إشكالية المسألة الانتخابية في مناطق السلطة الفلسطينية في ظل الانقسام

 

 

مقدمة

في سابقة تاريخية تُفرض انتخابات بلدية وتشريعية ورئاسية على شعب تحت الاحتلال كاستحقاق وتكون الانتخابات جزءا من مشروع تسوية سياسية [1]ما بين الشعب الخاضع للاحتلال ودولة الاحتلال ثم استحقاقا منصوصا عليه في القانون الأساسي لسلطة خاضعة للاحتلال. وحيث لا يمكن أن تكون دولة احتلال قامت عن طريق الغزو والعدوان وتستمر بالقتل والاستيطان والاعتقال، معنية بمصلحة الشعب الخاضع للاحتلال أو معنية بأن يحكم هذا الشعب نفسه بحرية،لذا يصبح من المشروع التساؤل حول الأهداف الحقيقية لفرض هذا الاستحقاق الانتخابي قبل نيل الاستقلال.

 هذا ما جرى مع الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة. فلأن الديمقراطية التي اُختزلت بالانتخابات جاءت قبل الاستقلال وقيام الدولة المستقلة وقبل نضج الشروط الموضوعية للديمقراطية كنظام حكم وللانتخابات كآلية سلمية لتداول السلطة و خارج سياق التطور السياسي المجتمعي الطبيعي ...فقد فشلت الانتخابات التشريعية والرئاسية التي جرت منذ تأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994في إخراج النظام السياسي الفلسطيني من مأزقه وفشلت بدمقرطة المجتمع حيث انتشر العنف السياسي يشكل غير مسبوق، بل أصبحت الانتخابات بحد ذاتها موضعا للخلاف، حيث تشهد الساحة الفلسطينية جدلا محتدما حول شرعية المؤسسات القائمة – رئاسية وتشريعية وحكومة- المستمدة من الشرعية الانتخابية،كما تُطرح تخوفات حول قدرة الانتخابات علي وضع حد لحالة الانقسام السياسي،هذا. اليوم  أصبحت الانتخابات سببا مؤجِجا للخلافات الداخلية بعد إصرار الرئيس أبو مازن على عقدها بموعدها وتهرب حركة حماس منها.

فهل نجح مخططو التسوية في مسعاهم لتحويل السلطة ومؤسساتها لعبء على الشعب الفلسطيني ولتحويل الانتخابات لميدان صراع واقتتال داخلي ؟هل الخلل يكمن في مبدأ الانتخابات كمصدر للشرعية أم في غياب ثقافة الديمقراطية التي تجعل الانتخابات كذلك؟وما مستقبل السلطة الفلسطينية والقضية الوطنية برمتها في حالة نجاح أو فشل الانتخابات ؟

الإجابة عن هذه الأسئلة تحتم وضع الانتخابات في سياقها وهو أنها جزء من سيرورة بناء نظام سياسي لشعب تحت الاحتلال، وهي عملية مرتبطة بمسار التسوية السياسية، وهذا يستدعي أولا: مقاربة الانتخابات في سياق خصوصية التجربة الديمقراطية الفلسطينية في مناطق السلطة، ويستدعي ثانيا: البحث في التجارب الانتخابية السابقة ولماذا لم تعزز المسار الديمقراطي؟ وتتطلب ثالثا: البحث في الشروط والضمانات التي يمكنها صيرورة الانتخابات مخرجا للنظام السياسي من أزمته. وهذا بدوره يطرح السؤال هل ستُجرى انتخابات بالفعل؟وألا يمكن حل الخلافات بالتوافق والتراضي بدلا من الانتخابات؟ وماذا لو رفضت حركة حماس المشاركة بالانتخابات؟

حتى نلم بالعملية الانتخابية وما إثارته وتثيره من إشكالات، سنتناول الموضوع من خلال المحاور التالية:-

 

أولا: الانتخابات في ظل الاحتلال تؤسس لديمقراطية تحت الوصاية.

 ثانيا:انتخابات لشرعنة نخب مأزومة وليس لدمقرطة المجتمع.

ثالثا:الخارطة السياسية بناء على الموقف من الانتخابات

رابعا: هل يمكن للانتخابات أن تنوب عن التوافق والتراضي في تحديد ثوابت ومرجعيات الأمة؟

خامسا :الانتخابات ومستقبل النظام السياسي ما بعد الانقسام.

 

 

أولا: الانتخابات في ظل الاحتلال تؤسس لديمقراطية تحت الوصاية.

 

لا غرو أن الديمقراطية ليست عقيدة جامدة بل نظام للحكم يقوم على مبادئ عامة أهمها ضمان حرية الرأي والتعبير والتداول السلمي للسلطة بين أحزاب وقوى سياسية متفقة حول ثوابت الأمة ومختلفة حول التفاصيل، من خلال انتخابات حرة ونزيهة، وخلق دولة المؤسسات والقانون بدلا من دولة الزعيم والحزب الواحد الخ وهي مبادئ لا مجال لتطبيقها إلا في ظل مجتمع يعيش داخل دولة ذات سيادة أو مجتمع سيد نفسه، ذلك أن انتفاء سيادة الأمة وحرية الجماعة تنتفي إرادة أبنائها في الاختيار الحر لمصيرهم. لكن وحيث أن لا مجتمع يعيش نفس الشروط التاريخية والموضوعية للمجتمعات الأخرى فإن هذه المبادئ العامة يمكن تبيئتها حسب خصوصيات كل مجتمع ولذا فهناك مداخل متعددة للديمقراطية. ومع ذلك وفي جميع الحالات فإن أهم مؤشر على وجود نظام ديمقراطي هو الحرية، حرية الوطن وحرية المواطن، فلا يمكن لشعب خاضع للاحتلال أن يمارس انتخابات نزيهة تؤسس لنظام ديمقراطي، فالاستعمار نقيض الحرية بكل تجلياتها وبالتالي نقيض الديمقراطية. وعليه نلاحظ بان مسألة الحكم الديمقراطي من خلال التنافس عبر صناديق الانتخابات لم تكن مطروحة عند حركات التحرر في العالم سواء تجربة الثورة الفرنسية أو الثورة الأمريكية أو الثورة الجزائرية أو الثورة الفيتنامية الخ، فحركات التحرر لا تستمد شرعيتها من صناديق الانتخابات بالضرورة. واليوم تثار الشكوك حول شرعية ونزاهة الانتخابات التي جرت في العراق وأفغانستان في ظل الاحتلال وشرعية المؤسسات والقيادات التي تفرزها الانتخابات. إن أي انتخابات في ظل الاحتلال لا يمكنها إلا أن تنتج نظاما سياسيا خاضعا للوصاية وناقص السيادة. 

