حول الوضع الراهن في الشرق الأوسط*

سيداتي، سادتي
أشكر السفير ويلكوكس على كلماته الرقيقة ومشاعره الكريمة تجاهي. ويشرفني جداً، ومن حسن حظي، أن أخاطب هذا الحضور المتميز، ويسعدني أيضاًأن أرى هنا هذا العدد الكبير من الأصدقاء.
أكنّ لمعهد الشرق الأوسط احتراماً كبيراً، وهو في نظري شجرة من نوع خاص في غابة  "خزانات المعتقد"  (belief tanks)   التي تسمّي نفسها"خزّانات الفكر" ( think tanks )  في هذه الحاضرة. لقد كرّس معهد الشرق الأوسط نفسه، منذ تأسيسه في الأربعينيات، لتثقيف الرأي العام الأميركيبأسلوب متوازن، غير منحاز، وغير سجالي، مبني على الخبرة الميدانية لأجيال من الأميركيين من مختلف نواحي الحياة، وعلى علاقات إنسانية واسعةأقاموها مع شعوب المنطقة، وعلى فهم لآمال هذه الشعوب وعيوبها وشكاواها، وكل ذلك خدمةً لمصلحة الولايات المتحدة القومية.
وفي سنة 1963 ، عندما فكرتُ وزملاء لي في تأسيس مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت، كان ما خطر ببالنا نموذجان: تشاثام هاوس )أي معهدالعلاقات الدولية الملكي(  في لندن، ومعهد الشرق الأوسط هذا في واشنطن.
سيداتي، سادتي
بالنسبة إلى شخص في عمري، يتراءى لي أن الزمن يمضي مسرعاً في جريانه، وهو أسرع من المكوك في آلة الخياطة، بيد أنه من المدهش حقاً ما يولّدههذا الزمن في مروره السريع من حقائق. لقد أبصرتُ النور بعد ثمانية أعوام فقط من وعد بلفور. لكن تأملوا في هذا الكم من الأحداث الذي وقع في الشرق الأوسط خلال فترة لا تتعدى سنوات حياة فرد واحد، وتأملوا أيضاً في التغيير الذي طرأ على مكانة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط في الفترة ذاتها،من ردات الفعل العربية الإيجابية لاستفتاء لجنة كينغ كرين الأميركية في سنة
1919 إلى إعصار 11 أيلول / سبتمبر 2001 في نيويورك.
سيداتي سادتي
في نظري، ونظر الملايين، ثمة ثلاثة أحداث مفصلية مصيرية في القرن العشرين صنعت الشرق الأوسط كما نعهده اليوم:
الأول، وعد بلفور في سنة 1917 ، والثاني، نكبة فلسطين والعرب في سنة 1948 ، والثالث، حرب حزيران/يونيو 1967 . ويلاحظ أن دور الولاياتالمتحدة في كل من هذه الأحداث المصيرية الثلاثة أخذ ينحو في اتجاه مزيد من التدخل، ذلك بأنه في سنة 1917 كان ثمة مباركة هامشية للوعد من طرف الرئيس الأميركي ويلسون. وفي سنة 1948 كان هناك الضغط العنيد العميق الأثر الذي مارسه هاري ترومان على بريطانيا المفلسة والمنهكة من الحرب،والذي أدى إلى إنهائها انتدابها على فلسطين بالطريقة التي انتهى بها، وكانت نتيجته النكبة. أمّا في سنة 1967 فقد كان دور الرئيس ل. ب. جونسون دوراً حاسماً في الجوهر والشكل والتوقيت من حيث تبنّيه بالكامل، وبحذافيرها وأهدافها الاستراتيجيا الإسرائيلية القائمة على إرساء مفاوضات ما بعد وقف القتالمن أجل التوصل إلى تسوية سلمية على خطوط وقف إطلاق النار ذاتها، وهي الخطوط التي أوجدتها حرب 5 حزيران/يونيو 1967 الصاعقة، بحيث ظلأي تقدم سياسي بيد القوة العسكرية الإسرائيلية الطاغية وبشروطها إلى يومنا هذا*[1].
سأبدي ملاحظاتي اللاحقة في إطار أربعة أقسام: في القسم الأول سأتحدث عن العالم العربي، في الثاني عن إسرائيل، في الثالث عن الفلسطينيين، وفيالرابع عن الولايات المتحدة.
