الربيع العربي وعملية الانتقال الديموقراطية

يعيش العالم العربي. منذ أواخر عام 2010، وسط موجة من الانتفاضات والثورات والحراك الغني الهادف الى اسقاط التسلط بنماذجه التعددة، والدخول في عملية انتقال الى أنظمة ديمقراطية تتجاوز التسلط، ولو بنجاحات نسبية واخفاقات متوقعة ومتعددة ومختلفة حسب أوضاع هذه البلدان ومستوى قدرات الجمهور والتكتلات الاجتماعية والسياسية الطامحة الى الديمقراطية.

بادئ ذي بدء، لا بد من نقاش مسألة أساسية تتعلق بطبيعة ما يجري وكيف وهل هو حراك نحو الانتقال الى الديمقراطية؟.

لقد مر زمن طويل على اعتبار ان العالم العربي شكل استثناء الموجات الديمقراطية العالية، وآخرها الموجة الثالثة في ثمانينات القرن المنصرم. ثم كانت هذه الأحداث غير المتوقعة والصادمة في العالم العربي، كرمزية احراق محمد البوعزيزي نفسه في تونس أواخر عام 2010، احتجاجاً على الأوضاع المعيشية من جهة، وتسلط أجهزة الدولة من جهة أخرى.

وإذا نظرنا بتمعّن الى خارطة الحراك الاجتماعي والسياسي في العامين المنصرمين فإننا أمام موجة رابعة للديمقراطية يمكن الاستدلال عليها بسقوط أنظمة تسلطية عبر ثورات جماهيرية في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن، مع تغيّر رأس السلطة على الأقل. الى تغيير أعمق طال الدستور والمؤسسات التمثيلية. وتتجه التطورات بشكل متسارع للإطاحة بالنظام الأكثر دموية وعنفاً في تسلّطه وهو النظام السوري. من جهة أخرى، جرى حراك شعبي اهتزّ له نظام مملكة البحرين ولكن هذا الأخير قمعه بشدة وقمع المطالبات الاصلاحية معه، مستعيناً بالدعم السعودي، وما زال الصراع مفتوحاً على المستقبل؟. لقد أدخلت بعض الاصلاحات المحدودة وتم تغيير الحكومات تحت ضغط التحركات الشعبية التي اندلعت في كل من المغرب والأردن وسلطنة عمان وموريتانيا والكويت. أما في الجزائر والعراق والسودان فقد تم قمع تحركات شعبية عديدة مطالبة بالاصلاح أو التغيير. ووصل صدى هذه التحركات الى السعودية ولو على نحو خجول فقامت الحكومة بتقديم "اعطاءات" سخيّة بلغت أربعين مليار دولار من التقديمات الاجتماعية المختلفة طمعاً بتهدئة الأمور. وقرر الملك عبد الله بن عبد العزيز في شباط 2011، عبر برنامج أطلقته وزارة العمل السعودية، تقديم اعانات للعاطلين عن العمل المسجلين في البرنامج الذي بلغ عددهم نحو 700 ألف سعودي وسعودية، وذلك بصرف اعانات لكل منهم قدرها 533 دولاراً شهرياً، حتى ايجاد فرصة وظيفية.

لا شك أن هذا التنوع في التجارب المختلفة، على اختلاف الأنظمة العربية ومستوى استخدامها للقوة العارية أو الأساليب السلمية الحوارية وتقديم التنازلات، أو اللجوء الى منظومة اقليمية للدفاع عن النظام وتأخير الاصلاحات، شكل مصدر غنى لكثير من الباحثين حول أساليب الانتقال الى الديمقراطية فهناك الثورة السلمية (تونس ومصر) والثورة المسلحة (ليبيا)، والاشتباك الأهلي المسلح مع نظام التسلط (على شكل حرب أهلية) (سوريا) والتدخل السياسي الاقليمي لانتقال السلطة أو رأس السلطة وتأمين اطار للحوار الداخلي حول استكمال الانتقال الى الديمقراطية (اليمن). كذلك هناك حالات التجاوب مع المطالب الاصلاحية ومحاولة تطويعها للحفاظ على النظام الملكي مثل حالة المغرب والى حدّ أقل حالة الأردن وسلطته عمان. وهناك كذلك الاستمرار في مقايضة مطالب الحرية والديمقراطية بتقديمات اجتماعية في الدول النفطية الغنية في دول الخليج في محاولة لتأجيل البحث في الديمقراطية أو تقنينه والسيطرة عليه من قبل الأسر الحاكمة.

