الشعب الفلسطيني بين النكبتين

بقلم: 

عانى الفلسطينيون بعد النكبة عام 1948م أيّما معاناة، فقد شُردوا في أصقاع الأرض بعد أن خسروا أرضهم وأموالهم وهويتهم الوطنية، لم يجد الفلسطينيون سنداً قوياً من إخوانهم العرب يعيد لهم ما فقدوه نتيجة المؤامرة التي نفذتها أطراف عدّة كان نتيجتها ضياع أرض فلسطين؛ فلا الدول العربية بزعاماتها القومية والثورية واليسارية، ولا الملَكيّات ولا الجمهوريات قدمت الجهد المطلوب ولا الإعداد الذي يتناسب مع حجم الكارثة التي انتزَعت أقدس الأوطان من يد خير أمة أُخرجت للناس.

لقد أفاق الفلسطينيّ على نفسه بعد أن أُغشي عليه لسنوات من هول الصدمة، فوجد نفسه مشتتاً بين مخيمات فقيرة تفتقد للكثير من مقومات الحياة، وبين دولٍ يعطيها زهرةَ شبابه وملحَ عرقه لتبني نفسها مقابل دريهمات يُقيت بها عياله، لقد أضحى الفلسطيني بعد سنوات من النكبة لاجئاً بعيداً عن وطنه، ينتظر ممن تشدقوا بالعروبة والثورة أن يعيدوا له وطنه السليب، ولكن ولات حين مناص، لقد وقعت تلك الدكتاتوريات في هزائم تلوَ الهزائم، وقمعت شعوبها باسم المصالح العليا لأوطانهم، وباسم المعركة المقدسة مع إسرائيل، وإذ بتلك الأنظمة تسعى لاتفاقيات سريّة وعلنيّة، لتتجنب شر إسرائيل مقابل أن تهنأ الأخيرة بفلسطين وبمقدساتها.

لقد أودعت هذه الدول دورَ التحرير وإعادة الأراضي المحتلة، لمنظمة التحرير الفلسطينية، ورفعت عن نفسها العبء عندما اعترفت بالمنظمة ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، لتكون أمام شعوبها بريئة من أي تقصير أو إعداد أو مواجهة، ولذلك لم تر الشعوبُ الجيوشَ العربية تتحرك لنصرة بيروت عندما حاصرتها القوات الإسرائيلية، ووقفت هذه الأنظمة متفرجة لا تقدم أكثر من التنديد والاستنكار، وكذلك فعلت في كلّ المواجهات التي تبعت الحرب على لبنان.

لقد عرف الشعب الفلسطيني طريقه بعد التخاذل المخزي والتفريط المُتعمّد في قضيته، وبعد أن أُغلقت جبهات القتال في دول الطوق أمام الخيار العسكري في ظل أنظمة البؤس والعجز والهزيمة، وتناثرت القوات الفلسطينية بين دول شتى، عندها أشعل الشعب الفلسطيني شرارة المواجهة من الداخل الفلسطيني، حيث نشأت أجيال لا تعرف للخوف طريقاً، فكانت البداية عام 1987، حيث فجر الشعب الفلسطيني انتفاضته الأولى، والتي أظهرت عجز جنديّ الاحتلال أمام الأطفال الذين تسلحوا بالحجارة، وأحرجت الذين كدّسوا السلاح بالمليارات أمام الشعوب ليتركوه يواجه مصيره بالصدأ والتلف.

ويشير تتابع الأحداث، إلى أنّ الشعب الفلسطيني وقيادته اليومَ، يتحملون المسؤولية كاملة أمام الأجيال وأمام التاريخ في الحفاظ على الروح الوقادة التي تنبعث من جيل إلى جيل، وخاصّة بعد أن وصل قطار السلام إلى طريق مغلق، فلا عادت الأراضي المحتلة عام 1967، ولا رجع اللاجئون إلى وطنهم.

يأخذ المتابعون للقضية الفلسطينية على منظمة التحرير الفلسطينية فشل مشروع التحرير الذي اختطته لنفسها، وخاصة بعد مسيرة التسوية المضنية، والتي بانت ثغراتها عند كلّ استحقاق تمّ الاتفاق عليه، ومن هنا فإنّ الدور الذي قامت به منظمة التحرير يظهر وبلا أدنى شك، عجز المنظمة بشكلها الحالي عن تحقيق الحلم الفلسطيني وذلك لأسباب كثيرة، ولكن أهمّها، أنّ المنظمة والتي تعتبر إنجازاً فلسطينياً إذ حوّلت القضية الفلسطينية من قضية لاجئين إلى قضية سياسية، قضية وطن مسلوب وأرض مصادرة، كان لا بدّ لهذه المنظمة من التطور والنمو بمستوى مسيرة الأحداث التي تعرضت لها القضية الفلسطينية وبمستوى صمود الشعب الفلسطيني وثباته وإصراره،فلا استطاعت المنظمة من تطوير أساليب النضال والكفاح بشكل هرمي، ولا استطاعت أن تستوعب كامل الطيف الفلسطيني الذي ظهرت ألوانه خلال الثلاثة عقود المنصرمة، وقد يتحمل هذا الأمر الفصائل المنضوية تحت منظمة التحرير، والتي باسمها تمّ تنفيذ المشاريع التي قد تكون سبباً في الغاء الإجماع الفلسطيني، ومن هنا فإنّ الانقسام الحاصل في الشارع الفلسطيني، لا يمكن أن ينتهي قبل إصلاح المنظمة والتي يجب أن تكون بيتاً للكل الفلسطيني، ولا يكون ذلك إلاّ بأخذ الفصائل المنضوية تحت قبة المنظمة نفسها دورهم الحقيقي بإصلاحها على أساس الشراكة الكاملة لكل الطيف الفلسطيني، وإنّ دور هذه الفصائل في عملية المصالحة دور استعراضي، ما لم يسبقوه بإصلاح شامل لمنظمة التحرير والنظام السياسي الفلسطيني.

تعتبر آفة الانقسام الفلسطيني من أشد ما تعرضت له لُحمة الشعب الفلسطيني وتماسكه، وإن كان تشريد الشعب الفلسطيني من وطنه نكبة كبرى بسبب عوامل خارجية، فإنّ التمزق والتشرذم الفلسطيني، يعتبر نكبة داخلية تعيق التخلص من آثار النكبة الخارجية، ولهذا أرى أنّ بيت الفلسطينيين "المنظمة" بصورتها الحالية وبدورها الغير فاعل جزء من المشكلة، وجب على قادتها وراعي مسيرتها، العمل على تحديثها بالقوانين والتشريعات الخلّاقة التي تبدأ باستيعاب كامل الفصائل الفلسطينية، على أسس الشراكة والإجماع التي انطلقت من أجلها هذه المنظمة.