالية كبيرة في إذكاء جذوة صحوة ربيع الثورات العربية الجديدة التي نشهدها حالياً باعتزاز، وفي تعميق الشعور بالانتماء الثقافي القومي لدى المهاجرين العرب في مختلف بقاع العالم.
على سبيل المثال، يمكن التذكير هنا بمقال نشرته الباحثة المغربية فاطمة المرنيسي قبل ثمانية أعوام في إحدى كبريات المجلات الأميركية المتخصصة. وقد تناولت فيه موضوع الدور الذي تقوم به الفضائيات العربية في العالم العربي. ومن الأفكار البارزة التي وردت في هذا المقال أن الظاهرة التي نتحدث عنها تعدّ بحقّ حدثاً غير مسبوق في تاريخ المشهد الإعلامي العربي الرسمي السائد، الذي طاول زمن خضوعه للرتابة والرقابة والاجترار وهيمنة الرأي الواحد؛ لقد أحدثت فيه وفي نمط الحياة التقليدية تأثيرات كبيرة.
وفي نظر الباحثة المرنيسي إن الظاهرة المذكورة تحوّلت، في فترة وجيزة نسبياً، الى أداة فعّالة لاختراق هيمنة الإعلام الرسمي وحصاره في المجتمعات العربية الإسلامية وتكسير احتكاره. وكانت تأثيراتها الاجتماعية والثقافية بمنزلة مقدمات مفيدة للتربية على حرية الرأي والتعبير والحوار والنقد. كما أنها فتحت الأعين على الدور المهم الذي يمكن أن تقوم به مؤسسات المجتمع المدني في المجتمعات العربية. يمكن اعتبار هذه العناصر الإيجابية مداخل ضرورية للتعريف الواسع بأفكار الحقوق والحريات والديمقراطية في البيئة العربية، وبالتالي للتربية على حقوق المواطنة. وخلصت الباحثة في مقالها الى تأكيد حقيقة أن الملايين من العرب والمسلمين الذي يقبلون اليوم بكثافة على مشاهدة الفضائيات العربية، وهي تخص بالذكر منها قناتي الجزيرة وأبو ظبي، إنما يقومون بذلك لأنهم يجدون فيها بالفعل ما يفتقدونه تماماً في قنواتهم التلفزيونية الرسمية.
إنه لأمر بيّن اليوم أن بعض الفضائيات العربية الرائدة، قد ساهمت خلال العقد الأخير من القرن العشرين وفي هذه الطلائع الأولى من القرن الواحد والعشرين، في توحيد إيقاع نبض الشارع العربي وجدانياً وسياسياً، وكذلك في رفع درجة وعيه بأخطار سياسات الهيمنة الثقافية والاعلامية الغربية في أشكالها الجديدة. كما عمّقت اهتمامه بقضايا العالم العربي الأساسية ووسعته في مجالات استكمال التحرر، وفي ميادين التنمية والسياسة والثقافة وحقوق الإنسان.
قلق
ويبدو أن الدور الذي أصبحت الفضائيات العربية تقوم به على امتداد العالم العربي يتنامى باستمرار، وهو ما يجعل هذه الظاهرة تصبح عامل قلق وازعاج بالنسبة الى مهندسي العولمة الثقافية وقوى الهيمنة الإعلامية الغربية.
وبالفعل، فإنها ما لبثت أن استرعت أنظار الباحثين الغربيين واهتمامهم، وجعلتهم يسارعون الى رصدها وتحليل تأثيراتها وأبعادها على المجتمعات العربية، وهي أبعاد بات من باب المحقق أنها لا تسير دائماً في اتجاه المصالح الغربية في المنطقة. ولعل خير سند لما نقول ما كتب ولا يزال يكتب عن الموضوع حتى الآن في أشهر المنابر الإعلامية والسياسية في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.