مع الأسف، نذكر أيضاً القمع المستند الى القوة العارية والأجهزة الأمنية وكافة أدوات التسلط القائم في وجه المطالب الاصلاحية والديمقراطية في كثير من البلدان، والذي بلغ ذروته في الجزائر والعراق والسودان (دون احتساب حالتي سوريا والبحرين كما أسلفنا)، رغم اعلان انتهاء حالة الطوارئ في الجزائر، وإعلان رئيس وزراء العراق نور الدين المالكي أنه لن يترشح لولاية ثالثة، وكذلك الرئيس عمر حسن البشير بعد انتهاء ولايته عام 2015.

بتلخيص مكثف، تتجه كل المنطقة العربية نحو الخروج من نظام متكامل في أشكال متنوعة من التسلط، أو من باراديم التسلط الذي يحكم المنطقة لعقود طويلة وبدأ يسقط مع هذه الانتفاضات الشعبية، لتدخل المنطقة العربية في مرحلة انتقالية طويلة ومعقدة تسعى خلالها الى تلمس الديمقراطية. لكنها مرحلة مليئة بالصراعات التي ستطال كل الأنظمة بأوقات ودرجات مختلفة، وستشمل كل المنطقة، رغم صعوبة الحسم في مآل الأمور نتيجة التعقيدات المعروفة والمختلفة حسب أوضاع هذه البلدان التي سنعرض لها لاحقاً.

[ لماذا الآن؟

لا شك ان موجة التحرر من التسلط في المنطقة العربية قد تأخرت وكان لهذا التأخر أسبابه. ولدى البحث في سؤال لماذا انطلقت أواخر عام 2010 ولا تزال تتفاعل، فإننا نقع على تفسيرات تشمل بعض أو كل العناصر التالية: التغيير الذي طرأ على دور الدولة وأدى الى تراجع وظيفتها "الرعائية" في المجالات الاجتماعية، وارتفاع اسعار الغذاء، والأزمة المالية العالمية، فضلاً عن أثر الثورة المعلوماتية وتغير الثقافة السياسية لدى فئات واسعة من الشباب خصوصاً، الى أثر التغيير في العراق والثورة الخضراء الايرانية. ولكن ما هو بنيوي وأكثر اقناعاً انما يعود الى ظاهرة ازدياد اعداد فئة الشباب المتراوحة أعمارهم بين 15 و35 سنة الذين لعبوا الدور الرائد في هذه التحركات. وتشير الاحصاءات الى ان عدد هذه الفئة قد قفز من حوالي 40 مليونا في عام 1980 الى أكثر من 90 مليونا عام 2010". والأهم أن معدل العمر في العالم العربي هو 22 سنة مقارنة بمعدل العمر في العالم وهو 28 سنة، وتشير التقديرات الى ان حوالي 60 في المائة من السكان في المنطقة العربية هم ما دون سنة 25.

ينعقد العامل الديموغرافي على عامل اقتصادي اجتماعي أدّى تفجير ثورة الشباب. ذلك أن وتيرة تزايد فئة الشباب كانت دوماً أسرع من وتيرة تطوير الموارد وتأمين فرص العمل. هذا الواقع فاقم معدلات البطالة في أوساط فئات واسعة من المتعلمين وخريجي الجامعات خصوصاً مع التوسع الكمي في التعليم الذي بدوره لم يوفر نوعية تعليم جيدة للجميع. وبحسب تقارير الأمم المتحدة، وصلت نسبة البطالة بين الشباب في المنطقة العربية الى 24 في المائة في الفترة الممتدة بين عامي 2005 2008، وهو ما يربو على ضعف المتوسط العالمي الذي بلغ 11,9 في المائة في الفترة عينها. كما تشكل شريحة الشباب حوالي 50 في المئة من اجمالي معدّل العاطلين من العمل في المنطقة العربية.