فيما يتعلق بالعالم العربي، لم يكن هذا العالم في حالة تحول متصل غير مستقر كما هي حاله الآن. كثير ممّا يجري هو جيّد، وعلى الأخص الانقلابالثوري في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وأدعو الله أن يتسع نطاق هذه الحالة. لكن منذ رحيل عبد الناصر لم يعد هناك مركز ثقل أخلاقي أو سياسي في العالم العربي، لا نجم هادياً، ولا بوصلة، ولا دفة قيادة، كما أن الدولة العربية التي تمتلك طاقات روحية أصيلة هائلة، بالإضافة إلى ثرائها المادي الطافح،لم ترتقِ، ولا يبدو أنها سترتقي، إلى مستوى الظروف، بينما تثابر جاراتها الصغيرات الثريات السجود للعجل الذهبي. وفي الهلال الخصيب، يتهاوى نظام الدول الذي أوجدته اتفاقية سايكس  بيكو في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وهذا ليس أمراً سيئاً في حد ذاته لولا أنه صار يُستبدل بارتداد عن الحواضرإلى المكونات الأصلية، الطائفية، الإثنية لمجتمعات هذه الدول، بما ينطوي عليه ذلك من جسيم الأخطار. ويواصل هذا المسار جريانه في سورية أمامبصرنا حافلاً بالأهوال التي يحملها في أحشائه. وفي الوقت نفسه، ثمة قيادات عربية ليس للمسؤولية منزلة فيها، وهي لا تفتأ تنفخ في لهيب نزاع سنّي شيعي بشع لا مبرر له إطلاقاً يشكل الانقسام الأشد تفجّراً وتدميراً في العالمين العربي والإسلامي.
وبالتزامن مع هذا الوضع المتحرك بلا توقف، تطغى ظاهرتان إقليميتان: الأولى،استمرار أفول القومية العربية العلمانية، التي تقترب بسرعة، وربما تكونقد بلغت، مرحلة الاحتضار؛ والثانية، استمرار صعود الإسلام السياسي بقوة في أعقاب أفول القومية العربية.

سيداتي سادتي
لا يوجد في العالم الغربي معجبون بالقومية العربية بسبب عدائها لإسرائيل والاستعمار الغربي. لكن ما ينساه الغرب هو الدور الرئيسي الذي أدته القوميةالعربية العلمانية في التصدي للمدّ الشيوعي والحؤول دون انتشاره في الشرق الأوسط، ومن خلاله إلى افريقيا. وقد سحقت الأنظمة العربية التي تعاملتمع الاتحاد السوفياتي، وخصوصاً في مجال الأسلحة، الأحزاب الشيوعية في بلدانها، بوحشية.
ويرجع فشل القومية العربية إلى عدة أسباب. وأحد الأسباب الذي أعتقد أننا لم نعره اهتماماً كافياً نجده في المستوى النظري التنظيمي. فمثلاً عندما انهارتالوحدة
المصرية  السورية في سنة 1961 ، لم يكن هناك بالمطلق أي كتابات أو دراسات جدية باللغة العربية تعالج موضوع الوحدة أو الفدرالية  لا شيء، ولاحتى مؤلَف واحد. ولا زال حيّاً في ذاكرتي كم صُعقنا عندما انهارت الوحدة، وبدأنا نسأل أنفسنا: لماذا حدث ذلك؟ وفجأة، لاحظنا أنه لم يكن هناك فيالمكتبة العربية، في أي مكان، ما يقارب أو يقترب ولو عن بعد من "الأوراق الفدرالية"The Federalist Papers( ) الأميركية. لقد أنفق مؤسسو هذاالبلد العظيم، لا أدري كم من آلاف الساعات في النظر في آليات الاتحاد: كيف نصل إلى هناك، وكيف نحافظ على استمراره. لم يكن هناك أي شيء إطلاقاًمن هذا القبيل في العالم العربي. وما حدث عملياً هو أننا اجتمعنا وتفحّصنا الدراسة المقارنة الفذّة التي صنفها روبرت بووي وكارل فريدريشRobert Bowie and Karl Friedrich) ،) الأستاذان في جامعة هارفرد. وهي دراسة مقارنة للأنظمة الفدرالية الخمسة في الغرب: كندا؛ الولايات المتحدة؛سويسرا؛ جمهورية ألمانيا الاتحادية؛ أستراليا. وترجمنا هذا المجلد الضخم إلى العربية ونشرناه في ثلاثة مجلدات بعد فترة وجيزة من انفصام الوحدةالمصرية السورية. وفي الوقت ذاته، وقد يكون بعضكم على علم بجهد المأسوف عليه جداً محمد جمال أحمد، الكاتب والباحث السوداني العتيد الذي تولىبنفسه ترجمة "الأوراق الاتحادية" إلى لغة عربية رائعة، بعيد انفصام الوحدة في سنة 1961 .
