الاستدامة: المبادرات العربية

بقلم: 

تشارك الدول العربية بدرجات متفاوتة في جهود تعزيز استدامة كوكب الأرض وما عليه من أشكال الحياة. 

وعلى الرغم من إطلاقها للعديد من مبادرات الاستدامة المحلية ومشاركتها في مبادرات عالمية، ما زال مجمل الإنجازات العربية متواضعا ويحتاج لمضاعفة الجهود ليرتقي إلى المستوى المتوقع. 
انبثقت المبادرات العربية عن الأجندات الوطنية والخطط الاستراتيجية لكل دولة، وتوافقت مع مرتكزات الاستدامة الاقتصادية والبيئية والاجتماعية، والحوكمة. 
رعت الحكومات بعض المبادرات، بينما نُفذ البعض الآخر بقيادة مؤسسات المجتمع المدني أو القطاع الخاص.
ولعبت المبادرات الشبابية دوراً فاعلاً في ابتكار الحلول وقيادة التغيير في النهج نحو الاستدامة. وفيما يأتي تلخيص لبعض المبادرات التي نُفذت بجهود مشتركة وحققت آثاراً ملموسة: 
أولاً: مبادرة المدارس المستدامة في دولة الإمارات العربية المتحدة: تستهدف المبادرة الطلبة والمعلمين والإدارة وموظفي الخدمات في المدارس الشريكة التي يزيد عددها على 135 مدرسة حكومية وخاصة. 
تسعى المبادرة إلى غرس القيم وتوجيه سلوك طاقم المدرسة والمجتمع للتعامل بإيجابية مع البيئة. 
وتهدف إلى تزويد طاقم المدرسة بالمعارف اللازمة وبناء قدراتهم وتطوير مهاراتهم في مواجهة مشكلات البيئة، كما تسعى إلى تخفيض البصمة الكربونية في المدارس الشريكة عبر الممارسات السليمة المستخلصة من الأبحاث العلمية في قضايا المياه والهواء والتربة والطاقة والمخلفات. 
تتكون المبادرة من أربعة عناصر متكاملة تشمل تدريب المعلمين على أساليب تعليم البيئة، وتأسيس النوادي البيئية وإدارتها، وتنظيم الرحلات الميدانية للتواصل مع البيئة، والتدريب على تقييم الأداء الذاتي. 
وتتمثل القواسم المشتركة بين هذه العناصر باستنادها إلى أدلة مرجعية خاصة، وبمشاركة الفئة ذات العلاقة في إعداد خطة العنصر وتنفيذها وإجراء تقييم أداء ذاتي قبل رفعه لهيئة البيئة التي تترأس عملية التقييم الخارجي. 
تنتهي عملية التقييم الخارجي بمنح جوائز للمدارس والمعلمين المميزين. تتوزع هذه الجوائز الخمس على أفضل مدرسة في مجالات التوعية البيئية، والرحلات، والقيادة، والتدقيق البيئي، وأفضل معلم بيئة.  
يشترك في المبادرة 4 مؤسسات دولية و17 مؤسسة محلية بما فيها وزارة التربية والتعليم، ووزارة التغيير المناخي والبيئة، وهيئة البيئة والمحميات الطبيعية، ومركز إدارة النفايات، ودائرة شؤون البلديات والنقل، وحديقة حيوانات العين وعدد من شركات التوزيع والبلديات.
أُطلقت المبادرة العام 2009 بالشراكة بين هيئة بيئة أبو ظبي ودائرة التعليم والمعرفة، ورعاية شركة "بي بي"، ثالث أكبر شركات النفط الخاصة في العالم. 
ثانياً: مدينة مصدر المستدامة في أبو ظبي: تتميز مبادرة مدينة مصدر، بتكامل مكونات الاستدامة العمرانية والاجتماعية في فكرة تشييدها وفي واقعها. ففي مجال تخفيف البصمة الكربونية، صُممت مباني المدينة بطريقة نجحت في تخفيض استهلاك الطاقة بحوالى 40%، وتخفيض حرارة محيطها بعدة درجات. تعيد المدينة، التي تعد الأولى من نوعها في المنطقة العربية، تدوير 85% من مخلفات البناء ولديها محطة للطاقة الشمسية ولطاقة الرياح. تستخدم مدينة مصدر الحافلات الكهربائية والدراجات للتنقل، كما يسمح قرب عماراتها السكنية بالمشي.