ويكمن أحد الأسباب الرئيسة لذلك في صعوبة ايجاد الوظائف الملائمة بعد الانتقال من الدراسة الى العمل، لا سيما لدى خريجي الجامعات. ولقد بيّنت دراسة وضعها برنامج الأمم المتحدة الانمائي في مصر، اعتمدت على بيانات واحصاءات رسمية لعام 2010.

ان معدل البطالة يزيد طردياً مع نسبة التعليم فيصل الى 14,7 في المائة لدى خريجي التعليم الثانوي ويرتفع الى 25,6 في المائة لدى خريجي الجامعات. يزيد معدّل البطالة هذا بين الشابات فيبلغ حوالى 35 في المائة. هذا الواقع يعكس كذلك التحيز الاجتماعي الموروث في الثقافة السائدة ضد المرأة وعوضاً عن اعتبار الزيادة في معدل المشاركة في قوة العمل فرصة للتنمية والنمو الاقتصادي، ثم التعامل معها كنمو مقلق. وفيما شهد العالم العربي أعلى معدلات نمو القوى العاملة تجاوزت نسبة 3 في المائة، لم يتغير كثيراً معدل المشاركة في قوة العمل الذي ما زال يعتبر الأدنى في العالم، خصوصاً مع تدني معدلات مشاركة المرأة العربية.

وتشير التقديرات الى حاجة الاقتصادات العربية الى خلق 50 مليون فرصة عمل بحلول عام 2020 بغية استيعاب الشباب المقبل على سوق العمل. وقد حصل هذا خلال العقود الثلاثة الأخيرة حيث تراجعت معدلات الانجاب الى 3,1 أطفال لكل امرأة والى حوالى طفلين في كل من تونس ولبنان وبقيت بحدود 3 الى 3,5 أطفال في بلدان مثل مصر وسوريا والأردن. أما أعلى معدل فيصل الى 5,9 أطفال في اليمن.

إذن لم تختلف المنطقة العربية عن باقي المناطق، بالنسبة الى حصول مزيج من التمدن الزائد، ولو مصحوباً ببناء العشوائيات وترييف المدن كما في العديد من الدول النامية، والانتقال الى اقتصاد الخدمات دون تطوير الاقتصاد المنتج، اضافة الى التوسع الكمي في التعليم، وتأخر سن الزواج، وارتفاع تكاليف الحياة وبالتالي انجاب عدد أقل من الأولاد. ترافق كل ذلك مع ضعف قدرات الدول العربية بعد انحسار الطفرة النفطية عن مواصلة تأمين الدعم الاجتماعي للمواد الغذائية والسكن وخدمات الرعاية الصحية والتعليم المجاني وغيرها. وترافق ذلك أيضاً مع اعتماد هذه الدول سياسات انسحاب تدريجي من تلك الوظائف وافساح المجال أمام المجتمع الأهلي كي يقوم بدور أوسع وأكبر تأثيراً، خصوصاً الشبكات المنظمة التي بناها الاسلام السياسي في مختلف تشكيلاته لا سيما في الأرياف وأحزمة الفقر والعشوائيات في المدن.

