الانقسام وثقافة الاختلاف

بقلم: 

في جنازة والدة أحد الأصدقاء اجتمع المشيعون حول القبر تحت أشعة الشمس اللافحة وفي نهار اليوم الثاني عشر من رمضان، وكعادة المشيّعين فهم بين متهامس يسأل عن عمر الفقيدة أو مستفسر عن سبب وفاتها، فيما ينشغل عدد من الشباب والأقارب في مواراة جثمانها يهيلون عليه أكوام التراب.

في هذه اللحظة بدأ الشيخ موعظته وأخذ بالحديث عن الموت وعن الأعمار التي هي بيد الله وأنّ الدور في هذه المقبرة قد يكون لواحد من الحاضرين لهذه الجنازة، في هذه اللحظات تعالت قليلاً أصوات العاملين على القبر ما لفت انتباه الحضور، فصمت الشيخ قليلاً ثمّ عاد ليتمّ حديثه، وبعد دقائق عاد الصوت ليرتفع ويؤثر قليلاً على صوت الشيخ ليعود هو بدوره ويطلب من العاملين على القبر أن يتمّوا عملهم  بصمت حتى يتمّ موعظته.

في هذه اللحظة صرخ شابّ في الشيخ وعلى مسمع الحضور معاتباً وزاجراً ومحرضاً على الواعظ وبأسلوب "من يشتري الشر"، ولكن الموقف وحِلم الناس وعدم استجابةِ أي منهم لردة فعل هذا الشاب جعل الأمور تمر دون أي مشكلة، حيث أنّ ردة فعل الشاب لم تكن عاديّة ولا تحمل في طياتها سوى أمر دفين في قلب هذا الشاب على ما يمثله هذا الشيخ، فهو يرفض الشيخ ولا يكاد يحتمل رؤيته أمامه وقد ظهر ذلك من تمتماته عليه أثناء إلقائه للموعظة.

لقد نظرت إلى الشاب وعرفته، ووصلت إلى نتيجة واضحة عن سبب ردة فعله العنيفة على الشيخ، فهو لم يرتكب جرماً حيث أنه تكبد سفراً وحرّاً ليعظ في جنازة قريبة هذا الشاب المنفعل. لم يكن السبب في ذلك هو عداوة شخصية بين الشاب والشيخ ولم تكن هناك أصلاً معرفة بينهما، إنّ التصرف الذي قام به الشاب هو نتيجة تراكمات الانقسام السياسي الذي وقع عام 2006، وما زال جاثماً بثقله على صدر الشعب الفلسطيني وقضيته التي تتراجع في حضورها شيئاً فشيئاً.

لقد ترك الانقسام أثراً كبيراً على تركيبة نفوس عدد ليس بالقليل من أبناء الشارع الفلسطيني وخاصة المؤيدين والمناصرين لحركتي فتح وحماس، وذلك عقب أحداث هذا الانقسام ونتائجه التي يحياها الشارع الفلسطيني في يومه العادي، لقد أصبح الانقسام جزءاً من الثقافة اليومية التي يتعايش معها الناس، وخلّف ثقافة جديدة مليئة بالحقد والكراهية بدل الثقافة الوطنية التي عهدها الشعب الفلسطيني في العقود الماضية وخاصة في الانتفاضتين الأولى والثانية، واللتان تشكلتا بصورة أساسيّة على مفهوم الشراكة الوطنية وحمْل الهمّ الفلسطيني كلّ من جانبه، وكانت النتيجة انسجام فصائلي وشعبي حول الأهداف الوطنية ولو بشكلها الجزئي،إذ بقيت علاقات الفصيلين الأكبر في الساحة الفلسطينية تلتقي على فعاليات متفق عليها، حتى تمّ توقيع اتفاقيات أوسلو وأصبحت البرامج الوطنية تحمل في طيّاتها بوادر الانقسام إلى أن وقع في عام 2006.

وإذا كان السبب الرئيس في الانقسام هو اختلاف البرنامجين، برنامج منظمة التحرير المبني على خيار المفاوضات؛ والذي وصل في هذه اللحظة لطريق مسدود؛ بسبب عدم التزام إسرائيل ببنود الاتفاقيات، والبرنامج الثاني برنامج حركة حماس والجهاد الاسلامي والذي يرفض خيار المفاوضات ويعتمد على المقاومة المسلحة بشكل أساسيّ.

فلِم لا يتم البحث عن وسائل عملياتية تحفظ اللُحمة الفلسطينية المجتمعية والتي تزداد تدهوراً يوماً بعد يوم.

إنّ التمزق والتشرذم الحاصل في الشارع الفلسطيني لم يسبق له مثيل، ففي البيت الواحد تجد مؤيداً ومعارضاً، وينتقل ذلك للشارع والعمل والمدرسة والمصنع، وكثيراً ما يُعرِّف شخصٌ شخصاً آخر ليس باسمه بل بانتمائه محذراً من يتعامل معه بأنه ينتمي للفصيل الآخر، وكثير ما يُحرم شخص من عمل أو وظيفة بسبب انتمائه حتى في المؤسسات الخاصة.

إنّ هذا الانعكاس الخطير للانقسام الفلسطيني وصل إلى درجة الشماتة عندما يُصاب جار أو زميل عمل من أبناء الفصيل الآخر بمكروه عارض أو بسبب الاحتلال.

من هنا أرى أنه ومن الواجب البحث عن نقاط التقاء مجتمعية تعيد على الأقل الكوادر والمناصرين في الصفوف الدنيا والوسطى للعمل سوياً وبالشراكة في مشاريع لخدمة المجتمع، كالانتظام في اللجان المدافعة عن حقوق الأسرى أو لجان مواجهة الاستيطان والجدار، أو العمل في النشاطات التربوية والرياضية، والشراكة في نشاطات الأندية والمؤسسات الاجتماعية والخيرية، وهذا ليس صعباً فهو لا يتطلب من أي فريق أن يتنازل عن وجهة نظره السياسية، إنّ من شأن هذه النشاطات أن تجسر الهوة بين أبناء المجتمع الواحد من الفريقين، وتلطف أجواء العلاقات اليومية وتخفف من درجة الحقد والكراهية المتصاعدة، وهذا الأمر يتطلب أولاً قناعة تامّة من القيادة العليا بالشراكة الوطنية بمفهومها الشمولي والاستغناء عن مفهوم الإقصاء السياسي الذي يؤثر بشكل كامل على تردّي الثقافة الوطنية والسلوك الاجتماعي السياسي، وثانياً أن تعطي القيادة في أعلى مستوياتها قراراً تنظيمياً لأبنائها بالانخراط في تلك الأنشطة المشتركة بين أبناء حركتي حماس وفتح على الأخص وذلك للحدّ من تصاعد الانقسام المجتمعي، انتظاراً لتغيُّر الظروف التي تعيق المصالحة الشاملة والتي تتعثر في كلّ جولاتها ولم يعد لدى الشارع الفلسطيني في الوقت الحالي من أمل بالوصول إليها.