هل ندق على الخزان ؟

بقلم: 

لم استغرب موجة الاستياء وكذلك الانفعال على مقال مدرسة الجيروساليم الامريكية في القدس. وتوقعت هجوما متعدد الاطراف ما بين المدرسة والاهل .ولقد تعودت منذ وقت بألا اقرأ التعليقات الغاضبة والمسيئة . وقد افهم غير متفهمة غضب الاهل المستائين من المقال ، فبالنهاية المقال لا يضع اللوم على المدرسة فحسب ، بل يؤكد ان الاهل شركاء بالسكوت .وما كتبته بلا ادنى شك يأخذ كل والد ووالدة الى رحلة سريعة في كل ما جرى في الكثير من المحاور في المدرسة وتغاضى عنها قمعا او لعدم اكتراث.
قبل يومين ، وتزامنا مع المقال ، انتشر تقرير عن التلفزيون الاسرائيلي لمقابلة مع فلسطينية مقيمة بكندا، تكون لزخم الواقعة ابنة اخت صخر حبش ،الزعيم الفلسطيني الكبير الذي كان في صفوف منظمة التحرير الاولى وقيادة فتح . خروج فلسطيني متصهين ليست المرة الاولى . وبلا شك ان استخدام اشخاص من عائلات لها باع في المقاومة صادم للرأي العام . فقبل “ساندرا” كان هناك مصعب يوسف ابن القيادي البارز في حماس حسن يوسف. وفي خلال العدوان على غزة برز مراهق من عائلة الزعبي يدافع عن اسرائيل. ليس محضاً للصدفة التركيز على شباب لعائلاتهم تاريخ وطني مسجل . وبهذه اللحظات بينما اكتب هذه السطور ، تنبهت لكيفية اختيار الاشخاص من التيارات المختلفة (فتح) ،(حماس) ، ( التجمع). وهؤلاء فئة شبابية ضائعة ليس من الصعب فهم التحول الذي جري في مسار تفكيرهم واوصلهم الى هذا المكان .
لنستخدم ساندرا حبش كنموذج لانها الاحدث . المقابلة لاترقى لسماعها حتى لافتقار ‘البطلة’ للتركيز، ولعل هذا لعدم نضوجها . ولكن هناك مشهد يقول كل شيء : ذراع الفتاة وظهرها الموشوم باوشمة تعبر عن تفانيها لاسرائيل قوميا ودينا . فكلمة اسرائيل على ظهرها تؤكد انتماءها القومي لاسرائيل ، بينما ذراعها المزخرف في اعلاها في كلمات توراتية تنتظر عودة المسيح اصولية دينية. ولربما لعدم وعيها الكافي ، وبما ان الفتاه حولت ديانتها الى المسيحية ، لانه بلا شك اسهل ، ولن ترضى اليهود بان تصبح يهودية ، ظنت ان المسيح المقصود هو المسيح النصراني. وهذه الفتاة التي نراها على الشاشة عبر السكايب تسب على الفلسطينيين وتقول متفاخرة بأنها تحلم بيوم تأتي به الى اسرائيل حاملة العلم الاسرائيلي تجلس امامنا موشحة بالحطة الفلسطينية.
هنا ينتهي المشهد بصورة تعبيرية لا تحتاج الى كلام اخر….
هذه الصورة تؤكد مدى الضياع الذي تعيشه هذه الفتاة نتيجة مسح ممنهج حصل لهويتها في سنوات كثيرة او قليلة ماضية . بالنهاية نحن نتحدث عن جيل لا يزال في بداية عقده الثاني . ان لم يكن اقل. وهنا ما يحدث امامنا منذ اكثر من عقدين (مع اوسلو) بكل ما دخل علينا من مشاريع سلام مخادع تضمن سفر الى امريكا وعطل ولقاءات ،فرحنا كأهل بأن يسافر ابناءنا مجانا ( بالبداية ) والاندماج فرحين بالسفر الى امريكا والتعارف على الاسرائيليين من خلال هذه البرامج.