ويمكن اضافة عوامل أخرى تختلف بالدرجة من دولة الى أخرى في المنطقة العربية نذكر منها: اصطدام الفئات المحبطة من الشباب بواقع تفشي الفساد المعمم، وبتخلف النظام السياسي وتسلطه، واستشراء استثمار مواقع المسؤولية في الدولة لصالح المنفعة الخاصة بفئات اجتماعية ضيقة، اقتصرت على العائلة المحيطة بالرئيس في أنظمة مثل تونس وسوريا وليبيا، ولا يختلف المشهد كثيراً عنه في مصر. أدى هذا الأمر الى تعاظم القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة في التغيير، وإن لم تبادر في ذلك، مثل أصحاب رؤوس الأموال في القطاع الخاص من تجار ومستثمرين صغار وحتى بعض الصناعيين والمصرفيين الذين تضرروا من ضيق القاعدة الاجتماعية للنظام، فالتحقوا أو أيدوا التحركات الشعبية التي بادر اليها الشباب، ناهيك عن فئات اجتماعية متضررة اصلاً مثل العمال وذوي الدخل المتدني والعاملين في الاقتصاد الموسمي والموازي وصولاً الى العاطلين من العمل عموماً، ما سمح باتساع القاعدة الاجتماعية لهذه الثورات. وقد برز أيضاً عامل جديد له علاقة بتأثير الثورة المعلوماتية وانفتاح وسائل الاتصال على توفير معرفة واسعة بالعالم وبالقيم الانسانية، أدى الى تغير الثقافة السياسية عند فئات واسعة من الشباب المتعلم لتصير ثقافة واقعية وغير ايديولوجية (من الايديولوجيات التي كانت سائدة وتبرّر استمرار الأنظمة التسلطية)، تتبنى مطالب معنية بالحرية والخبز والكرامة والعدالة الاجتماعي انعكست في معظم الشعارات التي رفعت مع بدء التحركات في مصر وتونس واليمن وليبيا وغيرها. الى ذلك لا بد من الاشارة الى ان التنوع الغني الذي تقدمه التجارب المختلفة والأوضاع المتفاوتة في المنطقة العربية يدفع الى التركيز على الظواهر المشتركة والظواهر المختلفة قبل الدخول في استشراف آفاق المرحلة الانتقالية وخصائصها، كما شهدت تجارب دول أخرى وكما تظهر المؤشرات الأولية لبعض تجارب الدول العربية.

[ الظواهر المشتركة

لعل ابرز ما هو مشترك في الحراك الاجتماعي العربي الذي تسبب بظاهرة لتأثير المتدحرج أو تأثير الدومينو، هو اشتراك الجميع في التطلع نحو الحرية عبر اسقاط الأنظمة التسلطية وصولاً الى نوع من احلال الديمقراطية وضمان الحريات الواسعة والسعي لتحقيق العدالة الاجتماعية. وكما سلف ذكره، كان لافتاً هذا التوحد في الشعارات الواقعية والمتجذرة محلياً ووطنياً بالمطالبة بالحرية والكرامة والخبز والعدالة الاجتماعية.

كان واضحاً ان فئة الشباب اضطلعت بالدور الأبرز في اطلاق وتنظيم التحركات الشعبية، التي تجاوزت العفوية بعد وقت من انطلاقتها واكتسبت قدرة على الضبط والتنظيم، ما سمح لقوى سياسية منظمة كانت تراقب التحركات في البدء، (بعضها قوى من المعارضة التقليدية التي تكلست واصبحت هامشية، مثل معظم قوى المعارضة التقليدية المصرية، وحتى قوى اسلامية ترددت في البدء بالانخراط) بركوب موجة الثورة الا ان دخول قوى الاسلام السياسي بشبكاته الاجتماعية الواسعة وقدراته التنظيمية كان مؤثراً وحتى مهيمناً في بعض الحالات، وفي المرحل اللاحقة. في هذا الصدد، لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً بارزاً في توفير المعلومات والحشد والتنظيم واثارة الرأي العام المحلي والاقليمي والعالمي. ورغم تفاوت دورها بتفاوت توفرها وانتشارها، الا انها حضرت دائماً كعامل مهم وأساسي للحشد والتنظيم لا سيما في الاعلام، على غرار ما حصل في مصر وتونس واليمن وليبيا وسوريا والبحرين وغيرها من البلدان.

وقد وقع عبء بدء التحركات وانطلاقها على عاتق فئات شابة جديدة وحديثة العهد بالعمل السياسي المنظم، تملك خطاباً جديداً وشعارات جديدة تعبّر عن تطلعات مشتركة توحدها ضد غول التسلط وتطمح الى نظام أكثر ديمقراطية وعدالة وحداثة.