لقد ركّز الفكر السياسي النظري العربي إلى حد كبير، ولا يزال، على الهدف على حساب الوسيلة. وثمة وفرة من الكتابات التي تعالج موضوع الأهداف.لكن كيف نصل إليها، وماذا نفعل عندما نصل إليها  فإننا نادراً ما نجد كتابات تعالج هذا الجانب. ومن المدهش ملاحظة التباين بين معالجة الأهداف والوسائل في الفكر الصهيوني قياساً بالأدب العربي السياسي. لقد أنفقتُ مئات الساعات في قراءة قرارات المؤتمرات الصهيونية، التي عُقد أولها في بازلفي سنة 1897 ، واستمرت إلى يومنا هذا )آخر مؤتمر عُقد قبل وقت قصير(. واتخذت هذه المؤتمرات قرارات، ونجدها فيما لا يقل عن 2000 صفحة منذسنة 1897 ، وربما تغطي عدداً أكبر من الصفحات. لست أدري كم مرة قرأتُها، لكننا نلحظ فيها نمطاً لافتاً هو نقيض ما نجده في الفكر النظري العربي.نلحظ أن الأهداف مذكورة بإيجاز شديد، والجزء الأكبر يعالج الوسائل، والآليات، والسبل العملية الكفيلة بالوصول إلى الأهداف.
وثمة سبب آخر أدى إلى فشل القومية العربية، هو الذات المتضخمة وانتفاخها انتفاخ جبال الهمالايا لدى الزعماء العرب. فلنتأمل مثلاً شعور الذات هذا لدىكل من حافظ الأسد وصدام حسين، وما هدرا في سبيله من العقود في الصراع والتناحر بين رفيقين ينتميان إلى الحزب الواحد  حزب البعث. أمّا الضربةالقاضية التي أطاحت بالقومية العربية فهي، بالطبع، الانتصار الإسرائيلي العبقري، المدمّر الخالي من الرحمة، والمهين وأي إهانة، الذي حدث في سنة1967 .
ومن المفارقات أن المعقل الأخير للقومية العربية العلمانية هو سورية تحت حكم بشار الأسد. فقد كانت سورية، على الرغم من ديكتاتورية الأسدين، مثالاًفي العالم العربي والأقطار الأفرو  آسيوية فيما يتعلق بمعاملة الأقليات والمرأة. ومن مفارقات هذا الزمن أن بعض البلاد العربية التي تدعو إلى إسقاط الأسد تفعل ذلك باسم الإصلاح الذي لا أثر له داخل حدودها. وهنا يجدر التذكير بأن السادات استخدم الإخوان المسلمين كثقل مضاد لخصومه الناصريينالعلمانيين، كما أن إسرائيل شجعت في البداية "حماس" كثقل مضاد ل "فتح" العلمانية.

سيداتي سادتي
إن احتلال إسرائيل للأماكن المقدسة في القدس ولّد ارتدادات عميقة لدى أتباع الأديان التوحيدية الثلاثة، لأسباب مختلفة: لدى اليهود أينما وجدوا، لدىالمسيحيين المؤمنين بالعصر الألفي السعيد حيثما وجدوا، وخصوصاً في الولايات المتحدة، ولدى المسلمين في أنحاء العالم كافة. أمّا فيما يتصل بمسيحيةالعصر الألفي السعيد واليهودية، فأذكر أنني كنت عضواً في الوفد العراقي إلى الأمم المتحدة بعد حرب حزيران/ يونيو 1967 ، ولم يكن الرئيس العراقيآنذاك صدام حسين، وإنما سلفه القومي العربي عبد السلام عارف، الذي حاربه صدام حسين حتى النهاية. والذي لفت نظري بنوع خاص كثرة الأشخاصفي نيويورك ممّن درجوا على تغطية عيونهم برقعة سوداء تيمناً بموشيه دايان وزير الدفاع الإسرائيلي ومهندس الانتصار على العرب. أمّا مشاعرالابتهاج، والنشوة، والأغاني والرقصات الإسرائيلية فعمّت جميع أنحاء المدينة. واستدعى ذلك المشهد إلى ذاكرتي، كمؤرخ، ما أعرفه عن الابتهاج العارمالذي عمّ العالم المسيحي بعد هزيمة الأسطول العثماني في البحر المتوسط في معركة ليبانتو في سنة 1571 ، إذ قُرعت أجراس الكنائس في أوروبا احتفاءًبالنصر على الإسلام وصولاً إلى مرتفعات سكوتلندا.
