التحرّش والرشوة الجنسية يلاحقان الباحثات عن عمل في غزة

التحرش

 

أمجد ياغي

 الحديث في موضوع التحرش الجنسي هو من المحذورات في فلسطين التي تتصف بأن مجتمعها محافظ وحساس في قضايا العرض، إلى حدّ أن الضحايا لا يمتلكن الحرية في الحديث عما حدث لهن، لذلك تلجأ نسبة كبيرة من النساء العاملات، اللواتي يتعرضن للتحرش، إلى الصمت، حتى لا يترتب على ذلك نتائج قد تحرمهم الخروج إلى العمل مجدداً أو تؤثر في سمعتهنّ. رغم ذلك، ومع تحذير مصادر عدة من الحديث في هذا الموضوع وصعوبة تقبّل المجتمع النتائج المترتبة عليه، تشجعت بعض الفتيات والنساء ممن تعرضن لتحرش لفظي أو جسدي، أو لرشوة جنسية، على أيدي بعض الشخصيات العامة، للحديث عما حدث لهن. ولم يكن ذلك سهلاً إلا بمساعدة صحافية أوصلت معدّ التحقيق إلى بعض الحالات وأقنعتهن بالحديث.
ومجموع الحالات التي توصلنا إليها هي 36 من الفتيات العاملات في عدة مجالات، لكن 25 منهن رفضن الحديث بالتفاصيل الكاملة، ووافقت 11 على ذلك بشرط ألا يفصح عن أسمائهن. ومنهن من وافقن على الحديث عبر جهاز التسجيل الصوتي، وأخريات اشترطن الكتابة الورقية فقط. ومن هذه الحالات تعرض 20 لتحرش جنسي داخل عملهن، و10 طلب منهم «رشوة جنسية»، فيما تعرضت ست لاعتداء جنسي داخل مكان العمل.

موظفو مؤسسات دولية

"دينا"، اسم مستعار لفتاة تبلغ 27 عاماً، وتعمل في الصحافة. قبل عام ونصف، وعبر موقع التواصل الاجتماعي «فايسبوك»، تلقت رسالة من موظف كبير في «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين ـــ الأونروا»، بعدما شاهد صورتها الشخصية. كان ذلك الموظف الشهير بين الصحافيين يستفسر هل هي صاحبة الصورة أم لا، وعندما أجابته أنها هي، قالها لها مادحاً: «صورتك حلوة ومنورة وما شاء الله قمر»، لكنها تقبلت تعليقه نظراً إلى فارق السن ومنصبه المهم على أنه مديح.
صار هذا المسؤول الكبير يتواصل معها، ولاحظ أنها بعد مدة نشرت على صفحتها منشوراً يعبّر عن يأسها لتوقفها عن العمل في وكالتها الإخبارية، وأنها بحاجة إلى عمل. مباشرة بدأ ذلك المسؤول بالحديث معها وعرض عليها المساعدة، وأن تحضر أوراقها الرسمية إلى مكتبه. لكنه عند حضورها، حاول الاقتراب منها ولمسها، فابتعدت وغادرت، وفي اليوم التالي كان صريحاً أكثر، فقد طلب منها ممارسة الجنس معه مقابل حصولها على الوظيفة، ما أصابها بالصدمة، ودفعها إلى قطع التواصل معه.

