غزة يا بنت بنوت

كأنني أسمع هذه الكلمات لأول مرة:
غزة يا بنت بنوت لانو الموت ما حب الصوت
لحقها جوا غرفتها  غار من صوت ضحكتها
مد ايده ع شفتها  بفكر انو سكتها
وغزة لسة بتغني وبتمشط بغرتها
كأنني أسمع هذه الكلمات لأول مرة، وأنا الذي استمع لها مئات المرات، منذ صدور الأغنية ضمن الألبوم الغنائي يحملني الليل، الذي صدر قبل عام..
ها أنذا أرى غزة بعينيّ شاعر هو خالد جمعة، ولحن عميق جواني للفنان سعيد مراد، وصاحبة صوت مميز هي الفنانة ريم تلحمي..
كنت وتلفزيون فلسطين ومشاهد غزة، وصوت ريم تلحمي، غير مركّز بما أسمع لهول ما أشاهد من جرائم يصعب وصفها فعلا،، وبتتابع المشاهد والمشاهدة، وتتطور الانفعال حدّ البكاء، أتبين صوت آخر يبكي معي أو هكذا خلته، فرحت أرهف السمع فإذا هي ريم تلحمي في أغنيتها عن غزة، ينتبه أفراد الأسرة، فإذا هم يشعرون بما أشعر، فيقول الصغير مكتشفا بحزن:
-       يحملني الليل؟
-       ليل غزة طويل يا أحمد!
اعتاد أحمد أن يخفي مشاعره، شفقة عليّ وعلى نفسه، في هذه الحرب ظهر غضبه، أو لعله عوضه أو فرّغ مشاعره من خلال الغضب، وهو كطفل صغير يرى ما يرى ويسمع، فراح يعتب كثيرا على العرب ويطلب مصادقتي على ما يقول عن العرب والدول والحكام، فأشفق على الصغير، وأتذكر ملايين الأطفال العرب الذين يشعرون مع أطفال فلسطين، فأحاول دفعه للتفريق بين السياسة والقومية، لأربي لديه مشاعر طيبة تجاه أبناء العروبة، أذكره بأصدقائي العرب، الذي يعرف بعضهم، فيهدأ الصغير وفي نفسه عتاب طويل..
"ليل غزة طويل يا بنيّ" همست لنفسي وأنا أخشى على حصاد البيدر أن يحصد المزيد من الدماء والدموع..وغزة هي فلسطين التي لن ينتهي ليلها إلا بزوال الاحتلال إلى الأبد!
غزة يا بنت بنوت لانو الموت ما حب الصوت
لحقها جوا غرفتها  غار من صوت ضحكتها
مد ايده ع شفتها  بفكر انو سكتها
وغزة لسة بتغني وبتمشط بغرتها
حين كتبت عن هذه الأغنية من قبل قلت أن "هذه الأغنية تذكرنا بالعالم الرومانسي في أغاني اسمهان "يا طيور" أو "ليلة الأنس"، وهي إذن محاولة لاسترجاع الماضي الجميل، وفي الوقت نفسه هو شكل من أشكال الاحتجاج على الحاضر المؤلم". والآن على خلفية الحرب المسعورة منفلتة العقال، ماذا أشعر!
أشهر أن الأغنية بكائية عميقة: مدّ حروف العلة الألف والواو والياء، منح الغناء صفة التوجع من الظلم، وكان لإطلاق الألف في آخر العبارات دلالة الألم والرثاء، كما أن ختم الأغنية بالموسيقى عمّق هذا الشعور أيضا..  ولكن في طيات الرثاء شيء جميل ومهم، وهو الأمل!
-       الأمل؟
-       فرغم مشاعر الحزن والرثاء، إلا أنه حمل في طياته الأمل بل والتحدي. ولعل وجود عدة مشاعر في الأغنية الواحدة منح الأغنية حيوية شعورية، وهنا تكمن عبقرية التلحين.
