الفلسطينيون هم الخاسر الأكبر في الموجة الأولى من "الربيع العربي"

بقلم: 

فرضت ثورات "الربيع العربي" في موجاتها الأولى اتجاه الأولويات في بلدان الربيع نحو الداخل، والابتعاد قدر ما أمكن عن إثقال تلك الموجات باهتمامات في إطار أوسع من القضايا الداخلية الملحة، وطاول ذلك القضية الفلسطينية التي لم تحظ باهتمام يذكر في شعارات الثورات. وكان ذلك مفهوماً، خاصة في الحالة المصرية، التي لم يكن مطروحاً على جدول أعمالها في موجتها الأولى إعادة النظر في سياسات نظام حسني مبارك من القضية الفلسطينية، المستندة إلى اتفاقية "كامب ديفيد" الموقعة بين مصر وإسرائيل،لأن مثل هكذا مراجعة تحتاج إلى ميزان قوى جديد على الصعيد الداخلي المصري وعلى الصعيد الإقليمي، يحتاج توفيره إلى وقت ليس بالقليل، ويجب أن يسبقه استتباب الأوضاع الداخلية، واستكمال أجندة الثورة بإزاحة النظام القديم وبناء نظام تعددي ديمقراطي.
لكن كان يراهن على أن القضية الفلسطينية ستكسب في النهاية ضمن المعادلة الجديدة على المسرح السياسي للمنطقة، بما سيؤدي إليه سقوط أنظمة الحكم الاستبدادية من توزيع جديد للقوى يستنهض الدور العربي في الميزان الجيوسياسي الإقليمي. وهكذا قد تكسب القضية الفلسطينية تدريجياً بعودة مصر إلى أداء دورها القيادي التاريخي في الفضاء العربي والإسلامي والأفريقي.
وكمرحلة أولى لعب دور موجه للسياسات العربية التي تعاني من فقدان وزن وصراعات ثانوية، في مرحلة مفصلية تتصارع فيها القوى الإقليمية الرئيسية، من خارج المنظومة العربية، والقوى لتقاسم مواقع النفوذ خارطة المشرق والمغرب العربي. في عملية احتواء تستبق صياغة ميزان القوى الإقليمي على ضوء ثورات "الربيع العربي"، والإمساك بحلقات التغيير التالية، سواء في بلدان الثورات، أو البلدان المرشحة لانتقال العدوى الثورية إليها.كي لا تفلت المنطقة العربية من صراع القوى الإقليمية الكبرى خلال العقدين الأخيرين، إسرائيل وإيران وتركيا، بامتداداته الدولية على حساب العرب.
وأجمعت غالبية التحليلات في الموجة الأولى للثورات على أن إسرائيل ستكون بنتيجة المعادلات التي ستُفرض هي الخاسر الأكبر في المحصلة النهائية، لأن الثورات تؤسس لنظام سياسي عربي جديد ومتماسك، يخلخل نماذج العلاقات السياسية وموازين القوى التي سادت في المنطقة لعقود طويلة، بما سيؤثر إيجاباً على القضية الفلسطينية، التي عانت خلال العقدين من الإهمال الرسمي العربي والإقليمي والدولي، لاسيما في العقد الأخير، باعتبار أن الحالة الديمقراطية في البلدان العربية ليست في صالح إسرائيل، بتغير وزن الشارع العربي في القرار الرسمي الذي لم يكن في ظل الأنظمة الاستبدادية ينسجم بالحدود الدنيا مع تطلعات الجماهير إزاء الموقف من الصراع العربي- الإسرائيلي.
وأول المؤشرات التي كانت متوقعة هي تراجع وتيرة التطبيع بين الكثير من البلدان العربية وإسرائيل، وتصليب المواقف السياسية للأنظمة الجديدة وامتداده إلى مواقف البلدان الأخرى، والنظر إلى أي علاقة مع إسرائيل باعتبارها ستكون مثار نقمة شعبية عربية. وعلى المدى المتوسط تخوفت التقديرات الإستراتيجية الإسرائيلية من أن البيئة الجديدة التي ستوفرها الثورات ستخلق حاضنة للمقاومة الفلسطينية، وستشكل عاملاً ضاغطاً على إسرائيل، في شكل غير مسبوق، لاسيما في ظل تراجع نفوذ الولايات المتحدة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط وعلى مساحة الخارطة العالمية.