أمّا بالنسبة إلى الإسلام، فقد كانت هذه )هزيمة 1967 ( أول مرة، منذ الحروب الصليبية، يقع فيها الحرم الشريف، أولى القبلتين في القدس، تحت احتلالغير مسلم. وقد يتساءل المرء: وماذا عن الانتداب البريطاني؟ في الواقع، كانت الإمبراطورية البريطانية، جرّاء احتوائها على عدد كبير جداً من المسلمين،بمعنى ما إمبراطورية إسلامية. وكان البريطانيون شديدي الحذر فيما يتعلق بالأماكن المقدسة الإسلامية. وفي القدس، بالتحديد، كانوا شديدي الحرص علىالمحافظة على الوضع الديني القائم. وكمثال على ذلك، أشير إلى تصرفهم خلال ثورة 1936 - 1939 ، التي كانت، كما تذكرون، ثورة كبرى في فلسطينضد الحكم البريطاني، وضد الهجرة اليهودية المتمادية، وضد سياسة وعد بلفور. وكانت السلطة الفلسطينية العليا هي اللجنة العربية العليا، وكان رئيسها الحاج أمين الحسيني. وقرر البريطانيون حلّ اللجنة العربية العليا، وأقالوا الحاج أمين من المجلس الإسلامي الأعلى، وأصدروا أمراً باعتقاله وكانوامصممين على القبض عليه. اعتقلوا زملاء له ونفوهم إلى جزيرة سيشل في المحيط الهندي، وانصرفوا إلى محاولة إلقاء القبض على الحاج أمين، وكانيقيم في منزل مجاور للحرم الشريف. وكان كل ما فعله هو التسلل من منزله إلى الحرم الشريف، ولم يقدم البريطانيون على إرسال شرطي واحد لاعتقاله.وهكذا تمكّن، لاحقاً، من الإفلات، وانتهى به الأمر إلى العيش في دول المحور خلال الحرب العالمية الثانية. وأرجو أن تقارنوا ذلك بما فعله شارون عندمااجتاح الحرم الشريف برفقة 2000 جندي في سنة2000 ، الأمر الذي أدى إلى اندلاع الانتفاضة الثانية. وأرجو أيضاً أن تقارنوا ذلك بما يقوم به حالياًنتنياهو من حفر محموم للأنفاق تحت الحرم الشريف ذاته تنقيباً عن آثار يهودية يأمل باكتشافها.
وبالنسبة إلى إسرائيل، أشير إلى أنه بموازاة أفول القومية العربية العلمانية، نشهد أفولاً متدرجاً للصهيونية العمالية في إسرائيل، كما لو أن دورهاالتاريخي كان إنشاء الدولة اليهودية تحت الانتداب، ولما استكملت إنجاز مهمتها هذه أصبحت لا ضرورة لها. وهذا أمر يدعو إلى الأسف، لأن الصهيونيةالعمالية بدت كأنها تمر بعملية تثقيف الذات تحت قيادة يتسحاق رابين، التجسيد الحيّ للروح العسكرية لدى جيل "الصابرا" الإسرائيلي. وما كان اغتيالرابين حدثاً عَرَضاً منقطع الصلة بما كان يجري في إسرائيل، إذ كانت الأصولية الدينية اليهودية قد وصلت إلى الدولة وبلغت أشدها. لقد كان هناك دائماًحضور ديني إلى جانب الصهيونية العمالية، وكانت الصهيونية العمالية نفسها، في الحقيقة، وفي أعماقها، شكلاً من أشكال المسيائية العلمانية. لكن كان لهاطريقتها الخاصة في التعامل مع الجماعات الدينية الصهيونية.