أغنية رائعة تحمل رمزا عظيما، تنظر لمستقبل غزة وفلسطين بأمل البقاء، وتحمل نقدا عميقا لقمع الحرية في غزة، فهل هناك أجمل من غزة؟ غزة اللي لسة بتغني وبتمشط بغرتها، رغم تلك الأيادي السوداء التي مدت "ع شفتها  لتسكتها!
لن تسكت فلسطين فما زال صوت إنسانها!
وهذا هو شاعرها خالد جمعة المعبّر عن حالها، ولعله المتنبئ عن وجعها وأملها بالخلاص:
يقول في أغنية يحملني الليل
"يحملني الليل ونجم سهيل ومتغرب ومش راجع
أشوف في النار سما وقمار ونور من الوجع طالع
وطني في الخلال الخالي
وحالي ما درى بحالي
وأنادي سراجك العالي"
لعلّ إيمان الشاعر بغزة هو ما دفعه للمناداة على سراج وطنه العالي.
ولعلنا نختم بأغنية "كنا زغار من يومين" وهي أغنية الإنسانية التعبة، والحنين إلى الزمن الجميل؛ فمن خلال الحوار بين العود والكمان، نشعر بالتعبير عن الحنين إلى الماضي ببراءة الأطفال والفتيان. وكم أحببنا تكرا الحوار الموسيقي الرقيق عندما كان يتكرر مع كل مقطع جديد. أما تنغيم الصوت، فهو هنا وفي أغان أخرى، سبب من أسباب الاستمتاع.
"نقطف بلد من مشوار شو يعني لو قالوا صغار
ننط السور نسرق سبل"
وكان للإعادة والتكرار جمال خاص في: زي الظل برافقنا الأمل.
هنا إحساس عن البراءة التي سطا عليها الاحتلال:
"اجرينا حفظوا الشوارع غيب والناس يا صاحب يا حبيب
وهنا شيء من العتاب، واختلاف الزمن:
وين كنا وين صرنا ليش يا عمر عغفلة كبرنا
لسة شايلين الولد فينا كأن يا دوب من لحظة غفينا بالله يا عمر مهلك علينا"
فماذا نقول بعد الشاعر غير ما طلب: بالله يا عمر مهلك علينا!
إنها أغنية فيها الفرح والحب، وفيها الحسرة والحزن على الطفولة الضائعة.
لقد عاش الشاعر حرب غزة الأولى والثانية فكتب لنا هذه الأغاني، وهي تعبّر عن الحرب الثالثة الواقعة الآن.
"يا جبل" أغنية الألم. وفيها حيوية المدّ: الواو والياء المشددة، والتبادل بينهما بمتعة، كأنها موال قروي او بدوي، وكان لوجود الألف المطلقة أثر في التعبير عن التأوه، وكان اللحن يحاكي الكلام..
"يا جبل زاحوا الزمن من محلو حرمن ضحكاتي ودمعاتي حلو
يا جبل ساقو الغيم على عيني دمعاتي جراية ما بينك وبيني
وقد قرن الشاعر الجبل بالزمن والغيم والفكر والصخر والليل بين الرجاء والأمل والحزن، حيث أن الوصل بين المحبين سيأتي بالفرح.
لو يوم طليتو قلبي يفتح بيتو
لعلنا نبقى قليلا مع الشاعر في أغنية خطي:
أغنية التحدي المغلف بحزن ومرارة. حضر الكمان والقانون والعود، أما الحضور المميز فكان للناي:
"خلي شراعك العالي عالي وعمرو ما يوطي
نامي في دفا عيوني
يحنن قسوة العتمة يكتب ع الصبح كلمة
من صدري كتبت وراق ومن دمي حبر خطي"
وأخيرا مع قال الفجر للناي:
قال الفجر للناي صوتك بصحيني
لا تفارق من حذاي لليل يمحيني
صوتك فرات ونيل ع ورد النغم ساحو
لعل فجر الشاعر والإنسان المنشود هو فجر الوطن، الأرض والإنسان..
لعله!
فهل لأجل ذلك غزة لسة بتغني وبتمشط بغرتها؟

التدوينات المنشورة تعبر عن رأي كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي زمن برس.