التركيبة الاجتماعية والاقتصادية للإخوان المسلمين وخلفيتهم الثقافية
حوّلت جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر تنظيمها الأيديولوجي بمرور الوقت إلى ما يشبه «الكائن البيولوجي»، وذلك وفق قاعدة «الإخواني من الأفضل أن يتزوج إخوانية»، فتداخل لديها السياسي بالطبيعي، واستخدم كلاهما في خدمة الآخر، وفق ظاهرة نادرة في التاريخ الإنساني كوَّنت ما يسمى «العائلة الأيديولوجية». وعلاقة القرابة والمصاهرة تلعب دوراً في الحراك الاجتماعي في أي مجتمعات بشرية بدرجة ما، وربما تصبح في بعض الأحيان طريقاً لتولي المناصب والمواقع القيادية، لكن بالقطع ليس بالإفراط الذي عليه «الإخوان»، وقد يرجع ذلك إلى أنهم جميعاً متشابكون في «نسب» لا يكاد ينتهي، ولذا نجد أن تأثير هذه العلاقة على توليهم المناصب مضاعف ومغلظ قياساً إلى غيرهم، لاسيما بعد انحيازهم إلى «أصحاب الثقة» من بين «الأهل والعشيرة» على حساب «أهل الخبرة» في سياق ما يعتقدون أنها «فرصة التمكين» من ناحية، ونظراً لهواجسهم المرضية حيال «الأغيار» أو «المختلفين» معهم فكرياً أو سياسياً من ناحية ثانية.
وربما لهذا نجد اصطلاح «الأسرة الإخوانية» قائماً كمرحلة من تنظيمها الإداري أو هيكلها السياسي جنباً إلى جنب مع «الوحدة الاجتماعية» التي ينتظم فيها أب إخواني وأم إخوانية مع أولادهما، وكل منهما يتداخل مع الآخر في كثير من المفاصل، ولنا أن نعرف في هذا المقام أن بعض قيادات الشُّعَب والمناطق يتدخلون لحل المشكلات بين الأزواج وزوجاتهن، وهذه المهمة أسندت ذات يوم إلى الدكتور محمد مرسي في مسقط رأسه في محافظة الشرقية.
الخلية الأولى
والأسرة أو «الخلية» هي اللبنة الأولى والأساسية في تنظيم الإخوان، وتأتي بعدها «الشُّعبة»، ثم «المنطقة»، فـ «المكتب الإداري» و «مجلس الشورى العام»، وبعده «مكتب الإرشاد»، ثم «المرشد». وتتكون الأسرة على هذه الشاكلة من خمسة إلى سبعة أفراد، يقف على رأسهم واحد منهم يلقب بـ «النقيب»، يقود اجتماعاً أسبوعياً لمن هم دونه في الترتيب من أفراد الأسرة، يتدارس معهم مناهج مقررة في تفسير القرآن الكريم، لاسيما «الظلال» لسيد قطب، والأحاديث المنسوبة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، ورسائل الشيخ حسن البنا، وبعض الكتب المقررة لصفوف الجماعة، علاوة على استعراض الأحداث السياسية وموقف قادة الجماعة منها، والمهام المطلوبة من القواعد في هذا الشأن.
من هنا يتخالط لدى «الإخوان» ما ترتبه مدرستان من ضمن مدارس أو نظريات واقترابات علمية عدة في تفسير سيكولوجية الجماعات، وهما «الحتمية البيولوجية»، و «الحتمية الثقافية»، وهذا ما يمكن أن نستخدمه في محاولة الاقتراب النسبي من تحليل الأسرة الإخوانية، رغم أنها لا تنتمي إلى عرق محدد، لكن الزواج المتبادل والمصاهرة المغلقة قد تجعلها بمرور الوقت مهيأة لإنجاب إخوان جدد حملوا الصفات الوراثية للوالدين. وهناك أدلة دامغة على قيام الجماعة بـ «تنميط» أعضائها، بما يجعلهم وكأنهم، في نظرتهم إلى الذات والمجتمع، شخصاً واحداً مكرراً مئات آلاف المرات، وذلك عبر مناهج تعليمية داخلية مناسبة لمستويات «محب» و «مؤيد» و «منتسب» و «عامل» ولمختلف الأعمار، يتم تدريسها بانتظام، وهي قابلة للاستبعاد والإضافة وفق الظروف، وتتدرج وفق موقع الفرد داخل الجماعة، فالنقباء يتلقون دورات خاصة حتى يتمكنوا من الوعظ في أفراد «الخلية» وإرشادهم، وما يُعطى لـ «إخوان الصف»، وهم الأعضاء العاملون، يختلف عما يُعطى لـ «الربط العام»، وهم المتعاطفون مع الجماعة، و»الربط الخاص»، وهم من على وشك الانضمام إليها، وهذا كله يعطي هؤلاء قدرة ما على مخاطبة «الانتشار»، وهو الفضاء الاجتماعي الأوسع الذي تستهدف الجماعة التجنيد منه أو كسب تعاطفه، أو تحييده على قدر المستطاع.