في الحالة الفلسطينية وبالرغم من عراقة الشعب الفلسطيني وممارسته الانتخابات في مستويات وأوضاع متعددة خارج إطار السلطة السياسية، إلا أنه يجب التعامل بحذر مع محاولة تطبيق الديمقراطية وما تستدعيه من انتخابات في مناطق السلطة ليس رفضا للديمقراطية وللانتخابات ولكن لأن استحقاقاتهما وخصوصا الانتخابات تتصادم  مع سياق حركة التحرر الوطني التي يفترض أن الشعب الفلسطيني ما زال يمر فيها ولأن واقع الاحتلال لا بد أن يؤثر سلبا على العملية الانتخابية وبناء الديمقراطية. يمكننا الإشارة إلى أهم أسباب الحذر من المسار (الديمقراطي) والانتخابي في الحالة الفلسطينية وهي التالي :

 

1 : غياب الدولة الفلسطينية المستقلة وبالتالي غياب نظام سياسي فلسطيني يمكن أن نُحيل إليه صفة (الديمقراطي) أو أي صفة دولاتية، فالديمقراطية هي نظام سياسي يحدد علاقة الحاكمين بالمحكومين في الدولة والشعب الفلسطيني ما زال خاضعا للاحتلال وبالتالي فاقد السيادة. مع التأكيد بأننا نتحدث عن الديمقراطية كنظام حكم، أما دون ذلك فيمكن تلمس مؤشرات دالة على وجود ممارسات ديمقراطية كالانتخابات داخل الاتحادات الشعبية والأحزاب.

 .

2 : كون الشعب الفلسطيني لم يتجاوز بعد مرحلة التحرر الوطني، وحركات التحرر الوطني كانت تؤجل قضايا الصراع الاجتماعي والاستحقاقات الديمقراطية إلى ما بعد التحرير، حيث إن متطلبات مواجهة الاحتلال أكثر أولوية من الصراع على السلطة.

3: غالبية الأحزاب والقوى السياسية القائمة ما زالت محكومة إما ببقايا الفكر الاشتراكي والثوري وهو فكر يؤسس على برادغمات او مسلمات غير متصالحة مع الفكر الديمقراطي، أو بفكر الجماعات الإسلامية التي لا تؤمن لا بالديمقراطية ولا بالمشاركة السياسية ولا بالتداول على السلطة سلميا.

4: في ظل حالة الانقسام القائمة فإن انتخابات دون مصالحة وتوافق قد تؤدي لتكريس حالة فصل غزة عن الضفة وتعمق الانقسام السياسي والإيديولوجي.

 

إن أية مقاربة موضوعية للاستحقاق الانتخابي في مناطق السلطة ستصل لنتيجة مفادها أن هذه الانتخابات منفصلة عن العملية الديمقراطية وان المخططين الأوائل لها لم يكن هدفهم تأسيس دولة فلسطينية ديمقراطية بل أهداف أخرى أهمها دفع القيادات والنخب للتخلي عن الشرعية الثورية والجهادية وإلزامها بشرعيات تلزمها باستحقاقات دولية وتعاقدية مرتبطة بالتسوية السلمية، وخلق حالة من التنافس والصراع على السلطة بين النخب والأحزاب السياسية تبعدها عن المواجهة الحقيقية مع إسرائيل.

 

ثانيا: انتخابات لشرعنة نخب مأزومة وليس لدمقرطة المجتمع.

 

سعت اتفاقية أوسلو وسلطة الحكم الذاتي التي أنتجتها في الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1994، إلى نقل المجتمع من مرحلة الثورة إلى مرحلة المراهنة على الحلول السلمية، وبالتالي إنهاء الثورة وحالة الصراع مع إسرائيل مع ما يترتب على ذلك من تغير في وظيفة المؤسسات المدنية والسياسية والعسكرية التي واكبت مرحلة الثورة ونقل مركز ثقل حركية المجتمع الفلسطيني من خارج فلسطين إلى داخلها[2]. إلا أن أهم تحول فُرض على الفلسطينيين هو البحث عن شرعية جديدة للقيادة السياسية كبديل للشرعية التاريخية والثورية السابقة التي وإن كانت مأزومة إلا أن الهدف من الانتخابات ليس إيجاد قيادة وطنية بشرعية انتخابية أو دمقرطة المجتمع بل خلق قيادات جديدة مقيدة بشرعية ملتزمة بالاتفاقات الموقعة بحيث يكون استمرار شرعية وجودها مرتبط بالتزامها بهذه الاتفاقات، من هنا نصت اتفاقات أوسلو على إجراء الانتخابات وهو ما حدث عام 1996 وبعد ذلك نصت خطة خارطة الطريق عليها. انتخابات 1996إن نجحت في خلق شرعية (ديمقراطية) للقيادة السياسية سهلت عليها التعامل الدولي إلا أنها لم تنجح في شرعنة النظام السياسي داخليا بشكل كامل ولا في حل أزماته أولا بسبب مقاطعة حركة حماس وقوى سياسية أخرى لها، حيث استمرت حركة حماس متمسكة بالقول بالشرعية الجهادية والدينية، وثانيا لأن إسرائيل لم تكن معنية بنجاح القيادة الفلسطينية بتحقيق أهدافها حتى ضمن الاتفاقات الموقعة.

بعد سنوات من الممانعة وعندما شعرت حركة حماس بأن النهج المسلح الذي تقوم به وخصوصا داخل إسرائيل وعمليات إطلاق الصواريخ وصل لطريق مسدود ـ وبعد سنوات من انطلاق انتفاضة الأقصى دون أن تتمكن من تجديد الحالة النضالية أو توحيد الشعب على إستراتيجية واحدة، قررت حركة حماس الدخول في النظام السياسي أي في سلطة الحكم الذاتي  التي كانت ترفضها، حتى وإن كان دخولا تكتبكبا.

