"فخّ الأسماء"

بقلم: 

حين دعيت كي أكون عضوا في لجنة تحكيم جائزة غسان كنفاني، ضمن جوائز فلسطين "الدولية"، شعرت بتردد للوهلة الأولى، فصاحب الاسم كانت تربطني بها علاقات دون حدود، ثقافية وغير ثقافية، والجهة الداعية فيها أصدقاء قدامى، وبعض الأسماء تحظى بالاحترام الكامل، لكنني أقف شخصياً، وبوضوح تام، ضدّ أن تتبنى أية جهة غير رسمية جائزة باسم أيّ رمز وطني، خصوصاً حينما يكون ثقافياً، باعتبار الثقافة ثابتاً وحيداً يبقى، ويستمرّ في التعبير عن الروح الأصيلة للأمة، وعن تطلعاتها، بعد أن تذوب "الثوابت" الأخرى في اليوميّ والسياسيّ، وما يولد منهما من خروج على كثير مما يستحقه الوطن.
وعندما قرأت أسماء اللجنة المقترح، لم أتردّد لحظة في الاعتذار، وقد برز أمامي اسم لا أثق في ثباته على أيّ صعيد، ولذلك شعرت بأنني سأكون متناقضاً مع نفسي إن جلست معه في لجنة، في حين أربأ بنفسي من قبول مثل هذا التعاون في أي شأن آخر، لا كراهية لا يحملها القلب لأيّ أحد، وإنما عدم ثقة تقود الطريق، في ظروف فقد فيها كثيرون حسّهم الجماعي، ليركزوا على ذواتهم، وما يكسبون، حتى من معاناة وطنهم.
الآن، وبكلّ بساطة، وبعد أن أعلنت اللجنة التي لم يعد تكوينها القديم كاملاً ـ كما علمت ـ منح جوائزها، حمدت الله كثيراً أنني اعتذرت، لأنني أؤمن بأمر لا حياد عنه، هو أنه حين تكون الجائزة باسم رمز ثقافي وطني، ومناضل، تقصّد العدو هدر دمه لهدر قلمه، لا يكفي أن تكون شروط الجائزة إبداعية فقط، وإنما يجب أن يضاف إليها الشرط الوطنيّ أيضاً، تيمناً باسم صاحب الاسم، وهو شرط يعني التجرّد الكامل من أية شبهة، تتعلق بفهم القضية الوطنية، كما يفهمها غالبية الشعب، وخصوصاً شبهة التطبيع مع الاحتلال، تحت أية ظروف، لأن منح الجائزة التي تحمل اسم الشهيد الأديب غسان كنفاني لمن يمكن أن تدور حوله مثل هذه الشبهة ـ وهو غالباً لا ينكرها، حتى وإن حاول أن يفلسفها ـ فيه إساءة كبيرة لاسم الشهيد، ولطبيعة جائزته.
وإذا كنا تحدّثنا، وتحدّث كثيرون غيرنا، عن التجارة باسم رمز ثقافي آخر، على أصعدة كثيرة، هو اسم محمود درويش، الذي كاد يصبح ملكية خاصة لمن لا يملكون شيئاً من إبداعه، ولا يسيرون على مواقفه، في كثير من الأماكن، كما أن بعض الجوائز التي تمنح باسمه، وبعض النشاطات التي تعقد تحت رايته، تكاد تكون شخصية، أو كيدية في بعض الأوقات، وتستغل فيها أسماء لا تعرف أنها تستثمر في شؤون هي بعيدة عنها تماماً، حتى وإن حضرت باسم فلسطين، رغبة في التعرّف عليها، أو باسم الثقافة الفلسطينية، وهي لا تدري كيف يجيرها بعض من يتاجرون.
وفي هذا الزمن، الذي نحتاج فيه أن تبقى الرموز نقية ومؤثرة في تشكيل الوجدان الفلسطيني، صار من المهم الخوف عليها مما يترصد بها: بعضه بمعرفة وتخطيط، وبعضه الآخر في غياب المعرفة، وفي غياب القدرة المتاحة على السؤال. ولأن الأمر مرتبط بموقف، لا يتناقض ولو بقيد شعرة مع موقف الشخصية الوطنية التي تمنح الجائزة باسمها، وفي ظروف تتيح لبعض "صيادي الجوائز" أن يتخفوا في عباءات ذات ألوان، من المفروض أن يكون السؤال عن الموقف جزءاً أساسياً من أيّ مشروع ثقافي هذا وصفه، وهو ليس سؤالاً صعباً، وغالباً ما يسأل فيه من هم قريبون من الواقع، ممن لا يكتفون بالأوراق التي تملك القدرة على أن تخفي، وأن تتخفى، وذلك حتى لا يكون وقوع في فخّ صعب، يتعلّق بأسماء لا يجوز أن تمسّ بسوء، وخصوصاً عندما تقع في هذا الفخّ جهة لا يشكّ أحد في وطنيتها، ولا في نيتها التي تقف وراء فعلها الثقافي، الذي تغلب عليه صفة التطوّع.
كلّ هذا وأنا لا أتردّد في التعبير الصريح، عن قناعة تامة لا يجاورها شك، حول أن تقديم الجوائز بأسماء الرموز الثقافية الكبيرة، لا يجوز أن يكون خارج جهة قادرة تماماً على أن تحشد المعرفة كلّها، وأن تضع حساباً لكل التفاصيل، لأن تفصيلاً صغيراً هنا أو هناك، قد يتسبب فيما يسيء إلى الجهة، أو إلى رمز ثقافي وطنيّ، يقوم الفعل أساساً بهدف تكريمه، وذلك بعد أن يفوت وقت تدارك ما ينتج عنه.
إن "فخّ الأسماء" ـ الذي أخذته كعنوان من رواية للصديق خيري الذهبي ـ قد يغري كثيراً بالتوجه إليه، بنية طيبة، ولكن ذلك لا يحفظه من أن يظلّ فخاً، يجب التعامل معه بكلّ حذر، حتى لا يكون الوقوع فيه بهذا الإيلام.

 

المصدر: 
الأيام