"ماركو" عائد الى يافا!

بقلم: 

قال لي الرجل الجالس على الجانب الآخر من رواق الطائرة وهو يشير إلى المقعد الفارغ بيني وبين جاري: "سأنتقل إلى هناك".
قلت له: "ابق حيث أنت".
سألني مباشرة: "هل أنت يهودية"؟. قلت: " لا أبدا..وأنت؟". قال: "أنا يهودي من مدينة ليون الفرنسية، إسمي ماركو وأنا ذاهب إلى اشدود (المجدل سابقا) لإحياء الذكرى السابعة للوالد". سألته: "لماذا تحيي ذكراه هناك؟". قال: "لأنه دفن في اشدود. كان قد دفع ثمن نقل جثمانه لشركة إسرائيلية، كما اشترى حفرة في المقبرة، كلفته عملية النقل وحدها، عشرين ألف يورو، والحفرة أربعة آلاف".
سألته ثانية: "وأنت، ستدفن نفسك عندما تموت هناك أيضا"؟. قال: "طبعا، على كل يهودي أن يموت في أرض الميعاد".
قلت له: "من أين أمك وأبوك"؟. قال: "أمي مغربية وأبي جزائري، وأجدادي من أسبانيا، رحل بعضهم بعد سقوط الأندلس، لكن جدي لأبي رحل مع وصول فرانكو للحكم".
سألته ثانية: "يعني هناك شركة إسرائيلية تعنى بنقل جثامين اليهود"؟.
قال: "طبعا، جميعنا نريد العودة إلى بلادنا، هذا واجب كل يهودي لم يتمكن من العودة في حياته بسبب أعماله".
"وماذا تعمل في هذه الدنيا"؟ سألته. قال: "تاجر خضار". ثم أخرج بضع ثمرات أناناس من كيس قماش، وقال: "أتيت بهذه لنضعها على مائدة العشاء غدا، كان والدي يحب الأناناس، لكن لا يوجد لديهم فواكه جيدة، هم يستعملون مواد كيماوية قاتلة، ولا توجد رقابة حقيقية".
تقول: "هم؟". قال: "أنا أصدقائي في مدينة ليون، جميعهم من المغاربة والجزائريين العرب وجميعهم يحبونني"، ثم عرض علي ساندويشا، فاعتذرت. سألني فجأة:"هل أنت مسيحية.. أم فلسطينية؟ اسمحي لي أن أقول لك، بأنه لو كان للفلسطينيين رجل قوي، لوقّع سلاما مع إسرائيل، لكن لا يوجد لديكم ذلك الرجل القوي، لماذا ترفضين تقاسم الخبز معي؟ ". ثم قال بالعبرية: "هَهْوْ أدونايْ، أي الإله هو، قال لنا بأن هذه بلادكم، وها أنا أعود إلى هذه البلاد ولو جثمانا، لأن الله أمرنا بذلك".
قلت له: "المسيحي هو فلسطيني واليهودي هو أيضا فلسطيني، هَهْوْ أدونايْ..لم يكن ليفرق بين الأخوة أليس كذلك؟ أم أنك تقول بأن هَهْوْ أدونايْ لم يكن عادلاً؟".
"يا عزيزتي لم لا تفهمين ما أقول، إن الحياة رائعة لو وصل برتقال يافو (يقصد يافا)، إلى جميع أنحاء العالم، نزرعه معا ونقطفه معا ونبيعه معا، ونثبت للجميع أننا أشقاء وعائلة واحدة، وليس بإمكان أحدهم أن يفرق بيننا".
تذكرت وفاة إبراهيم أبو اللغد، الذي تدخلت وساطات العالم لكي توافق السلطة الإسرائيلية على دفنه في يافا..مدينته، وعندما رفضت إسرائيل، قام أصدقاؤه بنقل جثمانه وهو جالس بالجاكت والكرافت على المقعد الخلفي في السيارة، وصديقه سهيل ميعاري يتظاهر بمحادثته على الحاجز، لكي لا ينتبه الجنود بأنه جثة. كنا جميعا ومن جميع أنحاء العالم نتابع أخبار السيارة، وجميعنا توقفت نبضات قلوبنا حتى مرت وتوجهت إلى المقبرة.
قلت له: "يا ماركو هكذا كان، هكذا كان في كل مكان، عندما سقطت غرناطة.. تشردتم، وعندما جاء فرانكو.. طردتم، وعندما جاء هتلر..حرقكم، وفي كل مرة وفي كل زمان نستقبلكم ونطعمكم".
"إيميه..(يقصد أحبي) هل يمكنني أن أدعوكِ إيميه؟ أنتم متسامحون هذه حقيقة، لكنكم لا تنسون أبدا، دائما تتحدثون عن الماضي" ثم قال بالعربية:" الله يقطع الماضي وسنينه"!!.
افترقنا حين هبطت الطائرة على أرض المطار، لكنني التفت وناديت عليه: "ماركو، هل لديك جواز السفر الإسرائيلي؟".
قال ملوحا بجواز سفره الأوروبي: "لا..إنه لا ينفعني في شيء".

المصدر: 
الحياة الجديدة