سعي حماس لاكتساب شرعية دستورية ودولية بدأ بشكل متدرج من بوابة الانتخابات التي بدأت بالانتخابات البلدية ثم الانتخابات التشريعية فيما استنكفت عن المشاركة بالانتخابات الرئاسية، إلا أن هذا الدخول لم يكن تعبيرا عن الإيمان بالديمقراطية والرغبة بالمشاركة السياسية في إطار ثوابت ومرجعيات النظام السياسي الذي أسسته اتفاقات أوسلو بل كوسيلة للانقلاب على هذا النظام. ومن هنا فإن دخول حركة حماس للانتخابات قبل أن تتوافق مع السلطة وبقية القوى السياسية على أسس وثوابت النظام الذي تزمع دخوله من خلال الانتخابات، أدى لفشل الانتخابات في تحقيق هدفها وهو  إصلاح  النظام السياسي [3]بل أدت الانتخابات لتعميق أزمة النظام السياسي وحدوث اقتتال وحرب أهلية ثم انقسام النظام السياسي.

 

لا نروم من هذه المقاربة لعلاقة الانتخابات بالديمقراطية والسيادة الوطنية وبالشرعيات المأزومة، التقليل من أهمية التوجه نحو الديمقراطية في المجتمع الفلسطيني والمحاولات الحثيثة للمزاوجة ما بين النضال الديمقراطي والنضال التحرري، أو الزعم بان الممارسة الديمقراطية تتناقض كليا مع العمل ضد الاحتلال، ولكن مرامنا التأكيد بان أولوية الشعب الخاضع لاحتلال هي مقاومة الاحتلال وليس الصراع على سلطة بدون سيادة، أيضا التأكيد بأن الديمقراطية ليست فقط انتخابات بل ثقافة وقيم،حيث لا يمكن تأسيس نظام ديمقراطي بما يتضمنه من انتخابات نزيهة وتعددية سياسية و تداول سلمي على السلطة في ظل الاحتلال. في حالة كحالة الشعب الفلسطيني كان من الأنسب لو أخذ الأمر شكل التوافق والتراضي بدلا من اللجوء للانتخابات، أو أن تسبق الانتخابات التراضي والتوافق، بحيث تختلف الأحزاب والقوى السياسية حول البرامج و تتفق حول ثوابت الأمة والنظام السياسي كما هو الأمر في الدول الديمقراطية، في هذه الحالة فإن من يفوز بالانتخابات يمارس السلطة ويطبق برنامجه السياسي في إطار ثوابت الأمة و مرتكزات النظام السياسي ومن يفشل في الانتخابات يمارس حقه في المعارضة ولكن في إطار نفس الثوابت والمرتكزات.

 

ثالثا:الخارطة السياسية بناء على الموقف من الانتخابات

 

بسبب الخصوصية المشار إليها فقد تباينت مواقف القوى السياسية تجاه الانتخابات مع الإشارة إلى عدم ثبات هذه المواقف. وبشكل عام يمكن القول بوجود ثلاثة تصورات في الساحة الفلسطينية تجاه الانتخابات:-

الأول: الاتجاه المؤيد للمشاركة بالانتخابات دون تحفظ..تمثله حركة فتح والقوى الوطنية المنضوية في منظمة التحرير  بالإضافة للمبادرة الوطنية، ومنطلق هؤلاء أن الانتخابات هي الحل لأزمة النظام السياسي الفلسطيني، سواء أزمة منظمة التحرير أو أزمة سلطة الحكم الذاتي، أو أزمة الخلاف بين حركتي فتح وحماس، فهذه الأزمة تحتم إعادة بناء النظام السياسي على أسس جديدة وديمقراطية بعد فشل المرتكزات التقليدية للنظام وخصوصا نظام الحصص (الكوتا) والتعيينات الفوقية، أو تعدد السلطات والشرعيات داخل النظام السياسي. هذه القوى ملتزمة أيضا بالعملية السلمية وبالاتفاقات الموقعة وبنهج المفاوضات وإن كانت تختلف حول بعض التفاصيل. 

الثاني: الاتجاه الذي يفصل المشاركة بالانتخابات عن الديمقراطية وعن تسوية أوسلو واشتراطاتها، وتمثله حركة حماس. حيث ارتأت هذه الحركة بداية عدم المشاركة في أول انتخابات تشريعية ورئاسية من منطلق أن هذه الانتخابات تجري في ظل الاحتلال وتلبية لاتفاقات لا تعترف بها الحركة، أيضا، إن مرحلة الثورة لم تنته بعد وأن الواجب الوطني والديني يتطلب توجيه كل الجهود لمقاومة الاحتلال الصهيوني بدلا من الانشغال بقضايا ثانوية كالصراع على سلطة لا تملك من السلطة إلا اسمها، ولم تتورع حركة حماس من تأليب الناس ضد الانتخابات موظفة الخطاب الديني بالزعم بعدم شرعية الانتخابات دينيا، الأمر الذي أدى إلى اقتصار الانتخابات التشريعية الأولى عام 1996 ثم الانتخابات الرئاسية على حركة فتح وبعض فصائل منظمة التحرير وبعض الشخصيات المستقلة. كان من الطبيعي أن ترفض حركة حماس آنذاك نتائج الانتخابات وتشكك بشرعية ما ترتب عنها. ولكن حركة حماس تخلت عن موقفها لاحقا –كما سبقت الإشارة- وقبلت بالتعامل مع الانتخابات بعد طول ممانعة ليس من منطلق الإيمان بالديمقراطية فكرا وممارسة ولا من منطلق الرغبة في آن تكون شريكا بالسلطة ومرجعيتها بل لكسب شرعية جديدة تعوضها عن تأزم الشرعية والتأييد الذي حضت به لسنوات نتيجة العمليات الاستشهادية وعمليات إطلاق الصواريخ، وبالتالي ارتأت أن الظروف مواتية لتكتسب شرعية مقبولة دوليا تمكنها من الخروج من المأزق ومن التواصل مع العالم الخارجي، ولكن كتوظيف غائي وتكتيكي لتنقلب لاحقا على السلطة ومرجعياتها. [4]

