أربعة وستون عاما من السياسة الفاشلة

اربعة وستون عاما و اسرائيل تحاول عبثا انهاء صراعها مع الشعب الفلسطيني ، وعلى الرغم من كل الدعم و العطف و الرعاية المتوفرة لها،وعلى الرغم من استخدامها لكل الوسائل العسكرية و السياسية للقفز على حقوق الشعب الذي اذلته ولاحقته و حاصرته،الا ان هذا الصراع لم يصل الى نتيجة تسمح بتوقف نزيف الدم من الاطراف جميعا، بل على العكس من ذلك تماما ، فقد تعمق الصراع وازداد شراسة و ضراوة،واخذ يهدد المنطقة بأسرها.

فقد تغيرت اسرائيل كثيرا، صحيح انها ظلت في قلب المشروع و الرؤية و الاقتصاد الغربي ، و صحيح انها ما تزال تتمتع بأولوية و افضلية امنية وعسكرية ، ولكنها، ورغم ذلك ، تغيرت من الداخل ، فقد اصبحت اكثر تشددا و تعصبا و ضيق افق، و تغير مبناها الديموغرافي فصار اكثر شرقية،ولم تعد تنتصر في حروبها الكثيرة ، ولم تعد تحدد بدايات ولا نهايات هذه الحروب او المعارك ، ولم تعد حروبها استباقية او وقائية او مجرد نزهة او مضمونة النتائج،واكتشفت انها بلا عمق جغرافي و ديموغرافي، وان مشروعها ليس ترفيهيا ولا جاذبا للمهاجرين ، وان حروبها الجديدة هي حروب على اراضيها و في عقر دارها..

ولهذا فقد اكتشفت اخطر عيوبها و اقواها، فجبهتها الداخلية هشة جدا ولا تستطيع الصبر او الاحتمال، ولهذا لا يستغرب قول موشيه يعلون في العام 2006 إبان العدوان على لبنان ان نقطة الضعف الكبيرة تمثلت في (المواطن الاسرائيلي)، اصبحت اسرائيل تنسحب من الاراضي التي احتلتها دون اتفاق او باتفاق، اصبحت تقبل اسر جنودها ، و اصبحت تقبل ان تجري اتفاقات مع (الارهابيين) ولم يعد جيشها كما كان ذات مرة، فجيشها اليوم مكون من عرقيات و الوان و ثقافات متعددة، ولم يعد الانتساب اليه يشكل اخر الشرف و كل التميز، و اصبحت تلاحق في المحاكم و الهيئات الدولية ، و اصبحت تنتقد علنا، واخذت تقدم من يفعل ذلك الى المحاكم ، ولاول مرة في تاريخها ترى اسرائيل ان بعض مواطنيها مستعد لان يحرق نفسه احتجاجا على الغلاء و الفساد و التمييز، و يعني ذلك في احدى معانيه ان المشروع الاسرائيلي لم يعد مشروعا جاذبا او يغري بالهجرة اليه.

اليوم و بعد 64 عاما على وجود اسرائيل، و بسبب تعنتها و سياستها اللامجدية و رفضها الدائم و التنكر لحقوق الشعب الفلسطيني ، فانها تجرب للمرة الثانية اندلاع حرب في قلبها تماما، الاولى كانت في العام 2000 حيث واجهت اسرائيل (ثورة مسلحة) الى حد بعيد، و بغض النظر عن تفاصيل ذلك و اسبابه وصوابه و خطئه، فان تلك كانت (مواجهة مسلحة) بين الفلسطينيين و الاسرائيليين في عقر دار المشروع الاسرائيلي، وهو ما لم تحلم به اطلاقا اية دائرة امنية اسرائيلية . وكان يمكن لاسرائيل ان تستنتج العبر من انتفاضة الاقصى،وكان يمكن لها ان تصل الى اتفاق مع الرئيس الراحل عرفات و لكن تطرفها و اعتمادها على سياسة القوة فقط جعلها تفوت فرصة تاريخية لن تتكرر ابدا، ان سوء تلك السياسة و قصر نظرها ، ادت فيما ادت اليه ، الى ان تواجه اسرائيل و للمرة الثانية مواجهة مسلحة اخرى هذه الايام مع المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وقد وصلت هذه المواجهة (فيما وصلت اليه حتى الان) ان تسقط صواريخ في المدن الاسرائيلية و ان يستهدف المبنى السيادي الاول في اسرائيل، وهو كابوس ما كان للدولة العبرية ان تحلم به ابدا.

فقد توقعت اسرائيل ان تسقط الصواريخ على تل ابيب من جهات كثيرة اما من قطاع غزة فلا ، ولكنها سقطت ،ولم تنجح القبة الحديدية ولا التهديدات و لا الثقة الزائدة بالنفس ولا الادعاء من منع ذلك. المواجهة المسلحة الثانية مع اسرائيل في عقر دارها دليل اخر على خطأ سياسات اسرائيل التي تتنكر تماما للتسوية او السلام مع الفلسطينيين، وقد دلت المواجهة الثانية الدائرة حاليا ان التصلب و التطرف الاسرائيلي يؤدي دائما الى تطور و تقدم في الاداء الفلسطيني على كل المستويات ،..

وتقول الارقام الاحصائية انه بعد اقل من عقد من السنوات ، سيزيد عدد الفلسطينيين على عدد الاسرائيلين في فلسطين التاريخية، واذا ظلت اسرائيل بهذه السياسات الرافضة و العنصرية و المنكرة للحق الفلسطيني،فان على اسرائيل ان تتوقع مواجهة ثالثة اخرى ربما تكون اشد المواجهات خطرا. الاستخلاص الوحيد الممكن امام اسرائيل هو ان تصنع سلاما مع الفلسطينيين، لا اكثر ولا اقل ، سلاما يضمن الحق و السلام و الاستقرار، فاسرائيل بكل سياساتها التي مورست على مدى تلك السنين لم تستطع ان تجلب السلام لها ولا الاعتراف بها من جهة ، ولا الغاء الشعب الفلسطيني او نفيه من التاريخ، من جهة اخرى.

يقوا المؤرخون و المنظرون اليهود ان احد اهم اسباب نكبات اليهود في تاريخ جماعاتهم المتعددة هو التطرف و التشدد و الاستئثار، فهل يقرأ الاسرائيليون تاريخهم حقا.