عبقرية طفل النكبة الفلسطينية

بقلم: 

عندما وقعت النكبة كان المهندس المعماري راسم بدران في الثالثة من العمر، وفي عمر الرابعة رسم بالألوان المائية منظراً طبيعياً في رام الله، وصورةً لمنزله فيها. وانتقلت العائلة إلى دمشق فرسم، وهو في السادسة، رسوماً ملونة للمدينة المفعمة بالحياة. وفي طرابلس الغرب، حيث انتقل والده عام 1953 للعمل في «اليونسكو»، انكبّ على رسم لوحات تصور مشاهد عيش الجاليات البريطانية والأميركية، والقاعدة العسكرية الأميركية القائمة آنذاك قرب منزله. و«يثير الدهشة إدراكه المبكر للواقع المحيط، والتفاصيل، إضافة إلى المنظور وتنويعات الضوء والظل». كتب ذلك جيمس ستيل، أستاذ العمارة في جامعة «ساوث كاليفورنيا» بالولايات المتحدة، ومؤلف كتاب «راسم بدران... حكايات الناس والمكان». ونشارك المؤلف الدهشة عندما نتصفح الكتاب الصادر عن دار «تيمس آند هدسن» المعروفة عالمياً بنشر الكتب المعمارية والفنية. يضم الكتاب رسوم بدران منذ طفولته، وعشرات التصاميم والصور لأعماله الهندسية، بدءاً من «متحف المستقبل» خلال دراسته الجامعية في ألمانيا، وحتى جامع الدولة الكبير في بغداد، ومتحف الفنون الإسلامية في الدوحة، ومجمع «قصر الحكم» في الرياض، والجبهة البحرية لميناء صيدا في لبنان.

وتعيد سيرة بدران رسم خارطة جغرافية الارتحال، التي يتحدث عنها أدوارد سعيد في مذكراته «خارج المكان». بدران خارج المكان داخل المكان منذ أم غادرت عائلته القدس التي ولد فيها عام 1947. فالمعماري لا يتعامل «مع المكان، كواقع ساكن لا يتغير، بل متحرك دائماً إلى الأمام»، حسب بدران الذي يصف كيف شَحَذ الترحال الدائم قابلياتَه وقدرتَه على حفظ الصور في ذهنه، بجميع تفاصيلها، وبأحداثها وتجاربها. وهو «قادر على استعادتها لاحقاً ومراجعتها نقدياً عند وضعها على الورق، بدلا من استنساخها ورسمها كصور ساكنة». هذا التصور النقدي للمكان بتعقيدات وتفاصيل محتواه يمنح بدران رؤية منفصلة عن المشهد، ويهبه تصوراً ومخيالا جديدين في التصميم المعماري خصوصاً. فهو كراوي الحكايات يقيم مسافة نقدية مع الأحداث التي يصفها، والطريقة التي يتم تصويرها. ويتوقف جيمس ستيل عند قدرة بدران «في النظر إلى كل إقليم أو قضية بمنظار طازج، وتمثّلها، ثم تأويلها بصورة معقدة متميزة تجعله مختلفاً عن آخرين حاولوا العثور على طريقة لترجمة التقاليد في شكل معاصر».

وبدران من جيل ثورة الطلبة التي اندلعت في الستينيات ببلدان أوروبية عدة، لكنها في ألمانيا، حيث درس هندسة العمارة، كانت ألمانية. وكما يقال «الناس في إنجلترا يبحثون عن شيء يقرؤونه، والفرنسيون عن شيء يتذوقونه، والألمان عن شيء يفكرون به». وقد فكرت ثورة طلاب العمارة الألمان بأهم منجزات العمارة العالمية في القرن العشرين؛ «عمارة الحداثة». يقول بدران عن ذلك: «كانت الستينيات عصر المقاومة ورفض الأنظمة الأكاديمية التقليدية المنظمة. لقد رفضنا المشاركة في البيزنس كالمعتاد، ورفضنا أساطين الفكر المعماري الغربي، مثل فرانك لويد رايت، ومايز فان در روه، وكينزو تانجه. قاطعنا محاضراتهم في جامعاتنا لأننا لم نوافق على ذاتيتهم المفرطة. وكرهنا حقيقة أنهم يفرضون طرازهم على العمارة العالمية، ويحاولون السيطرة عليها عن طريق الشخصنة المتطرفة، ويدافعون عن النظام الهندسي الصارم خلال العصر الصناعي لما بعد الحرب. لقد أرادوا للعمارة أن تكون تجسيداً للذات». وكما دفعت الثورةُ الطلبةَ الألمان إلى إعادة اكتشاف التراث الألماني المعماري، دفعت بدران إلى إعادة اكتشاف تراث العمارة الإسلامية، ومحصلة ذلك في تقدير ستيل «الخلطة المعقدة لبدران العقلاني والحدسي، البراجماتي والمثالي في آن، والباحث بإخلاص عن طريق ثقافي لجعل العمارة أكثر صلة بالمجتمع».