الثالث:تمثله حركة الجهاد الإسلامي و حزب التحرير وبعض القوى الإسلامية الجديدة. هذه القوى ما زالت ترفض من حيث المبدأ وجود السلطة الوطنية والديمقراطية وبالتالي ترفض المشاركة بمؤسساتها سواء عن طريق الانتخابات أو غيرها.[5]

 

رابعا: هل يمكن للانتخابات أن تنوب عن التوافق والتراضي  في تحديد ثوابت ومرجعيات الأمة؟

 

حتى نستشرف مستقبل النظام السياسي في ظل إشكال العملية الانتخابية يجب معرفة الأسباب التي أدت لفشل الانتخابات السابقة في حل أزمة النظام السياسي؟ ولماذا أدت الانتخابات إلى عكس ما كان متوقعا منها؟

بات واضحا أن الانتخابات التي كان يُراهن عليها لإخراج النظام السياسي _ السلطة الوطنية- من أزمته تحولت لأزمة ومشكلة بحد ذاتها، ذلك أن الانتخابات أصبحت من القضايا الخلافية الأساسية التي تعترض التوصل لمصالحة وطنية بعد الانقسام وفصل غزة عن الضفة حيث تم تخصيص لجنة من لجان الحوار الوطني التي عُقدت بالقاهرة للانتخابات. تمحورت الخلافات حول ملف الانتخابات، بداية حول ولاية الرئيس أبو مازن وهل انتهت أم سارية المفعول؟ وحول شكل النظام الانتخابي: نسبي بالكامل أم مختلط؟ وحول اللجنة الانتخابية ومرجعيتها؟ وأخيرا أصبحت حركة حماس تُرهن الانتخابات بالتوصل للمصالحة الوطنية والتوافق الوطني. كما أن إعلان حركة الجهاد الإسلامي عدم مشاركتها بالانتخابات وظهور جماعات دينية جديدة وخصوصا في القطاع سيخلق مشكلة في استقرار النظام السياسي ما بعد الانتخابات حيث قد تلجأ هذه القوى لنفس نهج حركة حماس في الفترة الواقعة ما بين 1996 و 2006 .

دراسة أسباب فشل الانتخابات التشريعية السابقة في إخراج النظام السياسي من أزمته سيساعدنا على مقاربة فرص نجاح أي انتخابات قادمة، ونعتقد أن أهم أسباب الفشل – مع الأخذ بعين الاعتبار مستجد الانقسام وتداعياته -:

 

1- غياب الاتفاق على أسس ومرجعيات النظام السياسي

 

عندما تصبح أسس ومرتكزات  النظام السياسي: الدولة والمقاومة والسلام وحتى الهوية التي تؤطر وجوده وحركته إقليميا ودوليا، محل تساؤل ونقاش، فهذا معناه وجود أزمة عميقة تتعدى كونها أزمة حكومية عادية أو أزمة سياسية نتاج للحراك الاجتماعي والسياسي الناتج عن ملامسة رياح الديمقراطية. في الوضع الطبيعي فأن الديمقراطية بمستلزماتها وتوابعها لا تغير من الثوابت والمرجعيات مع كل جولة انتخابية، وإلا ما كان للأمة ثوابت ومرجعيات وطنية والتي هي أساس التعامل الدولي وموئل استراتيجيات العمل الوطني وبناء الثقافة الوطنية والناظم لكل عمل وطني على قاعدة مفهوم المواطنة.ولنتصور أنه يعود لكل حزب سياسي أو جماعة صياغة الثوابت والمرجعيات الوطنية حسب عقيدته وأيديولوجيته، فتصبح لدينا ثوابت ومرجعيات دينية وثوابت ومرجعيات ماركسية وثوابت ومرجعيات قومية وثوابت ومرجعيات وطنية وثوابت ومرجعيات طائفية بعدد الطوائف وثوابت ومرجعيات إثنية بعدد الأعراق الموجودة بالدولة الخ، وبالتالي سيسعى كل حزب فائز بالانتخابات لتطبيق تصوره للمصلحة والثوابت الوطنية حسب تعريفه لها،فكيف سيكون حال الأمة؟ وكيف سيحدث التداول السلمي على السلطة؟ بالتأكيد لن نكون أمام نظام سياسي ثابت ومستقر ولو بالمفهوم النسبي بل أمام حالة سياسية متسيبة تمزقها الحروب والصراعات الداخلية، بمعنى أن الانتخابات ستنتج نقيض فلسفتها ونقيض المتوخى منها.

 

إن كانت الأمة منقسمة حول الثوابت والمرجعيات ومفهوم المصلحة الوطنية وتفتقر لإستراتيجية عمل وطني، وإن كانت الانتخابات لا تعطي ضمانة بالتوصل لثوابت ومرجعيات وطنية، وقد ثبت ذلك بالممارسة، فالحل في نظرنا هو التوافق والتراضي بين القوى السياسية الرئيسة على هذه الثوابت قبل الدخول بالانتخابات.

 

2:ضعف ثقافة الديمقراطية

 

الانتخابات ما هي إلا آلية من آليات الممارسة الديمقراطية، والانتخابات وحدها لا تؤسس نظاما ديمقراطيا ولا نهجا ديمقراطيا إن لم تكن متلازمة مع ثقافة الديمقراطية، وأهم عناصر ثقافة الديمقراطية : الاعتراف بالآخر، الاختلاف في إطار الوحدة، المشاركة في صنع القرار السياسي،نبذ الفكر ألإقصائي، التداول السلمي على السلطة، حرية الرأي والتعبير، عدم الاحتكام للسلاح في فض الخلافات، بالإضافة إلى منظومة قيمية وأخلاقية، هذه المكونات غير ناضجة في الثقافة السائدة بدءا من الأسرة إلى الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني. كان إقامة مؤسسات الديمقراطية أسبق من تأسيس ثقافة الديمقراطية وبالتالي ما أن احتدمت الخلافات السياسية حتى ارتكست الحالة السياسية لتتغذى من ثقافة العائلية والقبلية وثقافة السلاح.

