جمرات الخطاب تحرقهم

الخطاب الهام للرئيس ابو مازن في الدورة الأخيرة للمجلس المركزي إرتقى في السقف السياسي لمستوى الطموح الوطني، ورسم ملامح التحول النوعي في مسار العملية الكفاحية الفلسطينية، الأمر الذي اثار ردود فعل على أكثر من مستوى وصعيد، وخاصة في الساحتين الإسرائيلية والفلسطينية. وإذا إختزل المرء ردود الفعل الفلسطينية بإفلاس القوى المتحفظة على ما حمله الخطاب وقرارات المجلس المركزي، وأظهر عجز مطبق في قراءة ما تضمنته الوثيقتان، وكشف عن خواء في المدارس السياسية المعارضة لإجل المعارضة، والتي لم تجد في الخطاب وقرارات المجلس المركزي ما تسجله، فأعادت بياناتها وتصريحات مسؤوليها ذات النصوص والمواقف بصيغ أخرى، أو ذهاب البعض كحركة حماس إلى الجانب الشكلي في توجيه الدعوة للقنصل الأميركي، وكأن الدعوة غيرت من الموقف الفلسطيني، أو أثرت به. وهو نوع من نكأ الجراح، وتغطية عدم المشاركة بالهروب إلى متاهة الشكليات البائسة، والتصيد في الماء العكر. لإنهم لم يجدوا ثغرة في الوثيقتين، لذا لجأوا لتغطية فقر حالهم بقشور واهية وسطحية، ولممارسة التحريض من أجل التحريض على الرئيس عباس والشرعية الوطنية.
أما على الجانب الإسرائيلي، فمن راقب ردود الفعل من الجمرات الحارقة، التي حملها الخطاب والقرارات الصادرة عن المجلس يدرك حجم الوجع الإسرائيلي. ولعل من يقرأ رسالة شكوى داني دانون، مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة لإمين عام المنظمة الدولية، غوتيرش لإكتشف الأثار السياسية الهامة، التي تضمنها الخطاب. فقال السفير دانون " هذة التصريحات تذكرنا بكل أسف بالكلمات "العنصرية" من أسوأ الأنظمة في القرن الماضي". وهو هنا يحاول قلب المعادلة عبر ممارسة التهويل والتضليل للرأي العام الإسرائيلي والعالمي، والسعي لإلقاء ما يتسم به ومؤسسته السياسية والعسكرية الإستعمارية من سمات على شخص الرئيس ابو مازن، بإلصاق تهمة "النازية" و"الفاشية" عليه، وهو براء منها. وهي محاولة بائسة، وساذجة وغبية في آن، لإن العالم أدرك منذ زمن بعيد من هي دولة الإرهاب والفاشية في المنطقة والعالم. ولعل التصويت بنسب عالية في المنابر الأممية لصالح الحقوق الوطنية الفلسطينية، وخيار السلام خير دليل على عمق الإنسجام بين التوجهات والسياسات الفلسطينية ومبادىء وقوانين ومعاهدات الشرعية الدولية. وهنا ايضا يمكن إعادة دانون ورئيس حكومته ووزير حربه وكل اركان الإئتلاف اليميني الحاكم إلى دول الإتحاد الأوروبي، التي تقف بقوة وثبات إلى جانب مصالح وحقوق الفلسطينيين السياسية، وترفض بوضوح تام السياسات الإستعمارية الإسرائيلية والأميركية المعادية للسلام والأمن في المنطقة.
ردود فعل هائجة وصاخبة في إسرائيل على خطاب الرئيس محمود عباس، لإنه أعاد ترتيب الأوراق التاريخية والسياسية، وحدد في قراءته التاريخية لتطور الصراع عن وقوف الولايات المتحدة طيلة خمسة قرون وحتى اللحظة الراهنة، وفرنسا نابليون في القرن الثامن عشروبريطانيا وعد بلفور والإنتداب إلى جانب إنشاء دولة مارقة في المنطقة لخدمة أغراضهم الإستعمارية. وهو ما اشار بوضوح قاطع لعدم وجود أية صلة بين دولة المشروع الصهيوني الكولونيالي وبين اليهود في العالم.
ورغم الأدراك العميق لدور دولة إسرائيل الإستعماري في المنطقة، إلآ ان الرئيس عباس والمجلس المركزي لم يديروا الظهر لعملية السلام، وبناء ركائز تسوية سياسية تقوم على إنصاف الشعب الفلسطيني بالحد الأدنى الممكن والمقبول، وتأمين وضمان إستقلال دولته القائمة والموجودة على الأرض الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وضمان حق العودة للاجئين الفلسطينيين لديارهم، التي طردوا منها عام النكبة في 1948 على اساس القرار الدولي 194، وفقا للحق التاريخي وعدالة القضية ولقرارات الشرعية الدولية. لكن دولة الأبرتهايد والإستعمار الإسرائيلية، التي تسابق الزمن في تدمير منهجي للسلام، والترويج لروايتها الزائفة، لإنها لا تؤمن بالسلام والتعايش. فأين هي العنصرية ايها الإستعماريون الصهاينة؟ وأين هي النازية إن لم تكونوا انتم روادها ومنتجوها الجدد؟
نعم خطاب الرئيس ابو مازن حمل جمرات النار التاريخية والسياسية ليكوي الوعي الإستعماري الإسرائيلي، ويكشف بؤس وعقم الرواية الصهيونية، وليؤكد على التمسك بخيار السلام العادل والممكن بعيدا عن الإستحواذ والرعاية الأميركية له، وتحت مظلة الشرعية الدولية عبر مؤتمر دولي بصلاحيات كاملة، وليطوي صفحة باتت من الماضي، ويفتح صفحة نوعية جيديدة في النضال الوطني الفلسطيني.oalghoul@gmail.coma.a.alrhman@gmail.com