في المجال الاجتماعي، وبالإضافة للمنطقة السكنية، يتمتع مجتمع المدينة متعدد الجنسيات بوجود منطقة حرة ومطاعم ومتاجر وأماكن ترفيهية ومستنبت للغذاء العضوي. 
لدى المدينة جامعة تضم مركز أبحاث، وكلية للعلوم والتكنولوجيا، وحاضنة للأعمال الريادية. 
تتضافر جهود هذه المراكز في تطوير استخدامات الطاقة النظيفة وتسويقها في العالم. 
في هذا السياق، وقّعت مدينة مصدر في العام 2021 اتفاقية لتطوير محطات شمسية في جورجيا، ودشنت مشاريع لطاقة الرياح في بولندا.      
في تشرين الثاني2021، نالت مدينة مصدر جائزة الطاقة العالمية للتميز، وحصلت على جائزة "جلف بيزنس" لأفضل شركة طاقة. انعكست جهود الاستدامة العمرانية والمجتمعية إيجابياً على النمو الاقتصادي في مدينة مصدر، ما دفع دولة الإمارات إلى تكرار هذا النموذج وتوسيعه ليضم مدينة دبي ومناطق أخرى. 
ثالثاً: مبادرة "حياة كريمة" في مصر: أُطلقت هذه المبادرة الحكومية في العام 2019 لتجسد المجال الاجتماعي من رؤية مصر2030. 
صدرت الفكرة عن مجموعة من الشباب المتطوع ثم تحولت إلى مبادرة وطنية صُممت، بجهد مشترك بين الحكومة والقطاع المدني والخاص والشركاء، للتصدي للفقر. 
تسعى المبادرة لتقديم حزمة متكاملة من الخدمات الصحية والاجتماعية والاقتصادية للأسر الفقيرة، بتكلفة تقدر بحوالى 700 مليار جنيه. 
بالتحديد، تهدف المبادرة إلى توفير الحياة الكريمة للفئات الأكثر احتياجاً في الأرياف المصرية بما يشمل الأيتام والنساء المعيلات والأطفال والشباب العاطل عن العمل وذوي الإعاقة.  
تشمل تدخلات المبادرة إصلاح البنية التحتية والبيوت السكنية وربطها بشبكات المياه وشبكات الصرف الصحي، وزيادة فرص العمل، ودعم المشاريع المتناهية الصغر، وإنشاء مراكز شبابية ومستوصفات وحضانات أطفال، وتوفير الخدمات التعليمية والطبية وتدوير النفايات. 
ويشير تقرير التقدم في سير العمل في تشرين الأول 2021 إلى الانتهاء من تنفيذ حوالى 1300 مشروع وفرت حوالى 550 ألف فرصة عمل واستفاد منها حوالى 4.5 مليون مصري، وما زال تنفيذ المبادرة جارياً. 
رابعاً: المنتدى المصري للتنمية المستدامة: تأسس المنتدى العام 2012، ويضم مجموعة من العلماء المصريين العاملين في جميع المجالات التنموية. 
انطلقت فكرة المنتدى من توصيات مؤتمر الأمم المتحدة "المستقبل الذي نريده" الذي انعقد في ريو دي جانيرو العام 2012، وركز على ضرورة خلق كيانات تساعد الدول في تحقيق التنمية المستدامة.  
سُجل المنتدى كمؤسسة مجتمع مدني تسعى لتحقيق التنمية المستدامة عبر بناء الشراكات بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني. وتتلخص أهداف المنتدى برصد واقع التنمية المستدامة والتقرير عنها، ونشر مفاهيمها وآليات تحقيقها خاصة بين طلبة الجامعات، وتكوين بيت خبرة يقدم الاستشارة للدولة وجميع المؤسسات الوطنية، كما تهدف للعمل كحلقة وصل بين المؤسسات لتحفيزها على تبادل المعارف وتنفيذ المشاريع المشتركة. لتنظيم العمل، شكل المنتدى ثلاث فرق من أعضائه لمتابعة قضايا التنمية المستدامة الشاملة للقضايا الاجتماعية والاقتصادية والبيئية. على سبيل المثال، تتضمن القضايا الاقتصادية الأمن الغذائي، وأنماط الإنتاج والاستهلاك، والسياحة المستدامة، والاقتصاد الأخضر، ونقل التكنولوجيا، والمباني الخضراء. 