الأحزاب السياسية التي يفترض أن يحصل بينها التداول السلمي على السلطة من خلال العملية الانتخابية، هي أقرب في غالبيتها للميليشيات المسلحة حيث لها مجموعاتها العسكرية بل ومراكز تدريب ومخازن أسلحة  الخ، هذا بالإضافة للتثقيف الأيديولوجي والعسكري، كل ذلك يوجد ثقافة الخضوع للقائد والزعيم وثقافة تقديس البندقية على حساب ثقافة الديمقراطية.

 

3-       وجود بدائل لشرعية صناديق الانتخابات

 

ارتباطا بالعاملين السابقين ونتيجة لهما فإن الشرعية المُستمدة من صناديق الانتخابات ليست هي أساس وجوهر شرعية القوى السياسية الفاعلة، فهذه دخلت الانتخابات كاستحقاق مفروض أو في إطار البحث عن مصادر أخرى لشرعيتها تدعم شرعيتها الثورية أو الدينية المأزومة، فهي في عمقها ما زالت حكومة بالشرعية التاريخية أو الدينية أو شرعية المقاومة والجهاد، وقد لاحظنا أن حركة حماس لم تفقد شرعيتها عندما لم تدخل في انتخابات يناير 1996 بل تزايدت شرعيتها بعد الانتخابات نتيجة توظيفها الدين والمقاومة، وحركة الجهاد ما زالت تتسلح بهذه  الشرعية بالرغم من عدم مشاركتها بأي  انتخابات و رفضها لمجمل السلطة القائمة، حتى حركة فتح التي خسرت انتخابات يناير 2006 استمرت في اعتبار نفسها صاحبة الشرعية الرئيسية وهي شرعية المؤسس الأول للمشروع الوطني بالإضافة للشرعية التاريخية وشرعية قيادتها لمنظمة التحرير الفلسطينية. هذه النظر والتعامل مع الانتخابات غير موجودة في الأنظمة الديمقراطية الحقيقية حيث أي حزب سياسي لا يستمد شرعيته من صناديق الانتخابات أو لا يؤمن بشرعية صناديق الانتخابات يكون فاقد الشرعية.

 

4- غياب استقلالية القرار

 

الانتخابات النزيهة تعبير عن إرادة الأمة، فمن يفوزون بالانتخابات سواء الرئاسية أو التشريعية يصبحوا ناطقين باسم الأمة وممثلين لها ومدافعين عن مصالحها، إلا أنه في الحالة الفلسطينية فإن من تفرزهم الانتخابات كممثلي الأمة ليسوا أصحاب القرار فيما يخص المصالح العليا للأمة. غياب استقلالية القرار بسبب الاحتلال أو بسبب الارتباطات الأيديولوجية الخارجية أو بسبب الارتهان لمصدر التمويل المالي يحد من قيمة الانتخابات كمحدد رئيس في رسم خيارات الأمة.[6]

 

إذن بالرغم من أهمية الانتخابات كآلية لحل الخلافات إلا أنها لوحدها ليست وسيلة مضمونة لحل الخلافات السياسية وخصوصا إن كانت خلافات حول الثوابت والخيارات الكبرى للأمة وفي ظل غياب ثقافة وقيم الديمقراطية وغياب الإرادة الحقيقية والإيمان بالشراكة السياسية وبثوابت الأمة. تاريخيا عززت الانتخابات الانتقال الديمقراطي في كثير من البلدان - فلا ديمقراطية بدون انتخابات والعكس غير صحيح - ولكن في حالات أخرى وعندما يتم التلاعب بالماكينة الانتخابية وبعواطف وفقر وجهل الجماهير قد تؤدي الانتخابات أن يصل للسلطة شخصيات وأحزاب دكتاتورية وفاسدة أو قيادات لا تؤمن بالديمقراطية والحالة الفلسطينية أقرب للحالات الأخيرة، فلا انتخابات 1996 ولا انتخابات 2006 أخرجت النظام السياسي من أزمته وكما يلوح بالأفق فإن الانتخابات القادمة ستزيد من تأزم الحالة السياسية الفلسطينية إن لم تتم المصالحة.

إذن ما تقوله حركة حماس من رفض لإجراء الانتخابات قبل المصالحة كلام صحيح نظريا وقد كتبنا وأكدنا على هذا المبدأ منذ انتخابات 1996 ثم قبيل انتخابات يناير 2006، إلا أن الانقسام الحاصل اليوم ووجود أطراف داخلية وخارجية معنية باستمراره يُصعب من فرص التوصل للمصالحة قبيل الموعد المقرر للانتخابات وبالتالي يطرح تحديات أمام إجراء الانتخابات، فماذا لو تذرعت القوى المستفيدة من الانقسام وغير الراغبة بالمصالحة، بالإصرار على أن تسبق المصالحة الانتخابات وفي نفس الوقت تضع العصي في دواليب عجلة المصالحة حتى تعطل الانتخابات وبالتالي تحافظ على الوضع القائم؟ ولماذا تشترط حركة حماس الآن المصالحة قبل الانتخابات ولم تشترط ذلك قبل انتخابات يناير 2006؟.

اشتراط حركة حماس اليوم إنجاز المصالحة والاتفاق على الثوابت والمرجعيات قبل الانتخابات كان يجب أن يكون حاضرا قبل إجراء الانتخابات التشريعية السابقة ولو تم ذلك ما كان المأزق الراهن للنظام السياسي، فلماذا قبلت حركة حماس المشاركة بالانتخابات عام 2006 بدون وجود مصالحة فيما تشترط المصالحة في الانتخابات الحالية؟ بعد فشل حكومة حماس الأولى –لم تفشل حكومة حركة حماس بسبب حصار ناتج عن عدم اعترافها بإسرائيل فقط بل لأنها لم تستطع أن تكون حكومة التوافق الوطني – وفي حوارات مكة كان من المفترض بالمتحاورين الاتفاق على الثوابت والمرجعيات التي وضعت وثيقة الأسرى الأرضية المناسبة لها، ولكنهم بدلا من ذلك ذهبوا لصيغة  مبتسرة وغامضة أرضت جميع الأطراف ليس لأنها تجسد الثوابت بل لأن كل طرف يمكنه تفسيرها كما بريد، كانت مصالحة عربية –بوس لحى- دون نوايا حقيقية بالمصالحة أو بالالتزام بما اتفقوا عليه وكانت النتيجة فشل الحكومة فالاقتتال فالانقسام الراهن.

