اللبنانيون وفلسطين

بقلم: 

 

لم تُخفِ البطانية الشعور بالبرد ولا ازرقاق اليدين والأطراف؛ هذا البرد نفسه، هو الذي أضفى «تأتأةً» على عباراتٍ نَطَق بها الرجل بعد أن وصل بقاربٍ صغير كان يصارع الأمواج العاتية، إلى حاملة الصواريخ الإسرائيلية المُرابطة قبالة الشاطئ اللبناني، أمّا العبارة فكانت: «أنا جوزف أبو خليل من قادة الكتائب.. من فضلكم خذوني إلى إسرائيل، أحمل رسالة مستعجلة».

لم يكن البحارة الإسرائيليون على عجلة من أمرهم فاستغرقوا في التأهب، وكانوا يصوّبون بنادقهم نحوه معتقدين أنها إحدى محاولات المقاومين للاقتراب من بارجتهم. ولم يكن أبو خليل وحده على القارب، بل كان معه مرافقان: واحدٌ من «النمور الأحرار»، والآخر من «التنظيم»، وهما منظمتان تدوران في فلك حزب الكتائب وينفذان العمليات العسكرية والمخابراتية القذرة. وبعد تحقيق أوّلي أبحرت حاملة الصواريخ جنوباً لتصل إلى ميناء حيفا مع ساعات الصباح الأولى.

حدث في 12 آذار 1976، أي قبل أيّام قليلة من إتمام الحرب الأهلية اللبنانية سنتها الأولى، وكانت تلك الزيارة الكتائبية الأولى للأراضي المحتلة، والغاية التحالف مع إسرائيل. وفي ما بعد جرت العلاقة بين الطرفين في أنابيب سرية للموساد، وتطورت بعد ستّ سنوات إلى اجتياح العاصمة.

بعد ستّ سنوات، انقلب المشهد إلى مشهد عسكري دراماتيكي، بعدما خطط مناحيم بيغن وأريئيل شارون وأركان حربه لشن الحرب على لبنان. كانت القذيفة جاهزة في بيت النار، وصمّام الأمان مفتوحًا لإطلاق الرصاصة الأولى في حرب لبنان التي لم تتوقف إلا حين أرغمت قوات منظمة التحرير الفلسطينية على الخروج من لبنان.

 

التصدع اللبناني

 

حين رفعت الستارة عن لبنان غداة انسحاب الثورة الفلسطينية من هذا البلد، ظهر التصدّع البنيوي في العلاقة بين الشعب اللبناني والشعب الفلسطيني وقضيته، وهو ما انعكس انقسامًا جذريًا جراء الوجود الفلسطيني في لبنان. وهذا انقسام لم يولد من فراغ، بل كانت جذوره ممتدة إلى سنة 1948. ففي ذلك العام، شارك الجيش اللبناني في معارك فلسطين، وبالتحديد في موقعة المالكية ثم في المجيدية، وغداة النكبة الفلسطينية لقي اللاجئون دعمًا شعبيًا وسياسيًا غير محدود في لبنان في بداية الآمر. وقد قدّم اللبنانيون بكافة أطيافهم دعماً مهماً لقضية فلسطين، ولا سيما في الجوانب السياسية والإعلامية. وفي هذا السياق استشهد خليل عز الدين الجمل، فكان أول شهيد لبناني في حركة فتح. ثم كررت السبحة. ويتذكر كثيرون كيف ترأس الرئيس اللبناني سليمان فرنجية وفداً عربياً الى الأمم المتحدة للمطالبة بالاعتراف بالدولة الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني. ومع أن بعض اللبنانيين خابت توقعاتهم في شأن الوجود الفلسطيني في لبنان، حيث اعتقدوا أن في الامكان الحفاظ على سيادة لبنان واحترام قوانينه، بدلاً من إنشاء جبهة لمقاومة إسرائيل في الجنوب اللبناني، أو إنشاء دويلة داخل الدولة اللبنانية، وتثير المخاوف المذهبية والطائفية إلا ان كثيرا من اللبنانيين اندفعوا إلى الانخراط في صفوف الفصائل الفلسطينية المختلفة، لأن فلسطين كانت تمثل وجدانهم الجمعي، أو لأنهم اعتقدوا ان الثورة الفلسطينية هي أداة التغيير في العالم العربي بعد هزيمة حزيران 1967. غير ان لبنانيين آخرين رأوا ان الوجود الفلسطيني المسلح بتحالفه مع فريق لبناني محدد هو الحركة الوطنية اللبنانية من شأنه تدمير الصيغة اللبنانية والنظام اللبناني، وهو ما جرى لاحقاً في سنة 1975.