كانت هذه الواقعة صدمة على حياة "دينا"، فهي بطبيعة عملها تتعامل مع فئات عدة، ولم تكن تستبعد استغلال بعض الموظفين أو الشخصيات العامة للفتيات، لكن طبيعة منصب الشخص الذي فعل معها ذلك أفقدتها الثقة بأن تستطيع محاسبته، خاصة أن المجتمع «يشكك في نزاهة الفتاة إن تحدثت عن الشرف»، كما قالت.
وخلال البحث في آلية محاسبة موظفي «الأونروا»، وجدنا أن اتفاقات موظفي الأمم المتحدة التي تتبع لها «الأونروا» تعطي حصانة لهم، فلا يستطيع القضاء الفلسطيني محاسبة موظفيها، أو حتى تتبّع شكوى من الشرطة ضدهم في غزة. يشرح ذلك أستاذ القانون الجنائي والقاضي عبد القادر جرادة، مشيراً إلى اعتماد الأمم المتحدة على اتفاقية امتيازات وحصانتها الموقعة مع الدول التي تستفيد من برامجها أو تضم لاجئين.
على صعيد المؤسسات الدولية أيضاً، فإن "م. أ." التي تبلغ 28 عاماً، تعرضت لابتزاز من أحد مموّلي المشاريع الحقوقية، وهو يعمل مدير مؤسسة دولية في غزة، مقابل أن تخرج معه وترافقه، فيما يمنحها عملاً في أحد المشاريع التي تموّلها مؤسسته. وكانت "م. أ." تعمل مدربة في مجال حقوق الإنسان لمجموعة شبابية مع مؤسسة أهلية، ضمن مشروع مموّل من مؤسسة هذا المموّل الدولية. في البداية كان المموّل يبادلها المواد التدريبية، ثم صار يتواصل معها، وصولاً إلى «فايسبوك». لكن خلال استراحة أثناء لقاء تدريبي تحدث معها فجأة عن غياب التثقيف الجنسي في مجتمع غزة، رغم أن موضوع التدريب الذي تعطيه بعيد عن هذا المجال.
وأضافت: «فهمت أنه يريد التمهيد لعلاقة جنسية، وقلت له لا داعي للحديث في هذا الموضوع لأنه لا علاقة له بطبيعة عملنا، ومن يدرك هذه الثقافة يحتفظ فيها بداخله». لكنه لم يتوقف من الحديث معها وهي تحاول منعه، إلى حدّ بات يعرض عليها ما لديه من أملاك لإغرائها، كذلك عرض عليها وظيفة في أحد المشاريع التي تموّلها مؤسسته براتب جيد. ثم بيّن لها أنه يستطيع التوسط لها في إحدى المؤسسات التي قدمت طلب وظيفة فيها، شرط أن تأتي إلى مكتبه قبل ذلك.
وبسبب الرفض المستمر منها، استُفزَّ المموّل وأخبرها أن المشروع الذي تعمل فيه لن يجدد رغم وعود سابقة منه بالتجديد للمؤسسة الأهلية. ولاحقاً اكتشفت أنه كان يتواصل مع بعض الفتيات المتدربات في المشروع وحاول التقرب منهن، ولكنه حصل على رد قاس أيضاً. تضيف "م. أ.": «أي فتاة تتخوف من الحديث إلى أحد حول ما حدث معها... الظاهرة موجودة ومنتشرة في غزة».
محامون أيضاً

في مكتب أحد المحامين في غزة، تعرضت المحامية المتدربة "م" (23 عاماً) العام الماضي لتحرش جسدي من محام عمره 45 عاماً وهي في مكتبه. وعندما اعترضته ردّ عليها بأنه بحاجة إلى حنان فقده من زوجته، وهو على استعداد أن يتزوجها. لكنها في اليوم التالي فضّلت الجلوس في البيت وتوجهت بعد شهر إلى محام آخر بجانب متدربات من سنّها لتواصل التدريب هناك. تضيف هذه المحامية: «زميلة لي أخبرتني أن المحامي نفسه تحرش بفتاة من دفعتنا قبل ذلك، والمشكلة أنه محامٍ معروف وله مكانة... عندما تواجهت معه صار يهددني وأخبرني أن له مكانة، ولا أحد سيصدق كلامي».
مع البحث أكثر، تبين أن فتاتين أخريين تعرضتا لإيحاءات جنسية خلال إجراء مقابلة عمل «سكرتيرة». فقد جاءت المقابلة خارجة عن التوقع، وبأسئلة جنسية، وذلك في أحد مكاتب المحامين في غزة، الذي أعلن حاجته إلى سكرتيرة.