لاكون واضحة . سأؤكد مرة تلو الاخرى ، بأنني انسانة اسعى الى السلام ، ومؤمنة بايمان حقيقي ان السلام بين الاسرائيليين والفلسطينيين لن يتحقق الا اذا ما جلس الطرفان معا وتفاهما وتعارفا . ولكن الفرق بين ما اتصوره من تبادل لا يمت بصلة لما يحصل واقعاً على الارض. لان ما يجري لهذه اللحظة على المستويات المختلفة من لقاءات سياسية ليس بهدف التفاهم المبني على العدل والمساواه بل ياخذ شكل القوي امام الضعيف . نتلهث فيه نحن الفلسطينيون لما يرمون الاسرائيليون علينا من امتيازات يرونها استحقاقات لهم بدأت وانتهت بمهزلة التصاريح المميزة (على سبيل التهكم) ودخول ١٥٠ عربة فلسطينية “مميزة” الي اسرائيل.
وعلى المستوى الاجتماعي ،فان التبادل الحاصل في معظمه يهدف الى خلع الفلسطيني من هويته الوطنية اولا والثقافية ثانيا.
استخدامي بهذه اللحظات لمدرسة الجيروسليم كنموذج لهذا الخطر ، ليس على سبيل الحصر ، ولا على سبيل الاتهام . ولكن بلا شك هناك ما يجري منذ سنوات عديدة تحول اليوم الى نهج وقع فيه الاهل كما الابناء ضحايا . وصلني صباحا تعليق على احد المواقع ،افكر انه يوجز حالة المسح الثقافي الحاصل من قبل الاهل كذلك ، اذا ما كان هناك فلسطينيون فعلا وصلوا الى هذا المستوى من تحليل الموقف . او لنقل ، تحليل كلامي . يبدأ التعليق باستخدام الكلام المكتوب بالمقال حرفيا وعلى هذا النحو : ـ” “الارهاب حول العالم” يبدأ هكذا: بدأت مشكلة الارهاب الدولي في صيف ١٩٧٢ في اولمبيات ميونخ ..اعضاء من منظمة ارهابية فلسطينية قتلوا رياضيين اسرائيليين واخذوا تسعة رهائن ثم قتلوهم. استخدم الارهابيون الفلسطينيون كذلك خطف الطائرات والعمليات الانتحارية . منذ ذلك الوقت ،القليل من مناطق العالم لم تتعرض لهجوم ارهابي .” وما الخطإ فيما ذكرته الفقرة ؟ اليس خطف الطائرات ارهابا ايضا؟
اليس ازهاق ارواح الاخرين ارهابا؟
اتشجعين سيدتي العزيزة الارهاب ام تشجعين مناهج السلطة التي تحض على الارهاب؟
أليس من باب اولى ان تتفرغي الى مناقشة القضية الفلسطينية والصراع العربي الاسرائيلي بشكل واقعي اكثر من انك تقومي بمزايدة رخيصة على تسمية الارهاب بالارهاب.