إلا ان تطور سير الامور في معظم هذه البلدان أدخل قوى سياسية منظمة الى الحراك أبرزها القوى الاسلامية وحركة الاخوان المسلمين بتنوعها وفروعها المختلفة في مصر وتونس واليمن وسوريا والى حدّ ما ليبيا. ورغم أن الدور الأولي الذي اضطلعت به هذه القوى الاسلامية كان محدوداً الا ان حسن تنظيمها وشبكاتها الواسعة المنتشرة والتعاطف الذي حصلت عليه نتيجة وقوفها الدائم في صفوف المعارضة السياسية لأنظمة التسلط وتعرضها للقمع والعنف والسجن، ذلك كله ساهم في انتشار واتساع دورها في عملية الصراع، وفي استثمارها لهذا الحضور بأشكال ودرجات متباينة في الانتخابات التي تلت هذه المرحلة، وخصوصاً وأن الشعب منحها فرصة الاختبار.

وهكذا تمكن حزب "العدالة والحرية"، وهو الاسم السياسي لحركة الاخوان المسلمين في مصر، من الحصول على أكثر من 45 في المائة من مقاعد مجلس الشعب المصري بعد الثورة ومن ثم تمّ انتخاب مرشحه رئيساً للجمهورية. كما نجحت "حركة النهضة التونسية" بالحصول على نسبة مماثلة، والدخول في ائتلاف مع القوى الأخرى الليبرالية والعلمانية التي نجحت بفضل اعتماد النظام النسبي في الانتخابات، وتمكنت بالتالي من تشكيل حكومة ائتلافية بقيادتها. وجاءت نتائج انتخابات ليبيا مثيرة من حيث انها حسرت دور الاسلاميين وأعطت أغلبية لليبراليين في الانتخابات التي اعتمدت لوائح انتخابية على الصعيد الوطني.

بكل الأحوال، تعطي الصورة العامة انطباعاً مزدوجاً. فمن جهة أولى، سقط منطق التخويف من الاسلام السياسي العنفي المتطرف الذي استخدمه العسكر لتأييد التسلط في المنطقة العربية، أي ما سمي حالة الجزائر وتكرر في مصر في تسعينيات القرن المنصرم، ومن جهة أخرى، برز اسلام سياسي معتدل الخطاب في الظاهر، يقبل باصول اللعبة الديمقراطية، الى ذلك ظهرت أنواع عديدة منها المتطرف ومنها المتخلف، اضافة الى خطاب مزدوج، ما يفتح الباب على صراعات عديدة ومعقدة، ليس فقط مع التيارات الليبرالية والعلمانية بل كذلك فيما بين الأطراف الاسلامية نفسها، كما هو حال الصراع، الذي نشب بين السلطة المصرية والاسلام المتطرف في سيناء. أو الصراع مع بعض الفصائل الاسلامية في ليبيا. وكذلك الصراعات التي فتحها وما زال السلفيون في تونس. في كل الأحوال، هناك صراع مفتوح مع الاسلام السياسي حول أسس الدولة والدستور والمشروع الحضاري الممكن والنظام العام والقوانين والثقافة والتعليم والمرأة ودورها، وسيبقى مفتوحاً في هذه المجتمعات لعقود من الزمن.