يبدو أن الانتخابات في الحالة الفلسطينية انزلقت عن مسارها وارتدت عن جوهرها، فأصبحت انتقائية كالمقاومة والسلام، يلجأ إليها هذا الحزب أو ذاك عندما يريد ويتخلى عنها متى يريد، فحركة حماس دخلت الانتخابات عام  2006 لأنها اسشرفت فرصة كبيرة للنجاح مستغلة أزمة السلطة، و لأن أطرافا خارجية وعدتها بنصيب من السلطة والأرض إن دخلت النظام السياسي من بوابة الانتخابات... واليوم تتذرع بغياب المصالحة لتتهرب من انتخابات تشعر أن نتائجها قد لا تمكنها من فوز مريح أو قد تفقدها سلطنها في القطاع.

حيث أن الانتخابات جزء من قانون أساسي لسلطة فلسطينية واحدة في الضفة والقطاع، وحيث أن الانقسام الذي بدأ منتصف يونيو 2007 مثل حالة انقلاب على السلطة ومرجعياتها وأوجد سلطتين وحكومتين ونظامين منفصلين واحد في الضفة الغربية وآخر في قطاع غزة، فإن اشتراط مبدأ التوافق والتراضي قبل إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية المتزامنة في الضفة وغزة  سيصبح  مشكوكا في نجاعته حيث سيلجأ من يتهرب من الانتخابات لإفشال المصالحة حتى لا تُجرى الانتخابات بالشكل الذي أشرنا إليه، أو أن يلجأ من يريد استمرار الانقسام ويرفض  المصالحة إلى فرض انتخابات من طرف واحد وفي منطقة واحدة -غزة أو الضفة-.

لكل هذه الأسباب وأيضا بسبب الاحتلال فقد بات رهن العملية الانتخابية بالمصالحة الوطنية والاتفاق على الثوابت والمرجعيات وبالرغم من صحته النظرية يحتاج لحلول إبداعية أو توفيقية، وخصوصا في ظل الانقسام والتباعد في المواقف وثقافة الثأر والانتقام التي تحكم علاقة حركة فتح بحركة حماس، فحتى لو جرت انتخابات فلا ضمانة لان تلتزم كل الأطراف بنتائجها، ومن هنا ضرورة التوافق والتراضي ولو على المبادئ العامة للنظام السياسي قبل الانتخابات، على أن يكون بعد ذلك التزام من كل الأطراف باللجوء للانتخابات والالتزام بنتائجها. 

 

خامسا :الانتخابات ومستقبل النظام السياسي ما بعد الانقسام

 

 فشل المصالحة الوطنية ونهج التوافق والتراضي - وهو الأكثر احتمالا على المدى القريب-  سيؤدي لاستمرار حالة الفصل بين غزة والضفة ودخول القضية الوطنية في نفق مظلم، وإن جرت انتخابات في ظل الفصل فستؤدي لتعزيز عملية الفصل بغض النظر عن نتائج الانتخابات والفائز فيها. عدم تحقيق المصالحة سيؤدي لإسقاط الشرعية عن الحكومتين والسلطتين. حكومة حركة حماس في غزة ستصبح بدون شرعية دستورية، ومع استمرار التزامها بالهدنة مع إسرائيل ستفقد أيضا شرعيتها كحركة مقاومة أما شرعيتها الدينية المزعومة فيمكن لأي جماعة أخرى أن تدَّعيها، وبالتالي ستواجه حركة حماس وسلطتها مزيدا من حالات التمرد من قوى دينية وقوى وطنية بل ستواجه انشقاقات داخلها سترد عليها بمزيد من القمع والإرهاب مما سيحولها لسلطة قمعية إرهابية بنظر عديد من دول العالم الأمر الذي سيؤدي للتدخل الدولي في قطاع غزة. أما في الضفة الغربية انتهت ولاية الرئيس أبو مازن كرئيس للسلطة منذ 2010 وبالتالي فقدت الحكومة في الضفة شرعيتها حيث رئيس السلطة كان مصدر شرعيتها الوحيد [7]، استمرار الانقسام وفشل المصالحة سيجعل السلطة والحكومة في الضفة أعجز من أن  يفرضا شروطا لعودة المفاوضات والتسوية على أسس مشرفة مما سيدفعهما لأحد خيارين أحلاهما مر: إما العودة للمفاوضات في ظل استمرار الاستيطان الصهيوني مما سيؤدي لمزيد من سرقة الأرض في الضفة وتهويد القدس ومنح شرعية للأنشطة الاستيطانية وتهويد القدس وهو ما سيُفقد السلطة والحكومة شرعيتهما ومصداقيتهما ويحولهما لأداة تخدم إسرائيل، أو أن ترفض السلطة العودة للمفاوضات وهذا ما سيطلق يد إسرائيل لاستمرار سياستها الاستيطانية، كما أن استمرار وقف التفاوض بذريعة استمرار الاستيطان قد يدفع الإدارة الأمريكية لطرح مبادرة جديدة للتسوية ولكنها ستبنى على واقع الفصل بين غزة والضفة وعلى الجدار العنصري كأمر واقع.

عدم حدوث مصالحة وطنية يُفقد كل سلطة دستورية فلسطينية قائمة شرعيتها-رئيس السلطة والحكومتان والمجلس التشريعي والكتل البرلمانية – كما تفقد الأحزاب والفصائل شرعيتها الجهادية حيث لم يعد هناك مقاومة حقيقية، مما سيفسح المجال لأجواء صراعات، الأمر الذي سيضفي شرعية على أي تدخل أو وصاية دولية حتى وإن لم تكن بمستوى طموحات الشعب، ولكن هذا التدخل سيأتي بعد أن تستكمل القوى السياسية الفلسطينية دورة التدمير الذاتي وتستكمل إسرائيل مشاريعها الاستيطانية.