توجهت الفتاتان، واحدة من تخصّص الصحافة «م. ي.» (28 عاماً)، والأخرى «ن» (25 عاماً) السكرتارية المكتبية. وبادر المحامي إلى سؤال الأولى خلال المقابلة عن «المطعم الذي تحبينه وترتاحين فيه (باعتبار أنه يريد الذهاب إليه هو وحبيبته وليس زوجته)». لم تجبه، فضحك، وعندما سألته بخصوص الراتب، كان ردّه أنه 500 شيكل (130 دولاراً)، لكنها نبّهته إلى أن المعلن كان 1000 شيكل، فقال لها: «الذين يتقاضون هذا المبلغ يقدمون أغراضاً أخرى إلى المحامي نفسه»، فقررت الانصراف مباشرة.
أما الثانية، فعندما توجهت إلى المقابلة، وبعد التعريف بنفسها ومؤهلاتها، سألها المحامي عن نوع الرائحة التي تضعها، وأنه أحبّها ويريدها أن تضعها في العمل، ثم بدأ ينظر إليها بتمعن، وعندما سألت لماذا يحدق بها؟ قال «جسمك حلو صلاة النبي». ثم واصل: «بالنسبة للراتب ما تقلقي إن كنتي حنونة معي راح أزبطك»، ما جعلها تنصرف وهي تبكي.
وفي مكتب محاماة آخر، عرض محام على سكرتيرة رشوة جنسية مقابل إرضائه والسماح له بلمسها، مع أنها لم تكن تعمل لديه بل تسدّ محل صديقتها لمدة أسبوع. وعندما بدأت العمل، صار المحامي يتحدث معها عن علاقته الجنسية بزوجته وفشلها، ثم مدّ إليها مبلغ 50 شيكلاً (13 دولاراً) ليلمسها، وعندما رفضت، اعتدى عليها بضمّها، فأبعدته وهربت من المكتب، ثم قطعت علاقتها بصديقتها.
الملاحظ أن هذه الحالات الأربع لم تلجأ إلى محاسبة المحامين عبر الشرطة أو حتى نقابتهم، في ظل إجماعهن على أن المحامين القائمين على حماية حقوق المواطنين سيكونون أكثر خبرة منهن، ولن تجدي الشكوى ضدهم شيئاً. كذلك، فإنه بوقوف المجتمع مع الرجل، سيكون الصمت هو الحل الأمثل.
وبالتواصل مع «نقابة المحامين» للاطلاع على آلية محاسبة المحامين في غزة، وهل هناك شكاوى من اعتداءات جنسية، تبين أنه من أصل 65 شكوى في عام 2015، و20 أخرى منذ بداية العام الجاري حتى نهاية نيسان الماضي، لم تحمل أي منها شكوى أخلاقية، كما يفيد المحامي شعبان الجرجير، عضو مجلس النقابة ورئيس «لجنة الشكاوى» فيها. لكن الجرير يؤكد أن «النقابة لا تتهاون مع أي محام يخالف أخلاقيات المهنة... تتبع إجراءات بعد تحقق الجهات الرسمية في الشرطة والنيابة، وإذا أدين المحامي أو أخلّ بالشرف أو الاعتبار والأمانة، وبناءً على الإدانة والحكم الرسمي، تفصل النقابة هذا المحامي، وفقاً لقانون المحامين النظاميين رقم 3 لسنة 1999 وتعديلاته».
الصحافة ليست أفضل

واقع الصحافة في غزة لم يخلُ أيضاً من هذه الإشكالية، فعدد من الصحافيات تعرضن للتحرش، وهنّ 13 من أصل 36 مجمل حالات التحقيق. أيضاً قبلت ثلاث صحافيات الحديث عن التفاصيل؛ الأولى "ر. أ." تبلغ الثلاثين من عمرها، استغل أحد الصحافيين حاجتها إلى العمل لعلاج أحد أفراد أسرتها. وكان «الصحافي المعروف» قد عرض عليها العمل مقابل ممارسة الجنس معها. تضيف: «في واقع الصحافة في غزة الكل يعلم أن بعض الصحافيين يتحرشون بالفتيات العاملات في المجال أو خارجه، لكن أن تصل إلى مرحلة رشوة جنسية كانت صاعقة لي... علمت سابقاً أن الصحافي يغازل الفتيات ويتحرش لفظياً بهن».

نقلاً عن صحيفة الأخبار اللبنانية

حرره: 
م.م