بيد أن لهذه الصورة الإيجابية المشرقة لظاهرة انتشار الفضائيات في العالم العربي وجهاً آخر ينبغي عدم تجاهله ولا إغفاله. ذلك لأن ما يمكن تسميته بالصحوة العربية الجديدة، التي ساهمت تلك الفضائيات في نشأتها بفعالية وقسط وافر، لم تأت للأسف بمفردها، كما لم تكن وحدها الثمار المقطوفة من عصر البث الفضائي العربي في زمن العولمة الثقافية؛ فإلى جانبها يلاحظ أن كثيراً من أجهزة الاعلام العربي الرسمي، رغم تلبسها بحلل العهد الإعلامي الجديد، قد استمرت في ممارسة عاداتها القديمة في التبشير بالرأي الواحد، بل وفي فرضه أحياناً. ومن جهة ثانية غزت المجتمعات العربية ظواهر أخرى سلبية يمكن تصنيفها في خانة الاستلاب والتغريب الثقافي.
بخصوص المسألة الأولى، لا نبتدع جديداً عندما نعيد الى الذاكرة انه رغم استعمال كثير من الفضائيات العربية الجديدة لأحدث التكنولوجيات في ميدان الاتصال السمعي البصري الفضائي، فإن خطها الإعلامي لم يتغير كثيراً من حيث المضامين، عن النهج التقليدي الذي كان متّبعاً في العهد السابق، إلا في حالات نادرة جداً. ويبدو أن قناعة الملاحظين في هذا المجال تتقوى يوماً بعد يوم، بأن زمن الفضائيات المفتوحة الذي يتيح إمكانات افتراضية كثيرة للتحرر من الآلة الإعلامية الرسمية وللتفتح عن الأفكار الجديدة، لم يحل دون استمرار تلك الآلة في حصر اهتمام الإعلام في أخبار الحاكمين، وبالتالي في غض الطرف ما أمكن، عن الحياة الواقعية اليومية للمواطنين وانشغالاتهم وتطلعاتهم. حاصره كذلك في إنتاج وترويج خطابات سياسية فضفاضة ومنمقة، ومواصلة تدجين شعوبها وإلزامها بوجهة نظرها ذات البعد الواحد، وبالتالي إقصاء الآراء الأخرى المخالفة وتهميشها.
ولعل المستجد الأغرب في الممارسة الحالية لبعض تلك الأجهزة هو أنها أصبحت تساهم جهاراً في نشر خطاب يناهض ضمناً القيم العربية والإسلامية النبيلة المتوارثة عبر الأجيال، كقيم التشبث بالهوية الثقافية والدفاع عنها، والحق في المقاومة والذود عن الأوطان، وواجب التضامن القومي ونصرة الضعفاء، ولا نخال ذلك منها إلا سعياً خجولاً، وراء تبرئة الذمة أمام أقطاب العولمة، من شبهة شبح "الإرهاب" الذي بات في أعين هؤلاء لصيقاً بتلك القيم وبحامليه.
العولمة الثقافية
2 حاصل القول، إن في طليعة الأحداث الكبرى التي باتت تحرك عالمنا المعاصر ظاهرة العولمة الثقافية بالتأكيد. ومن شأن هذه الظاهرة أن تخلق في جميع أنحاء المعمور أوضاعاً وعلاقات ثقافية غير متكافئة يغلب عليها طابع التبعية والهيمنة. إن كثيراً من مكونات هذه الظاهرة، ومنها الفضائيات، عربية كانت أو غربية، وكذلك عوالم الانترنت الافتراضية، قد اجتاحت معظم المجتمعات العربية. وكانت لها في أغلب الأحيان انعكاسات ثقافية واجتماعية مفيدة لأنها تسير في اتجاه التفتح والتوعية بالحقوق وبالمضامين الانسانية الإيجابية للحداثة، وبأهمية التعرف على الثقافات المغايرة ومحاورتها.