كما تحرص جماعة الإخوان على إدماج العضو العامل فيها بـ «الأسرة الإخوانية الممتدة» من خلال علاقة المصاهرة تارة ومصادر كسب الرزق تارة أخرى، علاوة على برامج التثقيف الأحادية التي تستقر في ذهنه وتربطه أكثر، معرفياً ووجدانياً، بـ «إخوانه». ونظراً لشعور الجماعة الدائم بالخطر الذي يتهددها، فقد عملت بصرامة على أن تلف حبالاً غليظة على أي شخص ينتمي إليها ويحوز أسرارها ويعرف طرائق عيشها وتحركاتها، حتى لا ينفلت عنها ويعطي ما عرفه أو حصله لمن تطلق عليهم أعداءها.
تسييس دور «الخاطبة»
ولهذا تحمل مكاتب الجماعة في مختلف أنحاء البلاد قوائم بشباب وفتيات من المقبلين على سن الزواج، وترشح بعضهم لبعضهن، من منطلق إدراكها أن الأفضل أن يتزوج الإخواني إخوانية، حرصاً على أسرار التنظيم، وعلى جلد الزوجة حين يغادرها زوجها إلى السجن ويترك لها مسؤولية تربية الأولاد، وحفظ عرضه، ورد غيبته، وإن لم يكن له مصدر رزق ثابت فالجماعة تتكفل بأسرته تلك.
ومما لا شك فيه أن هذا النمط الاجتماعي والإداري كان من العوامل المهمة التي ساعدت على استمرار «تنظيم الإخوان» متماسكاً، وقللت من قدرة منافسيه أو أجهزة الأمن على اختراقه، لكنه في الوقت نفسه يحمل بذور تصدع التنظيم وضعفه، لأنه يقوم على أمرين متناقضين، هما: «العبودية الطوعية» و «الإكراه المادي والمعنوي».
لكن هذا النمط الاجتماعي ساهم في ضعف ملكة التخيل لدى الجماعة، ولذا لم تقدم للحياة على مدار تاريخها مفكراً بارعاً أو أديباً مبهراً، بل إنها دوماً كانت طاردة لأمثال هؤلاء، فهم إن التحقوا بها في شبابهم الغض معتقدين أنها لن تقف أمام طاقتهم الإبداعية وقدراتهم الفردية، سرعان ما يهجرونها حين يجدون أنها جدار أصم يقف أمام خيالهم وإبداعهم ورغبتهم في أن يفكروا خارج القوالب الجاهزة والصناديق المغلقة التي كتب على جبهتها العلوية: «السمع والطاعة». والفقر في التخيل والتفكير لدى الإخوان لا يعود إلى قصور عقلي بالقطع، إنما تقف خلفه جملة من الأسباب العلمية والفكرية والنفسية والتنظيمية، التي تراكمت بمرور الأيام، أولها كراهية الإخوان للمنظرين والفلاسفة والمفكرين ودارسي العلوم الإنسانية، لأنهم يشكلون خطراً على التنظيم، وثانيها رفض الإخوان التعددية الثقافية، لأنهم يبحثون دوماً عن «الطريق الواحد»، وثالثها توهم الإخوان «الانتصار الحتمي» لأن طريقهم «رباني».
ويتواشج هذا التركيب الاجتماعي والثقافي مع بيئة اقتصادية يمكن أن نطلق عليها «الرأسمالية المتوضئة»، ففي البداية قاد حسن البنا مجموعة من صغار الموظفين والحرفيين، الذين كوّنوا النواة الأولى لجماعة الإخوان، ولذا كان ملتفتاً إلى رقة حالهم، وراغباً في تحسين أحوالهم. لكن بمرور الزمن، راحت الجماعة تجذب قطاعات من «البورجوازية الصغيرة» وتتمسك بشروط صارمة لمن ينضم إليها، منها ضرورة أن يكون له عمل يتكسب منه، ثم انفتح باب واسع لتراكم رأسمالي جاد، من التبرعات والهبات والاستثمارات، وباتت الجماعة مصدراً لخلق طبقة من رجال الأعمال، منحتهم الجماعة فرصة لتدوير أموالها في تكتم بعيداً من ملاحقة الأنظمة الحاكمة التي كانت تستهدف الإخوان ومطاردتها.
