الشام بعد القدس: في التيه مرة ثانية

بقلم: 

تاه أبو عمر في شوارع عمان.. مشى الثمانيني على وقع زفراته الموجعة في شوارع لم يأنسها, يجرجر ببطء قدمين أضناهما طول العمر، يسأل عن «كراج الشام»، يريد ان يعود الى الشام. لم تخفِ عيناه الهائمتان على الأرصفة ضياعه وغربته. يستند بمرفقه على واجهة محل قديم مستجمعاً جسده. «إلى أين يا عم» يسأله الفتى على باب المحل. «إلى الشام أريد أن أعود، الى الشام، أولادي في الشام».
جسده الهش لم يعرف النوم منذ غادر مخيم اليرموك إلى أحد أحياء دمشق، ومن ثم عمان. وصار النوم العادي متعذراً جداً، إن لم يكن مستحيلاً، والأولاد والأحفاد من حوله يحيطون به يتابعون كل دمعة من دمعاته، محاولين بصخبهم وانشغالهم بالمعيشة الصعبة، صرفه عن محاولات العودة المتكررة التي تنتهي فيه في أحد أقسام شرطة المدينة ليتسلمه أحد الأحفاد أو الأولاد
يملأه شعور غامر بالفقد.. فما زال مخيم اليرموك يسكن ذاكرته وقدماه اللتان اعتادتا السير يومياً حتى فرن أبو فؤاد ما زالتا تحنان الى هذا المشوار الصباحي، في صباحات المخيم العامرة بالحركة، العابقة برائحة الخبز وهرولات التلاميذ المتأخرين بين الحارات، ووجوه الموظفين المألوفة الذين أدمنوا على مر السنين الذهاب والإياب من والى مخيمهم. اشتاق للذهاب إلى معمل البلاط، معمل أبو عمر الذي كان يعرفه الناس به، الذي بناه بالقرب من مقبرة الشهداء، حيث كان يقرأ الفاتحة كلما اقترب من حضرة الشهداء
اشتاق لهذا الإحساس بالحميمية الذي يولده مشهد الناس المزدحم وأصحاب المحلات التجارية أمامها يتبادلون الأحاديث وصخب المتسوقين على بسطات المخيم المنوعة وعربات الخضر القادمة من الغوطة التي لا تكاد تترك للقدم موطئاً.
اشتاق للمنزل القابع في احد زواريب المخيم، الشاهد اليومي على تفاصيل حياة يومية كثيفة لا تتوقف ليلاً ونهاراً. حياة تعج بقصص وأحاديث الجيران، فلا الجدران تحجب السمع ولا النوافذ المتقاربة تخفيها، ولا الساكنون قادرون على لجم أصواتهم المرتفعة بتفاصيلهم اليومية. إنهم الأحياء هناك، يقتسمون الفقر والكدح بشجارهم وتوددهم، بحلمهم وأملهم، يعيشون مخيمهم بنهاره الصاخب وليله الذي لا يجيء، فالمقاهي لا تغلق، والساهرون على عتبات الأبواب يواصلون السهر، وكأس الشاي والأركيلة عنوانا الجلسات المسائية... 
حياة المخيم ليست ككل حياة، ومن يعش في المخيم يصعب عليه الخروج منه، يدمن ضجيجه وغباره وزحامه وألفته، وأبو عمر لم يعرف غير المخيم، فهو المقدسي الذي ترك القدس يافعاً، وما زال كلما اشتاق لشوارع القدس العتيقة المعشعشة في ذاكرته يركب الباص الى سوق الحميدية، ويدخل حارات دمشق القديمة الى «قهوة النوفرة» ثم الى سوق البزورية، متنشقاً رائحة القدس من رائحة جدران دمشق وعتبات بيوتها القديمة.
يقول لي بلهجته المقدسية: «بس أشتاق للقدس أروح ع الشام القديمة والقدس والشام زي بعضهم»... يمشي في أزقتها الهادئة مستمتعاً بطرق خطواته على شوارعها المرصوفة. هناك يجد القدس بشوارعها وحاراتها، يرى في الجامع الأموي ما يذكره بيوم الجمعة حين كان والده يصطحبه للصلاة في الحرم القدسي الشريف.
لم يستوعب عقله نكبته الثانية ولم يحتمل الخسارات المتتالية التي خلفها التطاحن الدموي في مناطق مختلفة من المخيم وعلى مداخله وبواباته الرئيسية، واستمرار حالات القنص واستسهال القتل. فكان انتزاعه مع الآلاف الذين خرجوا هائمين في فجر شتوي شديد القسوة سائرين على الأقدام ملتحفين ببعض ما استطاعوا الوصول إليه، تاركين وراءهم كل ما بنوه وأسسوه بشق الأنفس، تاركين مخيمهم العامر مدينة أشباح. دمار وغبار، وصوت مدافع ورصاص...
مخيم اليرموك بنته أجيال من الفلسطينيين بالكد والكفاح والعمل الدؤوب، وكان رمزاً حياً للوجود الفلسطيني وشاهداً حياً على جنازات الشهداء المتتابعة بلا توقف، وهو الذي رد الجميل لأهل الشام باستقبال مئات العائلات التي هربت من الحريق الذي دمر قراهم.. فكان جزاؤه ان أصبح مسرحاً لتصفية الحسابات، حسابات السلطة والمعارضة وحسابات الرابحين والخاسرين في صراع القوى الكبرى والإقليمية.
ضاع حلم الفلسطينيين وضاع أبو عمر وتاه بعيداً عن مخيمه.. لم يدر ان مخيمه لم يعد له وجود، فقد دمرته القذائف وشوهته رصاصات القناصين... لم يدرك أي لعنة حلت بهذه الأرض وأخذت معها البلاد والعباد إلى جهنم الحرب.

المصدر: 
السفير