انطلاقًا من هذه الرؤية يمكن القول ان المارونية السياسية كانت المسؤولة المباشرة عن انفجار الصراع المسلح في سنة 1975، باعتبارها تمسك بزمام الحكم في لبنان، فقد ساير بعض الزعماء الموارنة حكام الدول النفطية المعادية لأي ثورة أو تغيير، وأخرجوا لبنان من بيئته الطبيعية لقاء السلطة والحصول على المغانم من الدول العربية الإسلامية المحيطة في المنطقة. وحين وعى المسيحيون خطر ما ارتكبوه، لم يجدوا لأنفسهم مهربًا إلا اللجوء الى السلاح ووضع وجودهم ومصيرهم بين أيدي «الإسرائيلي» لاستعادة السيطرة على زمام الأمور. بينما وقف جزء آخر من اللبنانيين ممن تبنّى القضية الفلسطينية وانخرط في لبّها ولهيبها، باعتبار المسألة الفلسطينية بوصلة القضية القومية. كان هذا الانشطار هو الثقاب الذي أشعل الانفجار، ومنذ ذلك الوقت ونحن نسير من مصيبة إلى أخرى.

 

التسلل الإسرائيلي

 

قطب الرحى، اذاً، يكمن في انتقال القضية إلى نقيض كانت عليه قبل عام 1965، فانقسم الشعب اللبناني عموديًا، في سياق الانقسام العربي مع «كامب دايفيد» ثم «وادي عربة». ومع ذلك، فقد بات مؤكداً ان القضية هي معركة العرب كلهم وليست معركة اللبنانيين وحدهم. وبرهان ذلك اندلاع المقاومة الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان. ثم كانت معركة التحرير الأمر الذي طوّر علاقة إيجابية مع فكرة المقاومة.

قضية فلسطين هي قضية الارتباط القومي للبنان بالبيئة الطبيعية. لم يخُن اللبنانيون القضية يومًا لا في وعيهم ولا في تضحياتهم. كان على المنظمات الفلسطينية ان تكون البيئة الاستقطابية للقضية القومية التي تعتبر فلسطين القضية المركزية والأساسية بمعناها القومي وليس الكياني. وكان الأجدر بهذه المنظمات الانطلاق لتشكيل خلايا مقاتلين من جميع الأراضي العربية بدلاً من التفتيش عن حماية باللعب على التناقضات السياسية العربية، (الكويت والعراق مثلا). ونتساءل والحال هذه: قضية من كانت القضية الفلسطينية آنذاك؟ هل كانت حقاً قضية قومية؟ اذاً كان من المفترض ان تبقى في سلوكها وتوجهها قومية لا نفطية تارة مع السعودية، استثمارية تارة أخرى مع القذافي. أعربية هي؟ اذاً، لوجب عليها الوقوف علنًا الى جانب القوى الوطنية واليسارية المنتمية الى الكيان العربي لا اللبناني!! مارست المنظمات الفلسطينية كثيراً من الأنانية على حساب قضايا الجميع. وانخرطت المنظمات ـ متعمّدة أو من غيرقصد ـ في قضايا لبنانية بالغة الحساسية كالطائفية، فانزلقت إلى صراعات ومناكفات في وطنٍ لا يحتمل اللمس أو وضع اليد عليه، فهو عبارة عن تركيبة بالغة الحساسية والتوازن الطائفيّ، والتي ما إن تُمسّ حتى تتحوّل كل مسألة فيها إلى انقسام يمنح لإسرائيل فرصة التسلل والجلوس الآمن.

 

* كاتبة لبنانية.

المصدر: 
السفير