ولكنها استطاعت من ناحية أخرى أن تجذب إليها قلوب السواد الأعظم من الأجيال الشابة في العالم العربي أكثر من غيرها. وكان وقع إغراءاتها ومؤثراته قوياً على تلك الفئات الى حد أن قسماً مهماً منها هام بالتحليق خارج فضاء القيم والتقاليد، وانجذب نحو المثير والشاذ في الحياة الغربية المعاصرة، وتباهى بمحاكاة النموذج الثقافي الغربي المعولم، سواء تعلّق الأمر بأساليب السلوك والتفكير أو بعادات الملبس والاستهلاك. فكان ذلك بمنزلة بوابة مفتوحة لاستشراء مظاهر التغريب الثقافي وسلوك اللامبالاة، ناهيك عن التعصب والتطرف المفضي أحياناً الى ظهور بوادر التشكيل في الهوية الثقافية الوطنية.
هل ينبغي الاكتفاء بإلقاء اللوم على العولمة وثقافتها المنتشرة بصفة خاصة عن طريق الانترنت والفضائيات، وتحميلها مسؤولية ما يحدث في المجتمعات العربية، وفي أوساط الشباب العربي من غزو ثقافي نوعي كثيف، أم إن الأمر يتطلب دراسة الظاهرة موضوعياً والبحث عن بدائل وقائية قد تساهم في التخفيف من وطأتها وتحويل بعض مكوناتها الى عناصر إيجابية؟ هل يجب مواصلة التفكير والتصرف وكأن جميع التهديدات المحدقة بهويتنا الثقافية آتية فقط من العولمة الثقافية، ومن اتساع دائرة التثاقف والتفاعل مع الثقافات الأخرى، وليس أيضاً من عوامل داخلية أخرى من بينها عدم وجود سياسات ثقافية وطنية فعالة وطموحة لدينا؟ إننا رغم ما أتينا على ذكره من مآخذ وانتقادات في حق العولمة الثقافة، ما زلنا نعتقد بأنها بالنسبة الى الشعوب العربية والاسلامية لا تخلو من جوانب وعناصر إيجابية تدفع الى الوعي واليقظة والمقارنة، والتعود على ممارسة النقد والمراجعة والتغيير.
لا نظن أن مناهضة العولمة ومقاومة تأثيراتها وانعكاساتها وهيمنتها الثقافية، تعني بالنسبة إلى الغالبية من المفكرين والمثقفين في العالمين العربي والإسلامي، رفض الحداثة ومكوناتها من عقلانية وتنوير وعلم وديمقراطية وحقوق الإنسان جملة وتفصيلاً، كما يذهب الى ذلك بعض المنظرين الغربيين الجدد لهذه الظاهرة. ورأينا أن الغالبية من مثقفينا ومفكرينا تعي أن المقاومة السليمة والمجدية للعولمة، هي تلك التي تعتمد على القيم الانسانية للحداثة ذاتها، وتقبل بها وتساهم في تطويرها لتكون حداثة عالمية بالفعل وذات وجه انساني حقاً. وهؤلاء لا يختلفون كثيراً، بحسب رأينا، إلا في ما ندر، في مسألة لزوم الفصل بين المكتسبات والقيم الإنسانية للحداثة، التي يتوجّب على البلدان العربية الاستفادة منها من أجل التحديث والتنمية الاقتصادية والتطور الاجتماعي، هذا من جهة، والفكر السياسي للعولمة باعتبارها نظاماً غير مسبوق للهيمنة في مختلف المجالات من جهة أخرى.
إن جوهر مشكلات مفكرينا ومثقفينا العرب مع الغرب عموماً، ومع العولمة وهيمنتها الثقافية بشكل خاص، يكمن أولاً وأخيراً في رفض الاحتلال والظلم والهيمنة والتبعية، وفي نشدان الحق والعدالة والإنصاف. ولا يساورنا شك في أن الذين يتظاهرون منهم، أو يعبّرون بين الفينة والأخرى عن الاستنكار والاستياء ضد سياسات الغرب وعولمته، ويكنّون نوعاً من العداء لقيم الحداثة الغربية، هم في الحقيقة أقل كثيراً من أولئك الذين ينمّون تلك الكراهية عندهم بسبب سياسة التمييز وازدواجية المعايير، والهيمنة والظلم والاقصاء والتيئيس، التي تمارسها في واضحة النهار الدولة العظمى القائدة لدفّة عالم اليوم.