هناك ظاهرة مشتركة، وان بتفاوت، تتمحور حول وجود مناخ اقليمي ودولي، اما مشجع للحراك الاجتماعي وداعم له، أو متعاطف معه، أو محيد نفسه عن آثاره ونتائجه بحسب تعقيدات الوضع التي سنعرض لها في القسم اللاحق. ولا شك ان تراكماً تاريخياً قد حصل في المنطقة بغية التصالح مع منظومة من القيم والأهداف الانسانية التي تتضمنها شرعة حقوق الانسان والمطالبة بالحرية والديمقراطية. وكان للمجتمع المدني والمثقفين، بعيداً من الأنظمة والأحزاب الرسمية، دور في صوغ خطاب أكثر انفتاحا على أوروبا والغرب عموماً، وأكثر تواصلاً معهما. ولقد شهدت الولايات المتحدة أيضاً تغيراً في خطابها في عهد الرئيس أوباما الذي ما زال يحاول تأسيس تواصل يحاكي تطلعات المنطقة العربية نحو الحرية والديمقراطية، ولو ان الانحياز الأميركي التقليدي الى اسرائيل يبقى ملقياً بثقله على مسعى أوباما. فموقف اسرائيل الرافض والمتحفظ والخائف من التغيير أثر ويؤثر سلباً على تطور هذا الحراك العربي، لا سيما بتأثيره على الادارة الأميركية (اضافة الى تأثير سنة الانتخابات الرئاسية والادارة الجديدة) في ما يتعلق بموضوع اسقاط النظام السوري بالتحديد أكثر من غيره من بلدان المنطقة.

[ الظواهر المختلفة

لقد برز من تناول التجارب المختلفة ومساراتها أن ثلاثة عوامل أساسية ميزت الاختلاف من حيث نجاحه وفشله او تعثره أو حتى دخوله تعقيدات تحرفه عن مساره. هذه العوامل الثلاثة هي: مدى وجود وتأثير الانقسامات العمودية في المجتمع (انقسامات اثنية أو قبلية أو طائفية)، مدى قدرة نظام التسلط على استغلالها لصالحه من جهة أو أثرها السلبي في استدعاء تدخلات اقليمية خارجية على حساب التغيير الداخلي. ويتعاظم أثر هذا العامل اذا كان منعقداً أصلاً في كثير من البلدان على العامل الثاني الرئيسي المتعلق بتركيبة نظام التسلط، ألا وهو الدور الذي يضطلع به الجيش والقوى الامنية في الدفاع عن النظام او التزامهم الحياد في هذا الصراع. أما العامل الثالث فهو تاريخي ويتعلق بمدى توفر شرعية تقليدية تاريخية للأنظمة، أو بمدى تماسك المواثيق الاجتماعية المعقودة قبلياً أو طبقياً، مثل تلك المعقودة مع عائلات التجار في بعض دول الخليج. وقد تبين ان هذه الأخيرة، ما زالت فاعلة في الأنظمة الملكية لا سيما في المغرب والأردن والى حد ما في بعض دول الخليج. في المقابل يمكن القول ان شرعية الأنظمة التسلطية، بطابعها العسكريتاري والأمني، ومع انحسار قاعدتها الاجتماعية الى جماعة وأسرة وفرد، قد تآكلت كلياً.

نشير الى أن التجربة الأسرع والأكثر انتقالاً نحو مهمات بناء نظام بديل هي تلك التي حدثت في تونس، حيث لم تستغرق المدة بين اندلاع الانتفاضة في 18 كانون الأول/ ديسمبر 2010 وقرار الرئيس زين العابدين بن علي في 14 كانون الثاني/يناير 2011، سوى أربعة أسابيع. ولقد برز دور العامل الأول بتجانس المجتمع التونسي وغياب الانقسامات العمودية كعامل مؤثر، الى جانب حياد الجيش كمؤسسة لا بل قيامه بدور ضاغط على زين العابدين بن علي كي يتنحى، ما قلّص حجم الأضرار، وأمن سرعة الانتقال الى ما بعد سقوط رأس النظام.

على غرار تونس حاولت المؤسسة العسكرية في مصر الاستغناء عن رأس النظام لتحافظ قدر الامكان على النظام نفسه وتعيد انتاجه. تسبب هذا الأمر في اطالة مدة الصراعات، لكنه في النهاية ساهم الى حد معين في انفصال الجيش عن رأس النظام وأجهزته الأمنية، وفي اطلاق دينامية انتقال أقل عنفاً مع المحافظة على مؤسسة الجيش.