وفي مواجهة سيناريو نجاح الثورات في إسقاط الأنظمة الاستبدادية، واجتياز المرحلة الانتقالية بسلاسة نحو أنظمة تعددية ديمقراطية وتحقيق الأمن والاستقرار، وهو سيناريو صنف إسرائيلياً بكونه الأكثر رعباً، كانت التقديرات الإسرائيلية تعوّل على واحد من سيناريوهين آخرين محتملين:
السيناريو الأول نجاح جزئي للثورات يغرقها في أوضاعها الداخلية بصراعات بينية بين قوى الثورة، ومصاعب سياسية واقتصادية وأمنية في المرحلة الانتقالية، تجعل من الاهتمام بالقضية الفلسطينية مدرجاً على قائمة الانتظار لفترة قد تطول.
السيناريو الثاني فشل الثورات وتهيئة ظروف مناسبة لثورات مضادة تعيد إنتاج الأنظمة الاستبدادية، تبعد شبح تداعيات الثورات العربية على إسرائيل، التي وصفها سلفان شالوم، نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي، بأنها كارثة على إسرائيل.
وفي ظل الأوضاع التي تعيشها مصر يبدو أن سيناريو النجاح الجزئي للثورة ساد خلال عامين ونصف من إسقاط حكم مبارك، ولا يستبعد أن تؤدي الفوضى السياسية بعد أحداث الثلاثين من يونيو/حزيران الفائت، والتي توجت بعزل الرئيس محمد مرسي، إلى نشوء بيئة لثورة مضادة تخسر فيها قوى الثورة بكل ألوانها أمام قوى النظام القديم، إذا لم تتدارك قوى الثورة خلافاتها بتقديم تنازلات متبادلة لتلافي التصعيد، ولحماية مكتسبات ثورة (25 يناير) وتصويب مجموع الأخطاء التي وقعت في المرحلة الانتقالية، وما أدت إليه من انقسام مجتمعي حاد.
وهذا ينطبق أيضاً على بلدان الربيع العربي، التي تشهد بدورها حالات احتقان مرشحة للتصاعد في حال لم تبادر القوى السياسية إلى مبادرات خلاقة، تحول دون الوصول إلى ما وصلت إليه أوضاع الثورة المصرية.
ومما لا شك فيه أن الفلسطينيين هم الخاسر الأكبر من تعثر الثورات العربية. وهنا قد لا يبدو مفهوماً للبعض الحملة الإعلامية الشرسة التي يتعرض لها الفلسطينيون، بتوجيه الاتهامات لهم بالتدخل في مصر الداخلية، وهي اتهامات يعرف القاصي والداني أنها بنيت على وقائع محرفة أو في أقل تقدير مبالغ فيها، خدمة لأغراض سياسية في الصراع الداخلي المصري بين نظام حكم الرئيس مصري ومعارضيه. إلا أنه وبقليل من التمعن يبدو أن الحملة مقصودة، فوسائل الإعلام التي تشن هذه الحملات تديرها وتموِّلها جهات معروفة بصلاتها القوية مع نظام حسني مبارك، الأب الروحي لنظرية فك ارتباط مصر والعرب بالقضية الفلسطينية وبالصراع العربي- الإسرائيلي.
وخدم بعض الفلسطينيين هذه الحملات بالإقدام على مواقف غير متوازنة، وعدم الاستفادة من زخم الثورات لإنهاء الانقسام السياسي والكياني الداخلي، وتقديم الحالة الفلسطينية كحالة متماسكة ببرنامج مشترك يشكّل أرضية لمواقف عربية داعمة وتفعل فعلها في الإطارين الإقليمي والدولي.
بالنتيجة الفلسطينيون هم الخاسر الأكبر في الموجة الأولى من الثورات العربية، وسيكونون الخاسر الأكبر مرّة ثانية في موجاتها التالية إذا لم يطوروا من أدائهم. ففي نهاية المطاف لن يكون أحد، حتى الثوريين العرب، أكثر ملكية من الملك، أو بمعنى آخر أكثر فلسطينية من الفلسطينيين.   

المصدر: 
أنباء موسكو