ومن حق هؤلاء أن يناهضوا الى جانب دول وشعوب كثيرة، مظاهر الحيف والظلم والازدراء لثقافاتهم، وأن يرفضوا أن يُفرض على شعوبهم "التقدم والحداثة" قسراً وتحت راية العولمة الثقافية، التي تصبح في هذه الحالة مرادفاً لاستعمار جديد متعدد الأبعاد والأهداف والوسائل. كما أن من حقهم أن يرفضوا أن تظل أراضيهم محتلة، وشعوبهم متخلفة وخاضعة ومراقبة، ومتحكماً فيها عن بعد، وحكامهم يتظاهرون بالانصياع لدعوة احترام الديمقراطية وتطبيقها الصوري، وهم يمارسون الاستبداد في الواقع وعملياً، وبتزكية من أقطاب العولمة أنفسهم.
المقاومة بالحداثة
نحن نذهب الى أن مقاومة العولمة الثقافية يجب أن تتم بأسلحة الحداثة ذاتها، وأن تتوجه بالأحرى الى نزعاتها العدوانية والاستغلالية، وإلى مواقفها المهمّشة للمجتمعات النامية والمحتقرة لثقافاتها، والمحوّلة لها الى أذناب وأسواق للاستهلاك، والملوثة لأجواء العالم المعاصر بكل ما تحمله كلمة تلوث من معان. وفي تقديرنا أن هذا الضرب من المقاومة نفسه ينبغي له، كي يكون ناجعاً، أن يندرح في اطار عالمي أوسع، أي أن يتم بتعاون مع الحركات التي تقاوم العلومة اليوم على الصعيد العالمي، طموحاً الى تحقيق عولمة أخرى بديلة تكون أكثر انسانية، في مجالات الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للشعوب، وفي مجالات حماية البيئة وتحقيق السلم العالمي(1).
والحق نقول، إن الأوضاع الراهنة في العالم المعاصر لم تعد تسمح إطلاقاً بأن تستمر الأقطار والدول المنتمية الى الثقافة العربية الاسلامية في تغذية الوهم لديها، بأن لها الخيار في الانخراط في التيار العام للعولمة. أو السير في اتجاهه المعاكس. فهذه الأوضاع بالذات، أصبحت تلزمها بضرورة الاقتناع بأن ليس من مصلحة ثقافتها أن تنزوي، أو أن تبقى في معزل عن الأحداث الكبرى التي تحرك عالم اليوم، إلا إذا أصبح من سمات هذه الثقافة الحلم والهذيان والجمود، كما يدعي ذلك الخصوم والمناهضون لها. وفي طليعة تلك الأحداث الكبرى التي تحرك عالم اليوم توجد بالتأكيد ظاهرة العولمة الثقافية، التي رغم جميع ما قيل عنها من انتقادات، فإنها لا تخلو من امكانات تدفع الى الوعي واليقظة وممارسة النقد، والمراجعة والتغيير.
ليس في وسعنا إلا أن نشاطر رأي فئة مستنيرة من مثقفينا، ألمحنا اليها من قبل، ترى أن ظاهرة العولمة، والعولمة الثقافية ذاتها، ليست سيرورة تاريخية حتمية لا رجعة لها، ولا هي بنموذج عالمي نهائي للحياة، نشأ نتيجة تفاعل طبيعي بين الثقافات العالمية، بل هي بالأحرى، وعلى العكس من ذلك كله، نظام جديد من العلاقات بين الثقافات، نشأ في سياق صراع التكتلات الرأسمالية الكبرى على الهيمنة العالمية. وبالتالي، فإن أقطارنا مثل غيرها من بلدان العالم، ليست متحررة من مواجهة انعكاسات هذه الظاهرة عليها.
