شراء الوقت؟: المال، والسلاح والسياسة في الضفة الغربية

تقرير مجموعة الأمات الدولية 

الملخص التنفيذي

لقد أعادت استقالة رئيس الوزراء سلام فياض المسائل المتعلقة باستقرار وسياسات الضفة الغربية إلى الواجهة. حتى عندما كان فياض لا يزال في منصبه، فإن العام الماضي كان العام الأكثر اضطرابا منذ انتزاع حماس السيطرة على قطاع غزة عام 2007. وجدت السلطة الفلسطينية نفسها في أزمة مالية، غير قادرة على دفع رواتب موظفيها أو وقف التردي الاقتصادي. استغلت حركة فتح، والتي لم تكن راضية عن التهميش الذي تعرضت له؛ الاحتجاجات التي بدأت اقتصادية وتحوّلت إلى سياسية؛ لكن سرعان ما خرجت هذه الاحتجاجات عن نطاق سيطرتها. دفعت المواجهات الإسرائيلية ـ الفلسطينية، المصحوبة بوضع أمني متردٍ، إلى ظهور توقعات بحدوث انتفاضة ثالثة. بقيت معدلات العنف مرتفعة نسبياً، إلا أن المزاج العام أصبح أكثر هدوءاً في الوقت الراهن؛ وتواجه المبادرة الدبلوماسية التي اضطلع بها وزير الخارجية الأمريكي جون كيري جملة من العقبات، لكن من غير المحتمل أن يكون اندلاع انتفاضة في الضفة الغربية من بينها. ثمة طرق أخرى أفضل لتجنيب الضفة الغربية عدم الاستقرار، لكن إذا لم تتجاوز الأطراف المعنية عملية إدارة مسببات الصراع إلى معالجة القضايا الجوهرية، فإن الهدوء السائد اليوم يمكن أن يتبخر بسرعة.

لقد دفعت الاحتجاجات المتعلقة بالوضع الاقتصادي (التي بلغت أوجها في أيلول/سبتمبر 2012) ، وبالأسرى الذين تحتفظ بهم إسرائيل (شباط/فبراير ونيسان/أبريل 2013) بالكثيرين إلى التساؤل عن احتمال اندلاع انتفاضة أخرى، أو حتى نهاية السلطة الفلسطينية. رغم وجود بذور مثل تلك الحالة، فإن جميع الأدلة تشير إلى أن مثل تلك المخاوف ـ أو الآمال بالنسبة لآخرين ـ مبالغ بها؛ فحتى الآن، ليس هناك مؤشر على توافر كتلة حرجة من الفلسطينيين ستدفع النظام السياسي الفلسطيني إلى نقطة الغليان أو التحرك بحدّة نحو المواجهة مع إسرائيل، التي تحاول تجنب الوصول إلى ذلك الوضع بإبقاء اقتصاد السلطة الفلسطينية عائماً والحد من حدوث إصابات بين الفلسطينيين، وخصوصاً سقوط قتلى، حيث أن الاحتجاجات التي لا ينجم عنها سقوط قتلى وجرحى سرعان ما تتلاشى. مع عدم وجود قيادة فلسطينية موحّدة، وعدم وجود استراتيجية، ومعاناة الناس أنفسهم من الانقسام والإنهاك، فإن انتفاضة جديدة لا تحظى بالكثير من الجاذبية.

من غير المحتمل أن تؤدي المسائل المتعلقة بالأوضاع المالية والأسرى، أو حتى المظاهرات التي تحتشد عند نقاط التفتيش أو البؤر الاستيطانية، بحد ذاتها، إلى ترجيح الكفة في السياق الراهن. صحيح أن الاقتصاد، الذي كان الورقة الأقوى في يد فياض في السنوات الأولى من وجوده في منصبه كرئيس للوزراء، تحوّل عام 2012 إلى أبرز نقاط ضعفه. ورغم أنه تغلب على الشلل السياسي، فإن تأخر دفع الرواتب لأشهر ودفع رواتب جزئية في بعض الأحيان أدى إلى إضعاف موقعه. نظراً لتراجع دعم الجهات المانحة، لا يمكن استبعاد انقطاع الرواتب في المستقبل، وبالتالي لا يمكن استبعاد الاضطرابات التي يمكن أن يحدثها ذلك. صحيح أن موضوع الأسرى لعب منذ وقت طويل دوراً محورياً في الخيال الوطني، حيث مُنح دائماً الأولوية، فإن المظاهرات التي خرجت في مطلع عام 2013 لم تكن بالتأكيد آخر مظاهرات تخرج دفاعاً عنهم.