أما في اليمن، فقد ساهمت الانقسامات القبلية وانقسام الجيش والمؤسسات الأمنية في تعقيد الأوضاع وإطالة الصراع وارتفاع عدد الضحايا. هذه الصراعات الداخلية أدت الى محاولة اغتيال الرئيس علي بن صالح ومن ثم، عبر التدخل السعودي، اقناعه بالرحيل حفاظاً على ما تبقى من النظام الذي أسسه. ولا يزال الصراع مستمراً بكل تعقيداته في هذه المرحلة الانتقالية، يضاف اليها الانقسامات الجهوية بين شمال وجنوب اليمن".

في ليبيا، برز الخلاف القبلي والجهوي لا سيما بين شرق ليبيا ومدينتها بنغازي وبين غرب ليبيا ومدينتها طرابلس الغرب بالتحديد، ما أطال الصراع الدموي المسلح.

استمرت هذه الصراعات رغم هزيمة القذافي ومقتله، وتمثلت بانتشار الميليشيات المسلحة وارتفاع الجهوية التي يرجّح انها ستبقى تلعب دوراً مؤثراً في المرحلة الانتقالية.

في حالة ليبيا لم تكن القوى العسكرية منتظمة في مؤسسة الجيش بل كانت أقرب الى ميليشيات وكتائب داعمة للقذافي وعائلته. ولولا دعم حلف الناتو لقوى المعارضة المسلحة، لكان أمد الصراع بقي مفتوحاً على المجهول ولكانت الخسارات أكثر كلفة وعنفاً من الجانبين.

نصل الى حالة سوريا حيث نظام التسلط غذّى الانقسامات التي بجوهرها من صنعه ومسؤوليته. وقد ساهمت الانقسامات الطائفية مثلاً في تعقيد وضع المعارضة لكنها لم تشكل عائقاً أمام تناميها واتساع سيطرتها على أرض الواقع، اذ تمكنت من استقطاب تعاطف السواد الأعظم من السوريين في وجه بطش وتعسف ووحشية النظام القمعي وعنفه المتزايد. وكان العنف المتزايد للنظام كماً ونوعاً، السبب الرئيس لتحول الثورة بعد ستة أشهر على اندلاعها. من سلمية الى مسلحة كي تتمكن من مقاومة هذا العنف غير المسبوق وحماية المدنيين والثورة. كذلك أدى هذا العنف الى انشقاق عشرات الآلاف من العسكريين عن الجيش الرسمي السوري وانضموا الى صفوف الجيش السوري الحر. وعليه، فإن من بقي في الجيش الرسمي ينتمي الى ميليشيات لصيقة بالنظام ورأسه. هذا الارتباط العضوي بالنظام التسلطي وحلقته الضيقة حال دون تحييد المؤسسة العسكرية أو الأجهزة الأمنية المرتبطة بالنظام عن الصراع، ما أدى الى استخدام العنف واشتداده على كامل الأراضي السورية. بيد أن مآل الأمور يتجه نحو سقوط هذا النظام، مهما ارتفعت الكلفة الانسانية على الشعب السوري، الذي لا يمكن له ولا خيار له الا الحرية ولا عودة له الى نظام التسلط.

مع الأسف الشديد، فإن الانقسام الطائفي الذي لعب عليه النظام في البحرين، وارتباطه بالصراع الاقليمي السعودي الايراني، اضافة الى طبيعة تركيبة الجيش والمؤسسات العسكرية والأمنية البحرينية الطائفية. كل هذه العناصر ساهمت في اجهاض حركة الاحتجاج في البحرين الى حين، وقمعها بشدة واعتقال قادتها. إلا ان مسار الامور، كما بيّنت التطورات اللاحقة حيث حركة الاحتجاج مستمرة وان دورياً، لا يفضي على ما يبدو الى طريق للخروج من المأزق. الا في حال أعادت السلطة دينامية حوار جدي وحقيقية وقدمت اقتراحات او قبلت باقتراحات توسيع الحريات واحترامها، ما يمسح بالعبور الى نظام ديمقراطي.

*فصل من كتاب"الربيع العربي، ثورات الخلاص من الاستبداد" اعدته "الشبكة العربية لدراسة الديموقراطية (صادر عن دار شرق في بيروت)

معد الدراسة: 
حسن كريّم