غير أننا حريصون في الوقت ذاته على تأكيد أن المقاومة السليمة والناجعة للتأثيرات السلبية للعولمة الثقافية، لا يمكن أن تختزل في حركة الارتداد الى "هوية ثقافية" مرفوعة الى درجة المثال والمطلق، والتقوقع فيها؛ فالمقاومة في هذه الحالة ستؤول الى الفشل لا محالة، إذا ما هي جعلت من الرغبة في عدم التغيير، وفي الانسحاب من المنافسة الدولية التي يفرضها العصر، محركها وحافزها الرئيس؛ واذا ما هي اقتصرت فقط على تبني موقف يكتفي بتحويل الوعي بالحاضر بكل ثقله وتشعباته الى مجرد شحنات قوية من الحنين الرومنسي الى الماضي. فمن المهم جداً بالنسبة إلينا أن نفهم آليات الهيمنة الجديدة، وأن نسعى من خلال امكاناتها ذاتها الى العمل على تغيير أو تعديل أثرها فينا وفي ثقافتنا، الأمر الذي يعني في نهاية المطاف، ضرورة التسلح وبأدوات ثقافة العولمة ذاتها، في مجالات العلم والمعرفة والاقتصاد والسياسة والحقوق.
إن الوعي بأهمية الحقبة التاريخية التي تجتازها المجتمعات البشرية اليوم، واستيعاب واقع العصر بمختلف أبعاده وتوجهاته، باتا يحتمان علينا الإيمان بحقيقة أصبحت تفرض نفسها باستمرار: إن الحالة السوية والطبيعية لأي ثقافة وأي هوية ثقافية، هي أن تظل قادرة على الانفتاح والتطور والاغتناء والعطاء، وعلى بناء جسور التواصل مع الثقافات العالمية. ولا ننسى ما قلناه مراراً في هذا السياق، بأن تشكيل الثقافة العربية الاسلامية وتجددها قد تحققا دائماً في تاريخنا بفضل عاملين أساسيين: صحوة وإرادة داخلية قوية لبعثها وتجديدها وإعادة بنائها، ورياح تأثير خارجي منبعثة من الالتقاء والتفاعل مع ثقافات أخرى؛ رياح لم تكن مصادرها في أغلب الأحيان لا عربية ولا اسلامية.
والحق أن حديثنا عن هويتنا الثقافية سيظل وهماً مؤذياً، إذا لم يكن تصورنا لهذه الهوية طموحاً ومنفتحاً على القيم والمكتسبات الانسانية، وعلى جميع ما هو متاح للبشرية في عالم اليوم، من ثمار المعرفة والعلم والتكنولوجيا والفكر والآداب والفنون والحقوق. سيظل وهماً مؤذياً اذا لم يدعم بالايمان بضرورة انجاز انتقال ثقافي حاسم لتجاوز روح الاتكال والاستهانة بعامل الزمن، والمسارعة الى البحث عن أنجع السبل للتعامل باقتدار وبندية مع هذه الظاهرة الدولية القوية. ولعل الأهم في ذلك كله أن يتخلى عن التفكير والتصرف، وكان جميع التهديدات المحدقة بهويتنا الثقافية ناجمة فقط عن العولمة الثقافية وعن اتساع دائرة التثاقف والتفاعل مع الثقافات الأخرى.