إلاّ أن كون الوضع المالي للسلطة الفلسطينية والأسرى المضربون عن الطعام كانت هي القضايا التي دفعت إلى خروج احتجاجات كبيرة تظهر ضآلة ومحدودية آفاق السياسة الفلسطينية اليوم. في حين تعتبر القضيتان محوريتان في الحياة الوطنية، فإن ثمة أسباباً لتمحور النشاط السياسي حول هاتين القضيتين، فهما لا تتسببان في أي انقسام أو ضغينة (باستثناء تلك الموجهة ضد فياض). كلا القضيتان تحظيان بدعم جميع الأطراف وتلامسان القضايا الاستراتيجية المحورية ـ الانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة والاحتلال الإسرائيلي ـ التي يواجهها الفلسطينيون. تحظى القضايا الثانوية نسبياً بالجاذبية بالتحديد لأن الفصائل الرئيسية تسمح بالتعبئة حيال هذه القضايا ولأن الفلسطينيين العاديين يشعرون بأن لديهم القدرة على المطالبة بالتغيير. حالما كانت الاحتجاجات تهدد بتجاوز الحدود التي رسمتها القيادة ، كان يُكبح جماحها بسرعة. لقد كانت تلك الاحتجاجات أفعالاً تكتيكية ذات أهداف محدودة وليست محاولات لإحداث إعادة تموضع استراتيجي داخلياً أو حيال إسرائيل.

ثمة رغبة لدى بعض الفلسطينيين باستعمالها لإحداث تغييرات أكبر، إلاّ أن قلة منهم يبدو مستعداً للقفز نحو المجهول، حيث أن لديهم مخاوف حيال ما يمكن للتغييرات الجذرية في السلطة الفلسطينية أن تعنيه سواء للحركة الوطنية أو للفلسطينيين أنفسهم. لم يتمكن أولئك الذين يدعون إلى "إنهاء أوسلو" ـ بصرف النظر عما يمكن أن يعنيه ذلك ـ حتى الآن من إقناع الفلسطينيين بشكل عام بالتحرك، لأنه ليس من الواضح ما يمكن أن يحدثه ذلك؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى ليس هناك ضمانة على أن ذلك سيحل مشاكلهم.

ولهذا السبب فإن التقارير التي تنذر بدنو أجل السلطة الفلسطينية تبدو مبالغاً بها. لقد أثبتت إسرائيل أنها تعتبر وجود السلطة الفلسطينية، إن لم يكن ازدهارها، مصلحة وطنية لها. عمق الانقسامات بين فتح وحماس هو ما يعطي فتح دافعاً للمحافظة على السلطة الفلسطينية بوصفها أقوى مؤسساتها. يعتقد دبلوماسيون غربيون والعديد من الفلسطينيين أن مبالغ كافية من الأموال ستستمر في التدفق في المستقبل المنظور للمحافظة على حياة السلطة الفلسطينية، وأن الرئيس عباس سيبقى موجوداً وسيفعل ما بوسعه لتأخير الخطوات التي تتسبب بمخاوف كبيرة إزاء المواجهة مع إسرائيل. لا تزال المساعدات الممنوحة للفلسطينيين، وخصوصاً للسلطة الفلسطينية، بالمعنى الحرفي تشتري الوقت.

رغم ذلك، فإن فصلاً جديداً يجري تدشينه، حيث تتعرض السياسة الفلسطينية والسلطة الفلسطينية لتحوّلات جذرية. لم يعد الحديث عن خلافة عباس محظوراً، وهو ما يشير إلى أن الضفة الغربية تدخل في مرحلة انتقالية يحاول كثيرون تأجيلها. عندما يرحل عباس، ستنتهي حقبة كاملة بالنسبة للحركة الوطنية، حيث أنه آخر زعيم يتمتع بمكانة وطنية وشرعية تاريخية وملتزم فعلاً بالتسوية التفاوضية التي يفضّلها العالم. من غير المحتمل أن يكون "انهيار" السلطة الفلسطينية حدثاً عابرا، وسيكون "تفككها" غير ناتج عن إرادة واعية بقدر ما سيكون محصلة عملية تتمثل في التفريغ التدريجي للمؤسسات التي لم تكن قوية في يوم من الأيام. إن الاضطرابات المتكررة التي تشل الحياة، وارتفاع معدلات التغيّب عن العمل، والأعباء التي فرضتها ديون السلطة الفلسطينية على القطاع الخاص تشير إلى أن الأزمة الدائمة التي تواجهها هذه الهيئة شبه الحكومية تضعف النظام بأسره. إن تفكك السلطة الفلسطينية ليس تهديداً أو خياراً سياسياً بقدر ما هو واقع يتكشّف.

لا تعود جذور هذه التحوّلات فقط إلى ضعف السلطة الفلسطينية بل أيضاً لضعف النظام السياسي الفلسطيني، وربما بشكل أكثر جوهرية غياب شرعيته وهو الأمر الذي يشكل في سياق الاحتلال؛ أكبر تهديد لاستقرار الضفة الغربية. يمكن لنظام شرعي أن يتحمل ضغوطاً كبيرة؛ أما النظام الذي لا يحظى بولاء حقيقي فلا يمكنه تحمل الكثير من الضغوط. إن شراء الوقت من خلال الحلول المؤقتة سيحقق بعض الأهداف ويمكن أن يؤجل الانهيار لكنه لا يعدو كونه إجراءً سطحياً. أما محاولة التصدي للمسببات المحتملة للصراع فإنها ستؤدي على الأرجح إلى نشوء المزيد من هذه المسببات.