بن  غوريون، مثلاً، كان زعيم الزعماء منذ أواسط الثلاثينيات فصاعداً، في الوكالة اليهودية، ولاحقاً في إسرائيل حتى معظم الخمسينيات. وكانت جميع الحكومات التي ألّفها تضم تمثيلاً للحزب الديني الصهيوني، المزراحي. ولم يحدث أن حصل حزب الماباي العمالي يوماً على أغلبية في الكنيست تتيح لهتأليف الحكومة منفرداً، وإنما كان دوماً يحصل على أكثرية ائتلافية تؤهله تأليف الحكومة وترؤسها. ماذا كان بن  غوريون يفعل؟ كان يؤلف الأكثرية عنطريق ائتلاف، ليس مع اليمين العلماني، ليس مع التصحيحيين، أي جماعة جابوتنسكي  الذين صاروا لاحقاً جماعة مناحم بيغن وفيما بعد جماعة شامير وبيبي  وإنما مع حزب مزراحي، أي مع جماعة دينية صهيونية. لكن كان هناك ميثاق فيما بينهما  أطلق بموجبه أيديهم فيما يتعلق بمراعاة حرمة السبت،وفيما يتعلق بتجنيد الشبان المتدينين اليهود، وفيما يتعلق بالأحوال الشخصية، وذلك في مقابل أن يتركوا له حرية التصرف في أمور الاستراتيجيا والسياسةالخارجية.

سيداتي سادتي
انفتحت بوابات السّد أمام فيضان الأصولية الدينية الصهيونية مع احتلال القدس الشرقية في سنة 1967 . لماذا؟ لأن هذه كانت المرة الأولى منذالإمبراطور تيتوس وهادريان الرومانيين التي يطأ فيها جنود يهود ما يسمونه "جبل الهيكل". وكانت تلك لحظة فوران نشوة الانتصار والغلبة الدينيةالصهيونية. وتوضح الحادثة التالية ذلك. فبمجرد أن سقط بيد الجنود ما يسمى جبل الهيكل في  حزيران / يونيو 1967 ، اندفع حاخام الجيش الإسرائيليالأكبر، شلومو غورين، إلى الحرم الشريف في البلدة القديمة في القدس وأمسك بطيّة سترة القائد العسكري الإسرائيلي الموجود في الموقع، عوزينركيس، وصاح به: "اِفعلها الآن، اِفعلها الآن!" وقال نركيس "أفعل ماذا الآن؟" وصاح غورين: "اِنسف المسجدين (يقصد المسجد الأقصى ومسجد قبةالصخرة!( اِنسفهما هذه الفرصة لن تعود، يمكن فعل ذلك بمئة باوند من ال '. T.N.T ' ". واضطر نركيس في نهاية المطاف إلى تهديد الحاخام الأكبربزجّه في السجن إن هو لم يكف عن هذا الهراء. وتشير هذه الحادثة بوضوح إلى ذروة الاعتداد الديني التي أوجدها الانتصار العسكري الإسرائيلي الماحقفي سنة 1967 .
وليس من باب المصادفة أن الليكود وحركة غوش إيمونيم اليمينيتين ظهرا بعد سنة 1967 ، الأول في سنة 1973 ، والثانية في سنة 1974 . وليس منباب المصادفة أن أول حكومة يمينية منذ بدء الاستعمار الصهيوني تألفت بعد سنة 1967 ، وذلك في سنة 1977برئاسة مناحم بيغن. ولم يكن بيغن علمانياً.لقد هجر حركة الشباب التي كان يقودها في وارسو )منظمة "بيطار"(، هارباً من الجيش الألماني، وذهب إلى روسيا، ومنها انتقل إلى فلسطين بعد الغزوالألماني لروسيا. وفي سنة1944 ، خلال الحرب العالمية الثانية، صار بيغن قائداً لمنظمة الإرغون تشفائي لئومي الإرهابية. وفي شباط/فبراير 1944 "أعلن الحرب" على بريطانيا التي كانت جيوشها ما زالت تقاتل ألمانيا النازية، وفي بيانه الذي أعلن فيه الحرب على بريطانيا، استحضر "ربّ إسرائيل،ربّ الجنود." وفي سنة 1948 ، في نهاية الانتداب البريطاني، حشد مرة أُخرى مقاتلي الإرغون، وفي خطاب ألقاه عليهم استحضر ثانية ربّ إسرائيل،قائلاً: "يا ربّ إسرائيل، اِحفظ جنودك وبارك سيوفهم."