اذا تم خطفك او دعسك او طعنك بسكينة الن تسميه ارهابا ام ستسميه عمليه وطنيه ؟ ” –ـانتهى التعليق-ـ
لأول وهلة خطر لي ان التعليق جاء من احد الاهالي . بلا شك لن يكتب التعليق احد الطلاب ، لانني اجزم بأنه لا يوجد بالمدرسة من التلاميذ من يكتب العربية بإتقان . واللغة لغة ناضج لا لغة مراهق. وفي قراءتي التالية للتعليق كدت ارى امامي المتحدث باسم الجيش الاسرائيلي الناطق بالعربية على الفيس بوك (افيخاي درعي) .اذا ما كان صاحب \ة التعليق من الاهالي فنحن في مصيبة عظيمة . تؤكد ان معرفتنا بالمجتمع الفلسطيني نحن الفلسطينيون معدومة . وقد اذهب الى القول بأن من كتب قد يكون من الاهالي غير المقدسيين ، اي من حاملي الجنسية الاسرائيلية . وهنا قد اكون اثرت بلبلة وانقساما فوق الانقسام الحاصل . وبكل الاحوال علي التوضيح ، انني ارفض التفرقة بين الفلسطينيين ، وبغض النظر عن التغيرات الحاصلة والتأثيرات التي ادت بلا شك الى تشويه في الهوية الفلسطينية للفلسطينين بالداخل ، فان هذ التشويه يتم مقاومته من قبل الكثيرين من افراد المجتمع ومجموعاته المختلفة. ما يحدث هنا هو تشويه بالهوية الفلسطينية المجتمعة بغض النظر عن المكان القادم منه صاحب التعليق. فمع ما يجري من تشويه ، انا لا استغرب ان يكون كاتب التعليق فلسطينيا مقدسيا متأسرلا. الا ان سؤاله ـ اتشجعين سيدتي العزيزة الارهاب او تشجعين مناهج السلطة التي تحض على الارهاب؟ ـاخذني وعلى فوري الى مكان اخر بهوية كاتب التعليق . فاذا ما كان الكاتب فلسطينيا بغض النظر ، مقدسيا كان ام حاملا للجنسية الاسرائيلية من الداخل ، اكون قد تكلمت عن “ساندرا حبش” في هيئة ام مستقبلية . عندما يظن احدهم جازما ان منهج السلطة منهجا يحث على الارهاب . هل نسمع هنا ادعاءا اسرائيليا بجدارة ؟ كيف يكون هناك فلسطيني طبيعي يرى في المنهاج الفلسطيني محثا على الارهاب في وقت يتحامل الفلسطينيون فيه على المنهاج المعدل الذي يبدو ماسحا للجغرافيا الفلسطينية مهيئا برحابة صدر للكيان الاسرائيلي بحفاوة قادمة؟ اذا ما كان كاتب المقال يدعوني للتفرغ للقضية الفلسطينية والصراع العربي الاسرائيلي (على حد تعبيره) يرى من خلال كلامي مزايدة على تسمية الارهاب ، فان هذا الانسان بلا شك لم يكن ابدا فلسطينيا ، ولم يكن ابدا انسانا قد مر بتجارب الظلم والقمع والاستبداد ، ولم يقرأ من التاريخ الا ذلك الذي خطّ على يد الامبرياليات والقوى الاستعمارية التي أخضعت كتب التاريخ لفكرها الاستعلائي السقيم الذي من بينها ذلك الكتاب الذي يُدَرس في مدرسة الجيروساليم .
ومنذ تناولي للموضوع وانا احاول الا اسحب الرأي العام الى الكتاب هذا بعينه . الموضوع ليس فقرة من كتاب . الموضوع موضوع رسم منهجة في مسار التفكير مرفوضة . قد لا ابالغ اذا ما قلت انني على كافة المستويات من اكثر الناس انفتاحا للقراءات المفتوحة المتناقضة والمختلفة . بل اكثر ، ارى ذلك واجبا على كل من يسع الى التعلم . فلن تنفتح افاقا نحو مستقبل افضل الا عند فهمنا وقراءتنا للتاريخ والمجتمعات من زوايا مختلفة.