في سياق الإنجازات، أصدر المنتدى تقريره الأول حول "واقع الاستدامة في مصر من وجهة نظر مدنية"، وحظيت مبادرته "أسبوع الاستدامة في مصر" التي أطلقت العام 2015، باهتمام العديد من الشركاء ورعاية الدولة، وما زال الأُسبوع يعقد سنوياً. 
وقع المنتدى العديد من الاتفاقيات مع الجامعات ومؤسسات البحث، كما انتُخِب نائباً لرئيس اللجنة المتوسطية للتنمية المستدامة.   
خامساً: مبادرات الشركات الناشئة: تتوفر لدى الشركات الناشئة الفرصة لاتباع نهج الاستدامة في تطوير أعمالها، وقد حظيت المئات منها بالدعم من قبل الحكومات ومؤسسات القطاع الخاص لإدراكهم جدوى الاستثمار بها. نما العديد من الشركات الناشئة بشكل ملحوظ استدعى تسليط الضوء عليها. ففي العام 2020، أعلنت" فوربس الشرق الأوسط" عن قائمة أفضل عشر شركات ناشئة تتبنى نهج الاستدامة. تشتمل القائمة على 4 شركات إماراتية وتضم شركات "أفاني" العاملة في مجال التصنيع، و"بادية" العاملة في تكنولوجيا الزراعة و"جرين تتش" العاملة في التنظيف الصديق للبيئة، و"سيراميك متيريال" المختصة بإدارة النفايات. 
وفازت ثلاث شركات مصرية تعمل في مجال إدارة النفايات وهي بارامودة وبكيا وجو كلين. وضمت القائمة شركتين لبنانيتين تعملان في مجال إدارة النفايات هما ليف لوف ريسيكل وفابريك إيد، كما فازت شركة "كلين سيتي" المغربية العاملة في مجال التكنولوجيا.   
وتجدر الإشارة إلى جائزة زايد للاستدامة المخصصة للشركات الصغيرة والمتوسطة والمنظمات غير الربحية والمدارس الثانوية التي تتميز بتقديم الحلول المبتكرة ذات الأثر المستدام. 
تشتمل مجالات التنافس على الصحة والغذاء والطاقة والمياه. منذ إطلاقها في العام 2008، تم تكريم 86 فائزاً من مختلف دول العالم، وسيتم الإعلان عن الفائزين الجدد خلال أسبوع أبو ظبي للاستدامة المزمع عقده في الأسبوع القادم.
ما ورد أعلاه يدل على تصاعد اهتمام الدول العربية بمستويات متباينة في موضوع الاستدامة، فالبعض منها مازال في مرحلة إطلاق الرؤى والاستراتيجيات وإطلاق شعارات  تبني الاقتصاد الأخضر والتنمية الخضراء. والبعض الآخر تخطى ذلك إلى إعداد السياسات وإجراءات العمل وتنفيذ مبادرات حققت إنجازات ملموسة.
التحديات كثيرة والمأمول أن تتم مواجهتها بالتعاون المشترك بين الدول العربية. 
المطلوب أن تترجم الاستراتيجيات إلى إنجازات، وأن تنتقل الشعارات إلى الفعل، وأن تُبنى شراكات بن الدول العربية لتنفيذ مبادرات ذات أثر عميق ونطاق واسع يزيد من فرص استدامتها كوحدة واحدة، ويعيد لها مكانتها على المستوى العالمي. 
فهل سيتحقق ذلك؟ السنوات وربما العقود القادمة ستجيب عن هذا التساؤل.  
 

 

المصدر: 
تفيدة الجرباوي