 

عليه سنكون فإننا أمام احد الاحتمالين :

 

1:أن تنجح حوارات المصالحة الوطنية في الاتفاق على ثوابت ومرتكزات النظام السياسي بما في ذلك الانتخابات. في هذه الحالة قد تجري انتخابات رئاسية وتشريعية بالصيغة التي يتم الاتفاق عليها، ولكن، سواء نجحت حركة حماس بالانتخابات التشريعية بالأغلبية أو حركة فتح فلن تحل الانتخابات المشكلة ولن تلتزم القوى المنهزمة بنتائج الانتخابات إلا إذا توفرت الشروط التالية:

 

أ- المبدأ: أن يكون اقتناع من حيث المبدأ بالالتزام بنتائج الانتخابات، والمبدأ يفترض قناعة من الجميع بأن الشرعية الوحيدة هي شرعية صناديق الانتخابات، وأنه لا يمكن لحزب واحد مهما كانت الأصوات التي سيحصل عليها في الانتخابات أو ما له من تاريخ نضالي واعتراف دولي أن يتحمل مسؤولية القضية الوطنية أو يقصي الآخرين إن أرادوا مشاركته هذه المسؤولية، والمبدأ يعني أن لا شرعية غير شرعية الانتخابات فلا يجوز لمن يخسر الانتخابات أن يزعم امتلاك شرعية أخرى تعوضه عن فقدانه لشرعية صناديق الانتخابات كالزعم بالشرعية الدينية أو شرعية المقاومة أو شرعية تاريخية .

 

ب-–الثوابت والمرجعيات: الاتفاق والتراضي الذي لا تشوبه شائيه على الثوابت الوطنية والمرجعيات التي عليها تُحدد وتُرسم السياسات العامة، فمثلا يجب الاتفاق على موقف موحد من قضايا السلم والحرب، وحول مفهوم الوطن والدولة والهوية الوطنية، موقف موحد من الشرعية الدولية والمبادرة العربية الخ. دون التراضي على الثوابت والمرجعيات لا يمكن حصول تداول سلمي ديمقراطي على السلطة وإن حدث لا يستمر، وبدونه لا يمكن تشكيل حكومة ولا قيادة وحدة وطنية، وإن قامت حكومة وحدة وطنية بدون الاتفاق الكامل على الثوابت والمرجعيات فستكون حكومة وحدة شكلية مجاراة للجمهور أو خضوعا لاستحقاقات خارجية وفي جميع الحالات لن تعش طويلا كما جرى مع حكومة الوحدة الوطنية التي تشكلت بعد مصالحة مكة.                        

ج- البرامج الانتخابية و برنامج الحكومة: وهذه يجب أن تنبني على الثوابت والمرجعيات المشار إليها بتصرف في حدود.فلا يجوز للبرامج الانتخابية أن تتلاعب بعواطف الناس أو تطرح أهدافا تتناقض مع الثوابت التي تم الاتفاق عليها بالتراضي والتوافق. وبالنسبة لبرنامج الحكومة فيجب التأكيد بأنه برنامج لحكومة سلطة حكم ذاتي مقيدة بالتزامات دولية. ليس من الضروري للبرنامج السياسي أن بغوص بالتفاصيل السياسية ولكن عليه تحديد أولويات عمل الحكومة كرفع الحصار أو إعادة تعمير غزة والالتزام  بالعملية السلمية واستحقاقاتها، تحديد أولويات عمل الحكومة والتزاماتها السياسية يختلف عن الأطروحات العقيمة  كالقول بحكومة مقاومة أو حكومة تعمير غزة فقط أو حكومة رفع حصار الخ، فلا يوجد بالسياسة حكومات قطَّاعية ولكن يمكن تشكيل حكومة كاملة ببرنامج سياسي ملتزم بكل الاستحقاقات الدولية وأن تضع هذه الحكومة على سلم اهتماماتها تعمير غزة أو رفع الحصار .

 

د- الأشخاص :ونقصد الأفراد الذين سيرشحون للانتخابات الرئاسية والتشريعية والذين سيتولون مناصب وزارية، فمع أن صناديق الانتخابات هي التي ستحدد الفائزين إلا أنه نظرا لحالة الاحتقان والعداء بين عناصر النخبة السياسية فإن طبيعة المرشحين ستحدد سلامة إجراء العملية الانتخابية وإمكانية تعايش القوى السياسي سواء داخل المؤسسة التشريعية أو ببقية المؤسسات،وعليه سيكون من المفيد أن يترشح للانتخابات ويتولى المناصب الوزارية في هذه المرحلة شخصيات معتدلة وعير استفزازية  .

 

2:فشل حوارات المصالحة في إعادة الأمور إلى ما كانت عليه

 

وهو الاحتمال الأكثر ترجيحا، حتى الآن ونقصد بالفشل فشل المتحاورين بالاتفاق على القضايا الخلافية بما يعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل الانقسام، في هذه الحالة سنكون أمام تكريس نظامين سياسيين بمرجعيتين مختلفتين وهذا سينعكس سلبا على الانتخابات. في هذه الحالة سنكون أمام السيناريوهات التالية:

 

السيناريو الأول: عدم اجراء انتخابات، في هذه الحالة من المتوقع  أن تستمر الحكومتان بالعمل بذريعة الظروف الاستثنائية كأن تقول حكومة حماس بأن شرعيتها مستمدة من المجلس التشريعي الذي ستستمر شرعيته لحين قيام مجلس تشريعي منتخب جديد مع العودة للحديث عن  شرعية غير شرعية صناديق الانتخابات كالقول بالشرعية الدينية والجهادية، أو تضفي الحكومة في رام الله شرعية على نفسها مستمدة من كونها حكومة منظمة التحرير الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني وهذا يستدعي إعادة إحياء ما تبقى من منظمة التحرير ولو مؤقتا.هذه الشرعيات ستكون منقوصة وبالتالي ومن أجل الحصول على شرعية دولية أو نتيجة ضغوط خارجية على الطرفين يمكن تصور السيناريو الثاني.