ومع توالي السنين، أصبح الإخوان يمتلكون «إمبراطوريات مالية صغيرة» لا يقل رأس مال الواحدة منها عن 500 مليون جنيه، إلى جانب إمبراطوريات أكبر في الخارج يبلغ رأسمالها بلايين الدولارات. وينكر الإخوان هذا بالطبع، ويسربون أحياناً أرقاماً متواضعة عن حجم ثروات بعض رجال أعمالهم في مصر، مثل خيرت الشاطر وحسن مالك، وفي الخارج، مثل يوسف ندا.
تجارة لا تنمية
وأغلب هذه القدرات الرأسمالية الإخوانية غير تنموية، لأنها تقوم بالأساس على التجارة، وينصرف جزء كبير أيضاً من هذه الأنشطة إلى التوزيع والخدمات، وليس بالقطع إلى استصلاح الأرض وفلاحتها، وتشييد المصانع، وتعزيز اقتصاديات المعرفة. ومن هذه السمات أيضاً، أن بعض رجال أعمال الإخوان شركاء لبعض نظرائهم ممن ينتمون إلى نظام حسني مبارك، وهذه الشراكة قامت في الغالب الأعم على «مُحلل» أو «شريك وسيط» من خارج صـر، لا سيما من بلدان دول مجلس التعاون الخليجي. ويسعى رجال أعمال الإخوان حالياً إلى اختراق مؤسسات الدولة بسرعة هائلة، فمن بينهم اثنان في التشكيل الوزاري، وبعضهم يحيط برئيس الدولة ويداوم في قصر الرئاسة أو هو من المستشارين السريين للرئيس، وبعضهم مستشارون لوزراء، وهو النهج ذاته الذي سلكه نظام مبارك.
وحول رجال الأعمال الكبار في جماعة الإخوان، هناك طبقة تالية من التجار الصغار، الذين أفادهم الممسكون بأموال «الجماعة» من خلال إقامة مشاريع صغيرة ومتوسطة لهم، على هيئة متاجر ومطاعم وورش، في سبيل تدوير رأس المال، الذي يفقد قيمته أو قوته الشرائية بمرور الوقت نظراً لارتفاع معدل التضخم، وكذلك جلب المنفعة لقطاعات أعرض من «الجماعة»، التي تحولت بمرور الوقت إلى كيان اجتماعي له قوام خاص، عليه أن يواجه التضييق عليه بتصريف أموره داخلياً، جنباً إلى جنب مع امتلاك الأموال التي تخدم الأدوات والآليات التي تنتهجها «الجماعة» في سعيها الدائم والدائب نحو التمكن من المجتمع والدولة.
تُعد أموال الإخوان جزءاً أصيلاً وأساسياً من أدوات ربط الفرد بالجماعة، ومساعدة «الأسرة الإخوانية» في امتلاك القدرة على المواجهة المستمرة، لا سيما في سنوات التضييق، فمنها كان يتم دفع النفقات الشهرية للأسر التي تم اعتقال عائلها، ومنها تساعد الجماعة بعض المنتمين إليها في رحلات تعليمهم أو مواجهة ظروف صحية صعبة، ومنها أيضاً تقوم الجماعة بدورها في تطبيب عوز المجتمع، من خلال الاهتمام بمساعدة الأيتام والفقراء عبر الصدقات الدائمة أو الموسمية المتقطعة، وهي قوة اجتماعية طالما تمكن الإخوان من حشدها للتصويت لصالح مرشحيهم في مختلف الانتخابات التي خاضوها، وظهر الأمر بجلاء عقب الثورة، حين قام الإخوان بتوزيع سلع تموينية على الفقراء في بعض المدن مقابل الحصول على أصواتهم.
ولم يقتصر الأمر على هذا الحد، بل استغل الإخوان شبكة النفع العام التي قام بها بعض الجمعيات السلفية الدعوية، وفي مقدمها «الجمعية الشرعية للعاملين بالكتاب والسنة»، في التمدد والتوغل داخل أوردة المجتمع، عبر تقديم الخدمات، لا سيما في ظل انحسار قدرة الدولة تدريجاً على فعل هذا. وفضلاً عن رغبة الإخوان في الاستفادة من آلاف الفروع التي تمتلكها هذه الجمعية، فإنهم كانوا مضطرين إلى أن يسلكوا هذا السبيل للتعمية على الأجهزة الأمنية التي تتعقب أنشطتهم، بوصفها وسائل للتجنيد والتعبئة والحشد.
وما يستخدمه الإخوان من أموال في هذه العملية هو النزر اليسير مما يملكون، لأن أغلب أموالهم في الخارج، وهي تقدر بعشرات البلايين من الدولارات، وفق حسابات تقريبية، ما يعني أن الجزء الأكبر من طاقة الجماعة الاقتصادية منصرفة إلى «التجارة»، وفق أحدث الأساليب التي تنتهجها النظم الرأسمالية وأقساها. وربما خلق هذا الوضع تصوراً راسخاً لدى الإخوان لا يستطيعون مفارقته حتى بعد أن وصلوا إلى قمة هرم السلطة، وهو تعزيز «الملكية الخاصة» والاقتصار على تقديم الصدقات للفقراء، وليس الإيمان بأن لهم حقوقاً أصيلة وأساسية في المال العام يجب أن توفر لهم حد الكفاية.