كذلك، ليس معنى أن الفلسطينيين لا يوجد لديهم رغبة بالتصعيد؛ أنه لن يحدث. في إسرائيل/فلسطين، الأحداث ذات العواقب الكبرى دائمة الحدوث؛ وبالنظر لهشاشة النظام، فإن أي صدمة كبيرة يمكن أن تُحدث تداعيات هامة: رحيل عباس ومعركة الخلافة التي ستنشأ عن ذلك؛ تصاعد عنف المستوطنين؛ حدوث صدامات كبيرة في الحرم الشريف في القدس؛ وفاة أحد الأسرى المضربين عن الطعام؛ أو حالة عنف سياسي صارخ يرتكبها أحد الطرفين وتخرج عن نطاق السيطرة. أصلاً، هناك اليوم جيل فلسطيني جديد بالكاد يذكر الانتفاضة الثانية وبدأ بعض أفراده بالإشارة إلى جيل آبائهم بأنهم خونة.

ثمة تعديلان رئيسيان ينبغي القيام بهما على جناح السرعة. على المدى القصير، ينبغي حماية السلطة الفلسطينية من تقلبات العلاقات السياسية الإسرائيلية ـ الفلسطينية والصدمات التي يمكن أن تحدث سلسلة من ردود الأفعال المترابطة داخل النظام الفلسطيني الهش:

  • على المستوى الاقتصادي، يمكن تحويل العائدات الضريبية التي تجمعها إسرائيل إلى طرف ثالث يحوّلها إلى السلطة الفلسطينية. من غير المحتمل أن تقبل إسرائيل بمثل هذا الحل بسهولة، لأنها تريد الاحتفاظ بنفوذها على الفلسطينيين، ولذلك ينبغي على الولايات المتحدة وأوروبا ممارسة الضغوط عليها.
  • على المستوى الأمني، ينبغي أن تفعل إسرائيل المزيد لكبح جماح المستوطنين الذين يمكن لهجماتهم على الفلسطينيين، من وجهة نظر العديد من المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين، أن تسرّع من حدوث الانتفاضة التالية. كما ينبغي أن تضع حداً لتوغلاتها في المناطق الفلسطينية واعتقال عناصر الأمن، إلاّ في الظروف التي لا يمكن تجنبها، لأن مثل هذه التصرفات يمكن أن تؤدي إلى حلقة من التصعيد.
  • يمكن لاستئناف المفاوضات أن يساعد في تأجيل التصعيد ـ ليس لأن الفلسطينيين يؤمنون كثيراً بما يمكن أن تقدمه هذه المفاوضات، بل لأنها ستمنح القيادة الفلسطينية مبرراً لتأجيل التحركات التي يمكن أن تطلق ديناميكية تصعيدية، مثل الخطوات التي يمكن أن تتخذ في المحكمة الجنائية الدولية أو غيرها من الهيئات الدولية، ولأنها يمكن أن تقنع البعض في قوات الأمن أن السلطة الفلسطينية لن تنتهي كمشروع وطني. وبهذا المعنى، فإن تجميد المستوطنات أو إطلاق سراح الأسرى، كإجراءات يمكن أن تسهّل استئناف المفاوضات، من شأنها أيضاً أن تشتري بعض الوقت. أما النتيجة التي تترتب على ذلك فهي أن انهيار المفاوضات يخاطر بتسريع نفس الديناميكيات التي صممت لإحباطها، وبالتالي فإن المفاوضات من أجل المفاوضات يمكن أن تكون أضرارها أكثر من منافعها.

مهما بلغت سماكة العزل، من المشكوك به أنه يمكن أن يتحمل اختبار الزمن أو الضغوط التي يمكن أن يحدثها تنامي الإحباط. من الناحية الموضوعية، فإن العديد من الظروف المواتية لاندلاع انتفاضة موجودة؛ فهناك الاستياء السياسي، وانعدام الأمل، والهشاشة الاقتصادية، وارتفاع حدة العنف وشعور طاغٍ بأن التعاون الأمني يحقق مصلحة إسرائيلية وليست فلسطينية. عند نقطة معينة ـ وعند توافر سبب غير متوقع ـ يمكن أن يقرر الفلسطينيون أن مصلحتهم على المدى البعيد تتحقق بشكل أفضل من خلال عدم الاستقرار، وأنهم يمكن أن يقتربوا من تحقيق مبتغاهم فقط بتوجيه هزة للوضع الراهن. ستكون النتيجة مختلفة على الأرجح عن الانتفاضة الثانية كما كانت الانتفاضة الثانية مختلفة كثيراً عن الأولى. لكن ما لم يتم اتخاذ خطوات لتوحيد وتعزيز شرعية المؤسسات الفلسطينية ودفع الإسرائيليين والفلسطينيين نحو سلام شامل، فإن حدثاً آخر يزعزع الاستقرار هو أمر محتوم. وبهذا المعنى، فإن دولارات المساعدات لا يمكن أن تحقق أكثر من شراء الوقت.

القدس/رام الله/بروكسل، أيار/مايو 2013

معد الدراسة: 
مجموعة الأزمات الدولية