وإذا كان رابين هو تجسيد الروح القتالية لدى جيل "الصابرا" العمالي، فإن بيبي يجسد الروحية الانتصارية لدى الصهيونية اليمينية. وهو لا ينافس فيالتطلع إلى دخول هيكل عظماء الصهيونية معاصريه فحسب  بني بيغن، إيهود أولمرت، أفيغدور ليبرمان وإيهود باراك  وإنما أيضاً أسلافه ]من الزعماءالصهيونيين[. بيد أن حاييم وايزمن حصل على وعد بلفور، ودافيد بن  غوريون حقق الدولة، وليفي إشكول احتل القدس الشرقية، )بما فيها اليهكل(.ومناحم بيغن حيّد مصر خلال حكم أنور السادات لها، ويتسحاق شمير حصل، بفضل طموحات هنري جاكسون الرئاسية[2]**،على مليون روسي. فكيفلنتنياهو أن ينضم إلى هذه الزمرة المرموقة في هيكل عظماءالصهيونية؟ بالنسبة إلى رابين، كان المدخلإلى هذا الهيكل التسوية السلمية. أمّا بيبي، فالمدخلهو إحكام قبضة إسرائيل على ما بقي في أيدي العرب ممّا يسمى "أرض إسرائيل الغربية"، أي الجانب الغربي من نهر الأردن بكامله. وميزة بيبيالرئيسية في مخاطبة الجمهور الأميركي لهجته الأميركية العامية وإتقانه مصطلحات لعبة "الفوتبول" الشعبية التي يستعين بها في شرح سياساته تبسيطاًللأمور وتسهيلاً على مستمعيه. وهو لا يعتبر نفسه زعيماً إسرائيلياً فحسب، بل مايسترو سياسياً ذا وجهين إسرائيلي وأميركي، يتعامل مع جمهور واحد منالمؤيدين، منقسم إلى دائرتين انتخابيتين: إحداهما على شواطئ المشرق، والأُخرى بين "البحرين اللامعين"***[3] في القارة الشمالية الأميركية. ولاأخفيكم أنني أشك فيما إذا كان بيبي يرى حدوداً لشعبيته وتقبّله من كلا الحزبين، الديمقراطي والجمهوري الأميركيين. ولماذا لا يرى ذلك؟ ألم نشاهد شهودالعين كم كان سهلاً عليه أن يلتف ويناور ويهزم المرة تلو المرة كلاً من الرئيسين كلينتون وأوباما تباعاً؟؟

سيداتي سادتي
إن برنامج إيران النووي يشكّل تهديداً لاحتكار إسرائيل للسلاح النووي في الشرق الأوسط، وهو يشكّل أيضاً تهديداً لمكانتها كالقوة الإقليمية العظمىالأولى، لكنه يقيناً لا يشكل تهديداً وجودياً لها كما تدّعي، ومؤسسات إسرائيل العسكرية والاستخباراتية تعرف ذلك خير معرفة، وما تركيز بيبي علىبرنامج إيران النووي إلاّ محاولة مسرحية احتيالية منه مفضوحة، ومكشوفة للعارفين غايتها وهي بكل بساطة تحويل الانتباه عن أولويته القصوى: أياستكمال المشروع الصهيوني لابتلاع فلسطين بكاملها. وهكذا فمن أصل 3.300 كلمة في الخطاب الذي ألقاه مؤخراً في الجمعية العامة للأمم المتحدة لميخصص سوى 70 كلمة للملايين الأربعة من الفلسطينيين الذين يعيشون في قبضته. وثمة فائدة أُخرى كبرى يجنيها بيبي من التركيز على إيران وهيمغازلة بعض الحكام العرب في تعميق الانقسام الشيعي  السنّي في العالم العربي. وقد أحرز حتى الآن نجاحاً باهراً في مساعيه هذه، وممّا لا شك فيه فينظري أن بيبي غدا اليوم أخطر زعيم سياسي على السلم العالمي.

سيداتي سادتي
ألتفت الآن إلى الفلسطينيين لأقول إن أبرز جانب في العلاقات الفلسطينية  الإسرائيلية هو هذا التفاوت الهائل في القوة بين الطرفين. وفي حقيقة الأمر، فإنالفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة هم بمجموعهم سجناء: نعم، يسافر عباس إلى نيويورك، لكنه يستطيع السفر إلى نيويورك لأن بيبي يسمح له بالسفرإلى نيويورك. نعم، يعود عباس إلى مقر قيادته في رام الله، لكنه يستطيع العودة إلى مقر قيادته في رام الله لأن بيبي يسمح له بالعودة إلى مقر قيادته في رام الله. ففي مثل هذه الظروف كيف يمكن أن تكون هناك مفاوضات مباشرة بين السجين والسجان؟ إن نوعاً من العضوية لفلسطين في الأمم المتحدة يمكن أنيكون لها جزئياً ثقل موازن رمزي. لكن بيبي لا يريد ذلك، وطبعاً، لأن بيبي لا يريد ذلك، فإن واشنطن لا تريده.