وحاولت الجماعة أن تعالج الآثار النفسية لهذه المعضلة داخل صفوفها من دون أن تكون معنية بالبحث عن علاج أو حل للمجتمع العريض الذي يقع خارج الإخوان، وهو الأكبر عدداً وعُدة في حقيقة الأمر، فالجماعة تحاول أن تفصل بين «الشُّعَب» التي تقيمها في الأحياء الفقيرة وبين نظيرتها المقامة في الأحياء الثرية، حتى لا تخلق «حقداً طبقياً» بين أعضائها من الممكن أن يعجِّل بتفجير صراع اجتماعي داخلي سيؤثر، من دون شك، على استقرارها وقدرتها على التماسك، أو يُظهر لدى الإخواني رقيق الحال مدى الهوة بين القول والفعل داخل الجماعة العجوز.
أيام المحنة كان يُنظر إلى الإخواني المتقدم في مراتب الجماعة باعتباره الأكثر استعداداً للتضحية، نظراً لأن النظام كان يستهدف الكبار في سبيل تعويق تقدم الإخوان إلى الأمام في الحياة السياسية والاجتماعية، ولذا كان ينظر إلى ما لدى هؤلاء من إمكانات مادية بوصفه تعويضاً عن الثمن الذي يدفعونه من حريتهم وحياة أسرهم. لكن بعد وصول الإخوان إلى السلطة سيختلف الأمر تماماً، إذ إن التقدم هذا سيمنح صاحبه مزايا من دون أن تقع على عاتقه أي أعباء أو يدفع أي ثمن. ومن ثم سيحدث تزاحم حول المنافع بمرور الوقت، لاسيما بين القيادات العليا للجماعة، وهي حالة تجري الآن في الخفاء وفي صمت، أو بأنين مكتوم لن يلبث أن يعلو ويصير صراخاً.
اختلال طبقي
وهذه الأوضاع الطبقية المختلة، تلقى إنكاراً على المستوى النظري من جماعة تزعم دوماً أن مثل هذه المسألة لا تعنيها، وأن العلاقات بين أفرادها قائمة على التوادّ والاحترام والأخوّة متكئة في تبريرها هذا إلى نصوص قرآنية ونبوية أو ما خلَّفه مؤسسها حسن البنا من تعاليم ووصايا. لكن الواقع يتجاوز هذا الكلام اللطيف البراق، لتجد شخصيات كبرى في الجماعة تنظر إلى ما لدى إخوانهم من إمكانيات مادية، وتشكو من التمييز الحاصل، وتعزوه إلى رضا من بيده أموال الجماعة عن البعض وغضبه على آخرين، علاوة على شراء الولاءات، وهي مسألة من المرجح أن تزداد في السنوات المقبلة مع تنافس قادة الجماعة على المناصب والنفوذ داخل الدولة، وكذلك على إدارة الثروة بطريق رأسمالي بحت يجعل النجاح قريناً لتعظيم الربح لا للاستجابة لحد الكفاية، أو التصرف وفق القاعدة الذهبية التي تقول «المال مال الله».
وينعكس هذا التمييز الطبقي على قسم الأخوات، إذ إن زوجات أصحاب المال داخل الجماعة لهن وضع خاص، يتعزز إن كان الزوج أيضاً له مكانة متقدمة في «هيراركية» الجماعة، كأن يكون عضواً في مكتب الإرشاد أو مجلس شورى الجماعة.
وفي الحقيقة، فإن تجربة الإخوان الاقتصادية لن تعدو أن تكون مجرد تجميل للرأسمالية الغربية بمساحيق فقهية، سيطلق عليها زوراً وبهتاناً أنها الرؤية الاقتصادية للإسلام، من زاوية «الاستمتاع بزينة الحياة الدنيا»، و «التحدث بالنعمة»، و «حق التملك الخاص»، ليبقى للفقراء مجرد صدقات لا حقوق، من دون اعتناء بضرورة توافر حد الكفاية أولاً، لأن «الفقر كاد أن يكون كفراً»، ولأن «ليس منا من بات شبعاناً وجاره جائع وهو يعلم»، كما يقول الرسول الكريم. وسيمضي الإخوان في سياسات اقتصادية مطابقة لتلك التي كان ينتهجها نظام مبارك، حيث تمييز القلة المحتكرة، وتشجيع الاقتصاد الترفي، والاقتراض من المؤسسات الدولية.