3 قبل ختام هذه الفقرة، يجمُل بنا التوقف لحظة قصيرة للتعبير عن تقديرنا وإعجابنا الكبيرين بموجات التغيير والتحرر التي عمّت العالم العربي، بداية من عام 2011، خلال أحداث ما غدا موصوفاً بربيع الثورات العربية، نظراً الى ما لذلك من علاقة وثيقة بإشكالية الهوية موضوع هذا الفصل. لقد اتضح لدينا، من خلال متابعة أيام هذا الربيع، أن ثمة قواسم مشتركة بين الأقطار العربية التي عاشت انتفاضاته؛ قواسم يمكن اجمالها في العناصر التالية: استمرار احتكار السلطة وتوريثها من دون ترك أي فسحة لتداولها الديمقراطي؛ غياب الحقوق والحريات والعدالة الاجتماعية؛ التناسل المتفاقم لظاهرة انتشار الفساد في جميع مرافق الدولة؛ الاستخفاف بالهوية الوطنية والقومية.
لقد أتيح لنا أن نلمس عن كثب، في جميع فصول موجات التغيير المذكورة حتى كتابة هذه السطور، وعند جميع الفئات المشاركة فيها، وجود ارادة قوية للتعبر، بشعارات نوعية مبتكرة، عن الرغبة في التحرر ومواكبة تيارات العولمة والالتحاق بمسيرة التغيرات العالمية، خاصة في مجالات الحقوق والحريات ونمط الحياة الجديدة. تجلى لنا ذلك بوضوح في المكانة المتميزة التي احتلتها مطالب مثل: الحرية، الكرامة، العدالة الاجتماعية، الديمقراطية، حقوق الانسان، اسقاط نظام الاستبداد والفساد. وهذا يعني من جملة ما يعنيه أن ثمة علاقة جلية بين هذه الانتفاضات والامكانات التي بات عصر العولمة يتيحها: فالشعوب اصبحت أكثر وعياً وطموحاً يفضل ثمار ثورة المعرفة وتكنولوجيا المعلومات والاتصال الجديدة، التي أمن تسخيرها في النضال من أجل مناهضة القمع وخدمة قضايا التحرر والحرية.
في هذا السياق، بات من واجبنا التنويه بكون أجيال الشباب العربي الثائرة بجميع أطيافها، امتكلت ايماناً قوياً بإمكان التغيير الشلمي للأنظمة المستبدة، وانجاز حلم التحرر السياسي والاجتماعي، اعتماداً فقط على مكونات المجتمع المدني، وعلى فعالياتها المتمثلة أساساً في التظاهرات الاحتجاجية والمسيرات والاعتصامات السلمية، بمعزل عن الأدبيات الثوروية الفضفاضة. لقد تحلت تلك الأجيال بروح نقدية متفتحة، تميزت بصفة خاصة في إعلان فقدان الثقة في الاعلام التقليدي المدجّن، والايمان بدور الاعلام الجديد وفعاليته في مجالات التوعية بالحقوق والتعبئة، والنشر الواسع لأفكار التغيير، وكسر طوق الاحتكار الاعلامي الرسمي، وفضح الانتهاكات وأشكال التعتيم.
وقد كان من ثمار الانتفاضات العربية الجديدة من أجل الحرية والكرامة أن تهافتت الأسطورة التي اعتمد عليها بعض أنظمة الاستبداد العربي في استمرار حكمها، والمتمثلة في طابعَي "الاستثناء" و"الخصوصية" اللذين تتمتع بهما، وذلك بفضل الانفتاح الواضح للشباب الذي قاد تلك الثورات على القيم الانسانية الكونية، كما يعود اليها الفضل بالتأكيد في سقوط أسطورة أخرى عن الشعوب العربية والاسلامية، طالما روّج لها الغرب وأجج بها نار أطروحة الصدام؛ أطروحة تزعم أن هذه الشعوب ستظل مستسلمة وعاجزة تماماً عن التغيير والانتقال الى الديمقراطية، وأن حكامها محصنون ضد انتفاضات شعوبهم، وباقون وذووهم في سدة الحكم خالدين مدى الحياة.