أعرف شخصياً محمود عباس منذ ثلاثة عقود. وقد عرفتُ أيضاً أسلافه الثلاثة عن كثب: ياسر عرفات؛ أحمد الشقيري؛ الحاج أمين الحسيني. نعم، الحاجأمين على الرغم من الفارق الكبير في السن بيني وبينه. وأستطيع القول إن تفكير عباس الاستراتيجي مختلف نوعياً وجذرياً، ومناقض كلياً لتفكير أسلافه الثلاثة. هو ليس مسالماً مستسلماً، ولا هو من مريدي الزعيم الهندي غاندي ولا من معتنقي مبدأ اللاعنف عن عقيدة وقناعة.
إن المسألة بالنسبة إليه هي مسألة قناعات استمدها من التجربة الميدانية الفلسطينية الطويلة التي عاصرها وعاش جميع لحظاتها وهي قناعات استنبطها عبرعملية نقد للذات ومحاسبة قاسية للنفس وتفكير عميق. وأدت قناعات عباس إلى اجتهاد فحواه أن موازين القوى القاهرة التي يعيشها الشعب الفلسطيني فيهذه المرحلة تفرض عليه فرضاً أن يلجأ إلى الدبلوماسية حصراً، كأنها السبيل الوحيد افتح يا سمسم"  إلى التسوية السلمية. وقد كان عباس مستعداً للتشبثبذلك على الرغم من استفزازات الإسرائيليين والنقد المرّ من شعبه. والحق يُقال أن عباس بسبب مأزقنا الفلسطيني هو شخصية تراجيدية  فهو آخر الآباء المؤسسين ل "فتح"، لكنه عن غير قصد قلب "فتح" رأساً على عقب، وها هم جنود السلطة يدافعون عن إسرائيل ضد الفلسطينيين بدلاً من أن يدافعوا عنالفلسطينيين ضد إسرائيل. وبالنسبة إليّ كمؤرخ، فإنني أرى طرف شبهٍ بينه وبين المؤرخ اليهودي جوزيفوس في علاقته "التعاونية" مع فيزباسيانوتيتوس القائدين الرومانيين في ستينيات القرن الأول الميلادي. وفي الواقع، إن عباس ذهب، نتيجة اجتهاده وبكرهٍ منه، إلى أبعد ما يمكن في التعاون مععدوه  وهو يعرف ذلك ويتألم منه. وجنود السلطة الذين دربهم الأميركيون والإسرائيليون والأردنيون إنما يسيرون على درب جيوش الإمبراطورية البريطانية سابقاً من حيث أنهم جُنّدوا من سكان البلد الأصليين للاستعمال ضد شعوبهم خدمة للمحتل.
إن عباس ليس يقيناً، بالمفرّط بالحق الوطني، ولا هو يقيناً بالمتهور، لكنه يبدو
في نظر البعض على قدْر من السذاجة وطيبة القلب، ذلك بأنه آمن، بإخلاص وبصدق وبأصالة، بأنه إذا ما برهن بما لا يدع مجالاً لأدنى شك نبذَه الصادقللعنف وإخلاصه للدبلوماسية حصراً، فإن إسرائيل والولايات المتحدة ستردّان التحية وتتجاوبان معه، وهذا، طبعاً، ما لم يحدث. وتشير اتصالاتي به قبل فترة وجيزة إلى أنه يقترب من نهاية مطافه، ومن المحتمل أن يكون قد وصل إلى عتبة الاعتراف لنفسه بإفلاس استراتيجيته.
أمّا فيما يتعلق بالولايات المتحدة، فإن المرء عندما يستمع بإرهاف إلى النقاش الجاري بشأن الشرق الأوسط في الكونغرس، أو إلى السجالات الانتخابية، أوإلى تصريحات المسؤولين في الإدارة، فإن ما يذهله حقاً نغمة جديدة تنطوي على مركزية المقام الذي غدا يحتله المبدأ الناهي الذي اصطلح على تعريفه بـ"لا بصيص من نور النهار بين موقفَي تل أبيب وواشنطن [4]"**** في جميع المداولات بينهما أي عدم الجواز بوجود أي ثغرة بينهما، ووجوب تطابقسياساتهما، تطابقاً تاماً.
وبديهي أن الأمر يتعلق بالدرجة الأولى بموقف واشنطن من تل أبيب، إذ إن مبدأ "لا بصيص من النور" يستبعد حكماً أي دور من النزاع لواشنطن كدور"الحكم"، أو دور الوسيط النزيه"، أو دور "المراقب"، أو حتى دور الخادمة المنزلية" المتواضع الذي انتحلته بخفرٍ السيدة مادلين أولبرايت في يوم من الأيام إرضاء لإسرائيل.