الا ان كاتب التعليق اكد جازما لي ، ان ما يقدمه الكتاب هو الطريق الصحيح في فكر السلام الذي يتبناه . يريدني ان ارى من المقاومة ارهابا ، وينسى بوقاحة مفرطة حجم المعاناه والمآسي المتتالية والنكبات المستمرة منذ سبعين عاما التي ألمت ولاتزال على هذا الشعب المثكول . ينسى استقبال فلسطين لللاجئين اليهود قبل سبعين عاما من أوروبا النازية واللذين بدورهم حوّلوا هذه البلاد الى معاقل ارهاب لعصابات الهجاناه والابرغون في الثلاثينات والاربعينات من القرن الماضي . اذا ما اراد ان يكون براغماتيكيا باقل تقدير ، كان من الاولي ذكر تفجيرات كينغ ديفيد ومقتل الابرياء من الانجليز والفلسطينيين من قبل عصابة الارجون سنة ١٩٤٦. هل يتم تعليم ابنائنا بتلك المدرسة هذه المعلومة ؟ هل هناك تفسير غير الارهاب عندما تقوم تلك العصابات للقاعدة العسكرية البريطانية (التي كانت تعد العدة لقيام دولتهم المستقبلية) ؟ اعرض هذا المثال فقط للتنويه وليس للشرح او لعرض عمليات الارهاب الكثيرة ، لصاحب التعليق المتبرع اذا ما كان فلسطينيا من اي بقعة بهذه الارض التي لا تزال تعيش في نكبة ، ان يعيد لذاكرته الممسوحة بعض الاحداث اليومية على مدار عقود من الاحتلال. وقد يكون اليوم مثالا جيدا له …. ذكرى مذبحة كفر قاسم ، والتي من المؤكد انها لا تذكر في المنهج الذي يروج له .
لا اريد ان يكون مقالي هذا ردا للتعليق. الا اني اردت ان يكون فرصة للشرح على مدى الشرخ الذي نعيش فيه . سأكون اسفة وبحق ان يكون هناك فلسطيني فعلا وصل الى هذا المستوى من مسح ذاكرته والانسلاخ عن هويته. وقد يكون ابناءنا في مكان افضل بانهم لا يزالوا يتعرضون لعملية تشويه . فالتشويه بغض النظر عن قباحته يبقي وجها يذكرنا بمن نحن .اما المسح فيلغي كينونتنا بالمطلق.
وبينما اكاد اجزم بأن كاتب التعليق ليس فلسطينيا اصلا ، قد يكون امريكيا من ادارة المدرسة طلب ترجمة كلامه حرفيا . فكلامه اما امريكيا متصهينا ، او اسرائيليا بجدارة .
وفي هذه الحالة ينتهي كلامي …. فأنا لا استغرب ابدا من هكذا تفكير ، ويؤسفني كثيرا بأن كهؤلاء يعيشون عقودا على ارضنا تحت مسميات المساعدة للفلسطينيين وفي نفوسهم هكذا حقد على المجتمعات التي يعيشون بداخلها ليجنوا الكثير من الاموال وربما السفقات ….. وهنا قد يأخذني الحديث لما يخفى من فساد عارم في تلك المدرسة ، كما هو حال الجمعيات المشابهة لاجندتها ، تكرس اي اجندة من اجل اموال خفية لا نعرف اين تذهب ولمن . ويبقونا بدائرة نفسها كتلك التي قالها قبلا الراحل كنفاني : يسرقون رغيفك ..ثم يعطونك كسرة …ثم يأمرونك ان تشكرهم على كرمهم …يا لوقاحتهم….
واختم بما بدأت …. لغسان كنفاني كذلك ، مبتغاي من هذا ان اكسر التساؤل الذي بدأه بلم لم يدقوا الخزان في روايته رجال الشمس…. لأننا نقف اليوم امام امتحان جد في هويتنا المشرذمة هذه ..امام رجال الشمس اولئك الذين قدموا حياتهم من اجل عدالة هذه القضية …قضوا في خزان ساخن ..نكاد نتخيل تحرق صخر حبش في ما ال اليه مستقبل ابنائه ….. ما تبقى من هذه القضية هو نحن . نحن الفلسطينيون الذين نرتبط بالارض لا ارتباط القومية ولا الدين ولا الاحقية التاريخية او العشاىرية او غيرها …. ولكن بارتباط الحق بالوجود. بالوجود العادل لاصحاب الحق . اصحاب الارض.