ويعاني الفلسطيني أيضًا نوبات حنين للمنافي!

الحنين

واذا كان وطن الفلسطيني في الشتات وطنا شفويا يرويه الأجداد للأحفاد وينمو في المخيلة ، فإن المنافي واقع يلمس باليد، والأماكن تتحول إلى مخلوقات بشرية حين تعاشرها، هي الأوعية التي تنمو في وعينا، وينطق جمادها حين تتحدث عن حدوثنا بها، وحمولة قلب الفلسطيني من العواصم ما يفيض أحيانا عن حاجة الغربة لقاعة ترانزيت لا تؤدي إلى طائرة للوطن !

للفلسطيني من المنافي ما يكفي ليوزعها على شعوب من اللاجئين، ورغم أن الغرباء عادة يشتاقون إلى بيوتهم أكثر من شوقهم للفنادق، يكسر الفلسطيني القاعدة ويصاب بنوبات حنين لمنافي ومخيمات وعواصم ومدن وزع عليها شتاته بين وطن شفوي ومنفى في متناول اليد !

ولدت فلسطينيا بمخيم العائدين في حمص وسط سوريا !

حمص هي مدرستي الأولى ، وصفي الأول ، والحب الأول ، والسيجارة الأولى ، وحلاقة ذقني أول مرة .. هي أول مقالة كتبتها في حياتي كانت في جريدة العروبة في حمص ، أول مرّة دخلت السجن في سجنها البولوني ، أول قصة حب كانت في شارع الدبلان، وأول مذاق لمرارة بيرة الشرق كانت في مقصف ديك الجن، وأول حادث غرق نجوت منه كان في نهر العاصي، حمص هي مخيم العائدين الذين لم يعودوا !

في بيروت مارست حياتي المهنية والسياسية وغادرتها بعد حصار الجيش الإسرائيلي للبنان عام 82 على ظهر باخرة يونانية بعد 12 سنة من ممارسة المنفى الذي ترك في القلب أماكن وأصدقاء وصديقات وزملاء يقرقشون الحنين كمنقوشة زعتر على شاطئ الروشة !

وعشت في قبرص 12 سنة منحتني جزيرة الشمس شمسها بسخاء ، واعطتني قلبها اليوناني في مطار لارنكا وكانت ملاذا امنا للصحافة الفلسطينية بعد بيروت، وفيها صنعنا مجتمعنا الفلسطيني الصغير من زملاء المهنة في الصحافة الفلسطينية ، وغادرتها الى تونس وحنيني اليها مازال يرقص رقصة زوربا بين ليماسول وجبل ترودس !

في تونس التي منحت الشهيد عرفات عاصمة مؤقتة عشت ثلاث سنوات بعد ان منحتني قلبها الأخضر ، وتركت قلبي تحت " الياسمينة بالليل " وغادرتها الى السويد والحنين يعبق في انفي مثل مشموم الفل !

لكل هذه المنافي حكايات طويلة لا يتسع لها بوست صغير في الفيس بوك لكي يفيض بسرد سيرتها ، وثرثرة الاماكن ابلغ من بلاغة الايجاز !

للفلسطيني قلب يوزعه على المنافي ويحبها ولكن يبقى الحب للحبيب الاول وطن ينمو في المخيلة وفي متناول القلب دوما !

التدوينات المنشورة تعبر عن رأي كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي زمن برس.