ويتصل الأمر أيضاً بما إذا كان من المسموح به لأي سياسي أميركي برفع أحد حاجبيه، مثلاً، إيحاءً ببعض التعجب تجاه سياسات إسرائيل، أو بالتلفظبعبارة تنطوي على طرف نقد لها، أو، ويا للهول، بالدعوة إلى الضغط عليها. ويتضح من النقاش الجاري أن مفهوم "لا بصيص من النور" اكتسب فيالولايات المتحدة مكانة فريضة أخلاقية إلزامية تحرّم كليّاً القيام بأي خطوة من هذا القبيل. وإلى جانب هذا وذاك، يتطلب مفهوم "لا بصيص من النور"التغنّي المتّصل غير المنقطع بقيم "حليفنا" وشمائله. بل إن كلمة "حليفنا" ذاتها غدت مترادفة لاسم "إسرائيل"، من دون أي حاجة إلى ذكر إسرائيل بعينها.وقد أفضى إضفاء هذه الصفة المثالية السامية على إسرائيل إلى نتيجة زرادشتية عجائبية: فإذ بإسرائيل تتحول إلى "أهورا"، إلهة الخير، ويتقمصالفلسطينيون، والعرب، والمسلمون جماعة وفرادى، مثالب "أهريمان"، إله الشر الزرادشتي.

سيداتي، سادتي
أنا فلسطيني، لكني صرت مواطناً أميركياً أيضاً منذ سنة 1990 ، واسمحوا لي بأن أخلع الآن عمامتي وأضعها جانباً وأعتمر قبعة المعجبين بفريق لعبة"البيسبول" ( (Baseball البوسطوني حيث أقيم لأخاطبكم كمواطن لكم، ولأقول لكم بكل إخلاص: إن سياسة "لا بصيص من النور"، سيداتي سادتي،تترتب عليها نتائج عملية في غاية الخطورة بالنسبة إلى مصالح هذا البلد العليا، فهي لا توطد شعور إسرائيل بامتلاك حرية التصرف المطلقة في الميدانالفلسطيني فحسب، بل تضاعف أيضاً من قناعتها بالأحقية السياسية في واشنطن، ومن قدرتها على توجيه آليات النفوذ في صنع القرار فيها كيفما تشاء،ومن اطمئنانها إلى إحكام قبضتها عليها جميعاً. ومن أخطر نتائج هذه السياسة عالمياً أنها ترسّخ في العقل العربي الإسلامي فكرة التواطؤ التام الأميركيالإسرائيلي.

سيداتي سادتي
أود في الختام أن أقتبس من "خطبة الوداع" لجورج واشنطن وما قاله فيها محذراً من خطورة "الارتباط العاطفي الحميم" بدولة أجنبية، كأني به يشير إلىما نحن بصدده. قال واشنطن: "إن 'الارتباط العاطفي الحميم' لأمة مع أمة أُخرى من شأنه أن يولّد جملة من الشرور. ذلك بأن التعاطف مع أمة مفضّلة، يسرّب إلى الأمة الأولى عداوات الأمة الأُخرى، ويدفع الأولى إلى المشاركة في خصومات وحروب الأُخرى من دون سبب أو مبرر."
وشكراً على إصغائكم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* خطاب ألقاه الخالدي باللغة الإنجليزية في 22 تشرين الأول / أكتوبر 2012 في قاعة معهد كارنيغي للسلم العالمي في واشنطن بدعوة من رئيس معهدالشرق الأوسط، وقدمه في هذه المناسبة السفير السابق فيليب ويلكوكس، رئيس مؤسسة السلم في الشرق الأوسط.
ترجمة: أحمد خليفة.

________________________________________
[1] ـ * قابل موقف جونسون هذا بموقف الرئيس أيزنهاور الذي أصر على رجوع الجيوش الإسرائيلية إلى خطوط الهدنةالسابقة لحرب 1956 .

[2] ** عضو مجلس شيوخ أميركي تبنّى تشريعاً ضغط فيه على الاتحاد السوفياتي للسماح بالهجرة اليهودية الجماعية إلى إسرائيل تزلفاً لليهود وطمعاً فيتأييدهم لإيصاله إلى البيت الأبيض.

[3] *** ترد عبارة "البحرين اللامعين" أي الأطلسي والهادي في النشيد الوطني الأميركي.

[4] No daylight between Israel and the United States. ****
 

معد الدراسة: 
وليد الخالدي