السيناريو الثاني: أن يصر الرئيس أبو مازن على إجراء الانتخابات وترفض حركة حماس المشاركة فيها وتشكك بشرعيتها،في هذه الحالة ستجرى الانتخابات في الضفة الغربية فقط وبمقتضى هذه الانتخابات ستتجدد شرعية السلطة والحكومة والرئاسة وسيحضون  بقبول دولي وخصوصا إن عادت عملية التسوية لمسارها، ومن المحتمل أن يتم الإعلان عن حركة حماس كحركة غير شرعية وعن سلطتها في قطاع غزة كسلطة متمردة وما يترتب على ذلك من تكريس للقطيعة وحالة العداء ومن إجراءات قانونية ومالية وربما دولية ضد قطاع غزة.

السيناريو الثالث:قد تستبق حركة حماس هكذا وضعية وتعلن من طرفها إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية في قطاع غزة وتشرف عليها بالكامل وبالتالي تتحكم بنتائجها التي ستكون معروفة مسبقا،وبالتالي ستتذرع بأنها حكومة وسلط شرعية ولن تعدم دولا وحركات سياسية تعترف بشرعيتها.في هذه الحالة أيضا سيُكرس الانقسام .

 

 

خلاصة

 

نخلص مما سبق أن عياب التوافق والتراضي على ثوابت ومرجعيات النظام السياسي قبل اللجوء للانتخابات التشريعية قد أخرج الانتخابات عن سياقها ودلالاتها الديمقراطية، بل انفصلت عن العملية الديمقراطية وانقلبت سلبا على الشعب الفلسطيني وهذا ما كان يراد منها بداية كما سبقت الإشارة، وما اضعف من أهمية الانتخابات أنها ليست المصدر الوحيد للشرعية في فلسطين، هذا بالإضافة إلى أن الانقسام بما يرتبط به من أجندة خارجية والحضور القوى لإسرائيل في المشهد السياسي يجعل من الصعوبة والخطورة ربط مستقبل النظام السياسي بالانتخابات. أخطر ما بالأمر أن يتم توظيف الإشكال الانتخابي لإدامة عمر الانقسام  وهو انقسام نخشى أن يعمر طويلا، وبهذا يصبح الشعب الفلسطيني معانيا من مصيبتين: مصيبة الاحتلال ومصيبة الانقسام. إن شعبا خاضعا للاحتلال لن تعوزه الوسيلة لتوحيد جهوده لمواجهة الاحتلال بدون الانتخابات وليستفد الفلسطينيون من تجارب حركات التحرر الأخرى.

 

 

 

 

* - أستاذ العلوم السياسية بجامعة الأزهر بغزة

Ibrahem-ibrach@hotmail.com

www.palnation.org

 

[1] - نص البند الثاني من اتفاقية إعلان المبادئ أو اتفاقية أوسلو  على: 

"البند الثالث: الانتخابات

1 - حتى يتمكن الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة من حكم أنفسهم وفق المبادئ الديمقراطية، سيتم إجراء انتخابات سياسية عامة مباشرة وحرة لانتخاب المجلس في ظل إشراف متفق عليه تحت مراقبة دولية في الوقت الذي ستحافظ فيه الشرطة الفلسطينية على النظام العام…. "

 

 

[2] -التحول حدث حتى على مستوى توصيف الحالة الفلسطينية، فقبل قيام سلطة الحكم الذاتي كان الحديث يدور حول حركة المقاومة الفلسطينية  أو حركة التحرر الفلسطيني، وهذه المسميات كانت تدل على وجود قضية تحرر وطني ينخرط بها كل الشعب الفلسطيني، بعد قيام السلطة أصبح الحديث يدور عن (النظام السياسي الفلسطيني) وهو نظام تقتصر صلاحياته على الضفة وغزة  فقط، كما أن مرتكزات وآليات عمل النظام السياسي ليست هي مرتكزات وآليات عمل ومحددات حركة التحرر الوطني.

[3] -كان عنوان البرنامج الانتخابي لحركة حماس وشعار حملتها الانتخابية خلال انتخابات يناير 2006 (الإصلاح والتغيير)،ولكن يبدو  أن هذا الشعار والهدف المعلن  كان يخفي الهدف الحقيقي وهو الانقلاب على سلطة ونظام أوسلو وتأسيس نظام ومشروع سياسي جديد تضع حركة حماس ثوابته ومرجعياته.

[4] - يلاحظ أن توجه حركة حماس نحو المشاركة بالانتخابات تزامن مع توجه عام لدى جماعات الإسلام السياسي وخصوصا جماعة الإخوان المسلمين للمشاركة بالانتخابات في الدول التي تتيح المجال للمشاركة في الانتخابات وهو نفس التوقيت الذي اتخذت الإدارة الأمريكية للحزب الديمقراطي توجها مشجعا لما تسميها جماعات الإسلام السياسي المعتدل بالدخول في النظام السياسي وقد ضغطت الإدارة الأمريكية على بعض الأنظمة العربية لقبول هذه المشاركة.

 

[5] - يجب عدم التهوين من أهمية هذه القوى فقد تنهج بعضها نهج حماس قبل دخولها للنظام السياسي، أي تجد هذه القوى في دخول حركة حماس للعبة الديمقراطية وانشغالها بالسلطة على حساب المقاومة مبررا لتشكل معارضة جهادية من خارج النظام وتكفر وتخون كل مكونات السلطة وبالتالي ستسعى للاستمرار بالعمل المسلح لكسب شعبية تمكنها من محاولة القيام بانقلاب سواء على سلطة حماس في غزة أو سلطة فياض في الضفة وكانت جماعة أنصار جند الله في رفح نموذجا على ذلك.

[6] -هناك تشابه ما بين الحالة الفلسطينية والحالة اللبنانية في هذا السياق .

[7] - إلا إذا تم إخراج منظمة التحرير من غرفة الإنعاش وخصوصا المجلس المركزي وجعل هذا الأخير مرجعية الحكومة لأن الحكومة جزء من السلطة والسلطة قامت بقرار من المجلس المركزي

 

 

معد الدراسة: 
د. إبراهيم أبراش