واليوم، أصبح في مقدورنا القول ان في وعي شباب الربيع العربي تنبثق معالم رؤية جديدة الى العالم، في طريقها لصوغ سمات غير مسبوقة للهوية الثقافية العربية، نرجح أن اسم العرب فيها لن يبقى مقترناً لدى دول الغرب، فقط بانتاج النفط، وبالتطرف، وبالهجرة السرية. ربما سيقدر له أن يرتبط من الآن فصاعداً، ولأول مرة في التاريخ الحديث والمعاصر، بقيمة نوعية جديدة هي ثورة الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية(2).
ولكن الواقعية تفرض علينا التروي وعدم التسرع في الحكم، وخاصة ألا نكون سذّجاً، فالطرق المؤدية الى تحقيق مضامين القيم المذكورة على أرض الواقع العربي، وتوطينها في أقطارنا، لن تكون معبّدة دائماً ومحفوفة بالورود وحدها. بيد أن علينا رعاية الأمل والتفاؤل دائماً، فما حدث انجاز ضخم وغير مسبوق في تاريخنا الحديث والمعاصر. ومهما تكن طبيعة الثمار التي أسفر عنها الربيع العربي حتى الآن، أكانت اسلامية في توجهها وسماتها، أم ثوروية حداثية وعلمانية، أم مزيجاً من هذا وذاك، فالأمر المؤكد في أي حال هو أن احتمالات التقهقر الى عهود الاستبداد والفساد تضاءلت في حد الاستحالة.
هوامش
منذ حوالى عقد من الزمن، بدأت تظهر، على الصعيد العالمي، مجموعة من الحركات الاجتماعية والسياسية ومنظمات المجتمع المدني، تنادي بضرورة مقاومة العولمة الليبرالية، والنضال من أجل تحقيق "عولمة بديلة". ترفع هذه الحركات شعار "نحو عالم أفضل ممكن"، ومن مبادئها الدفاع عن حق الشعوب في تقرير مصيرها، وعن قيم الديمقراطية وحقوق الانسان والعدالة الاقتصادية، ومناهضة الحرب، وحماية البيئة. وقد اشتهرت هذه الحركة بتنظيم تظاهرات عالمية كبرى بمناسبة انعقاد مؤتمرات عالمية حول الاقتصاد والتجارة العالمية، وحول المناخ والبيئة. وكان آخرها مؤتمر القمة العالمية للمناخ في كوبنهاغن، كانون الأول/ديسمبر 2009، ومؤتمر القمة العالمية للمناخ في كانكون بالمكسيك، كانون الأول/ ديسمبر 2010.
(2) للتذكير: الانتفاضة الأولى انطلقت من تونس في منتصف كانون الأول/ ديسمبر 2010، وتوجت بسقوط النظام ليلة 14 كانون الثاني/يناير 2011. ثم لحقت بها مصر بعد ذلك ابتداء من 25 كانون الثاني/ يناير، وتوجت بسقوط النظام في 11 شباط/فبراير 2012، وتتالت بعد ذلك انتفاضات عربية أخرى، لعل أهمها ثورة 17 شباط/فبراير في ليبيا، التي بدأ مقاتلوها معركة طرابلس يوم الأحد 21 آب/أغسطس 2011 وانتهت بمقتل معمر القذافي في 20 تشرين الأول/أكتوبر 2011، بينما كنا بصدد وضع اللمسات الأخيرة، لهذا الكتاب ثم انتفاضة اليمن المعقدة المسار والنتائج، وانتفاضة سورية التي لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا. رغم حداثة ولادة هذه الثورات، فقد صدرت حولها كتب مهمّة، نذكر منها: الربيع العربي... الى أين؟ "أفق جديد للتغيير الديمقراطي، تحرير عبد الإله بلقزيز (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2011).
Pierre Puchot, Tumisie. Une Révolution Arabe, avant propos dEdwy Plenel: préface de Radhia Nasraoui: postface de Saber Mansouri (Paris Editions Galaade.2011), et Mathieu Guidèred, Le Choc des révolutions arabes. Frontières (Paris: Editions Autrement, 2011)