وإذا كانت «العمارة منحوتة مسكونة»، حسب النحات الروماني برانكوزي، فمدينة عمّان التي أقام فيها بدران مكتبه «دار العمران»، منحوتة عملاقة من تلال مسكونة. وعلاقة بدران الحميمية بعمّان كالعلاقة مع الحبيبة التي تزوجها من لا يعتبره أهلاً لها. فوجئت بذلك عندما غامرتُ بجولة بالسيارة معه في شوارع عمّان؛ أنا أرى بعينيّ سحر المدينة التي تكشف محاسنها، أو تسترها، إذ نعتلي مرتفعاتها وننحدر مع منحنياتها، وبدران يرى بقلبه جمالها المنتهك الذي لا يمكن ستره. والمساكن التي شرع بدران بتصميمها وبنائها في عمان منذ السبعينيات من أعمال الحب المستحيل، الذي يريد أن يعوض الحبيبة عمّا فعلوه بها. مدخل منزل سهيل الخوري، وفناء منزل حتاحت، ومدرج الأمير عاصم، والتداخل الخلاب للهندسة الداخلية والخارجية لمنزل التلهوني، إبداعات معمارية تعكس، حسب ستيل، «وعي بدران المبكر لمسائل الخصوصية وتغير سلوك الناس، والذي كان تاريخياً مركز اهتمام العمارة الإسلامية».

ولم يتمسك بدران بمبدأ حسن فتحي في استخدام المادة المحلية في البناء، عندما طُلب منه، في عام 1983، بناء مجمع سكني غير مكلف للعاملين في مصانع الإسمنت في الفُحيص قرب عمّان. المجمع الأنيق الذي أقامه تسرّ العين مسطحاته وسلالمه المصنوعة كلياً من الإسمنت، كأنها الكتل الحجرية الأبنوسية التي تميز عمّان.

وقد تبدو المسافة بين المجمع السكني الصناعي في عمّان، ومجمع قصر الحكم، والجامع الكبير الذي صممه بدران في الرياض، كما بين السماء والأرض، وهي كذلك، إلا أن أبواب السماء مفتوحة في الإسلام. وبدران لا يعتبر لارتفاع المنائر والقبب دوراً مهماً في مكانة الجامع وقيمته في نسيج المدينة، ويقول: «على العكس من ذلك، سعيتُ لتحقيق أناقة معتدلة أكثر تناغماً مع الطابع العمراني للرياض». ويعتبر جيمس ستيل منجز بدران تحقيق «البعد الرابع الروحي في العمارة»، ويبهره شرح بدران لعلاقة المسلم بالمكان: «الوحدة ما بين وقت الصلاة وتوجهها تمنح النسيج العمراني للمدينة نوعاً من القدسية السيّالة بسبب التغير الدائم لأماكن الصلوات اليومية الخمس خارج الميادين المادية للجوامع نفسها».

والعمارة أقرب العلوم للفن، وأقرب الفنون للعلم، وبدران درس علومها في جامعة دارمشتاد بألمانيا، وفتح عينيه على فنونها في أعمال أبيه جمال بدران، المشهور بإعادة خطوط المسجد الأقصى بعد حريق منبر صلاح الدين عام 1969. وُلد بدران الأب، في حيفا، وعندما زرته في منزله بعمان عام 1997، وكان على تخوم التسعين، أدهشني جذل الشباب في عينيه، ومسكة أنامله الواثقة على قصبة الخط، والتي يسميها الخطاطون «مشقة» كامتشاق السيف. استنسخ بدران الأب بنفسه الكتابات والزخارف التي عهد له بتجديدها «مجلس إعمار المسجد الأقصى»، وواصل حتى رحيله عام 1999 العمل يومياً في كتابة وتلوين لوحات تنفذ بالفسيفساء على جدار في المسجد الشريف طوله 23 متراً وارتفاعه متراً. سألتُه عن سر شبابه الدائم، فأشار إلى أم راسم، وتورّدت وجنتاه، وهو يردد الآية الكريمة: «سبحان الذي هدانا إلى هذا وما كنا لنهتدي»... وهل غيره يهدينا بعد 65 عاماً من النكبة؟

 

المصدر: 
الاتحاد