خمس سنوات على ثورة الربيع العربي

بقلم: 

بعد خمس سنوات على إنفجار ثورة الربيع العربي ، ثمة حاجة ملحة للتوقف وإمعان النظر والمراجعة والتقييم ، بهدف المساهمة في الاجابة على سؤال عن هذا الربيع الاشكالي ، وإجراء ما يمكن ان نسمية " عملية فك واعادة تركيب " لمظاهر الزلزال الذي اصاب العالم العربي في العمق ، وغير واقعه الى غير رجعة ، ومن ثم محاولة الإقتراب ما أمكن من مآلات المشهد الراهن في صورته المتغيرة ، وذلك لاعادة طرح السؤال المعلق في فضاء هذه المرحلة ، ألا وهو : هل التغيير والثورة مجرد رغبة ذاتية ضيقة ، أم أنه حصيلة تراكمية تفرضها معطيات موضوعية ،  وتمليها عوامل خارجة مستقلة عن إرادتنا ؟؟ وسواء أكان الامر متعلقا بهذا السبب أو ذاك ، فان السؤال يظل هو هو : هل نجحت هذه الثورة الشعبية التي لا سابق لها ، أم انها أخفقت ؟ وأين نجحت ؟ وبأي معيار كان ذلك ؟ ولماذا أخفقت ؟ واين كان ذلك ؟.
في كل الأحوال شكلت هذه الثورة ، التي بدأت على شكل حراك جماهيري متدرج الاتساع ، محطة إنتقالية نوعية فارقة في مسار حركة التحرر العربية ، التي بدأت في اواسط القرن الماضي بعد الحرب العالمية الثانية ، من أجل تحقيق ثلاثة أهداف واجبة وهي : 1- الأستقلال ، و2- العدالة الأجتماعية ، و3- الديمقراطية ، وإستناداً للمعطيات المادية القائمة والشواهد الحسية ، المتراكمة لدينا على مدى أكثر من نصف قرن من النضال المتواصل ، وتقديم التضحيات ، وتحمل الوجع ، فانه يمكن القول ان حركة التحرر العربية قد اخفقت في إنجاز مهامها في العناوين الثلاثة ، أو في بعض منها على الاقل .
فالإحتلال الأجنبي المتمثل بالمشروع الإستعماري التوسعي الإسرائيلي ، ما يزال جاثماً على أرض فلسطين والجولان السوري وجنوب لبنان ، وهو إحتلال إستعماري إجلائي ، يتمادى في توجيه إحدى أشد التحديات التاريخية ، دون ان يلقى المرء إزاء عدوانه المباشر ، حيث لا تزال تل أبيب صاحبة اليد العليا في هذه المنطقة المستباحة ، مقارنة مع سائر البلدان العربية مجتمعة ، تفعيلا للتعهد الأميركي المتواصل بالحفاظ على " بقاء إسرائيل قوية ومتفوقة " على جيرانها ، وهو تعهد تعمل واشنطن حثيثاً على تطبيقه ، استنادا الى تحالف استراتيجي مع المشروع الصهيوني ، يقضي بتوفير الغطاء له ، والمصادقة على سياسته الخارجية ، وتقديم سبل التسلح والتمويل ، والحماية التامة لبرامجه التوسعية العدوانية .   

والى جانب العدوان الاسرائيلي المتواصل والاجتياحات الغربية للعراق وليبيا وسوريا ، بدت التدخلات الأيرانية في عدد من الدول العربية ، تشكل بدورها أداة إعاقة وكبح لتطور هذه البلدان بشكل مستقل وديمقراطي ، وذلك من خلال فرض المصالح التوسعية ، وإملاء سياسات ولاية الفقيه ، وهي سياسة إكراهية ، لعل أبرز تجلياتها مواصلة إحتلال جزر الأمارات العربية الثلاثة طمب الصغرى وطمب الكبرى وأبو موسى ، ورفضها التحكيم الدولي لمعالجة هذه القضية ، ناهيك عن التدخل التركي في سوريا والعراق ، وهو تدخل إستفزازي يعكس تطلعات تركيا لتوسيع نفوذها الاقليمي ، اما مصر والسودان فهما مرشحتان للعطش وتراجع المساحات المروية لديهما ، بفعل سد النهضة الأثيوبي ، وحدث ولا حرج عن التحريض المتواصل من قبل أديس أبابا في منطقة القرن الأفريقي لجعلها منطقة غير آمنة وغير مستقرة ، ومصر والأردن مكبلتان بإتفاقيتي كامب ديفيد وعربة المجحفتين .
على الصعيد الأقتصادي يبدو الواقع العربي ( خارج منطقة الخليج) اشد بؤسا مما يظهر في الصورة الخارجية المخاتلة ، حاملا لكل عوامل التفجر الاجتماعي والقضيا المطلبية ، حيث تواجه غالبية البلدان العربية أوضاعاً إقتصادية صعبة ، وتعاني من ضعف مزمن في النمو ، وخلل بنيوي وشح في الموارد المالية والاستثمارات الاجنبية ، وهو امر يدفعها بالضرورة الموضوعية كي تبقى أسيرة للعجز في موازناتها ، وتظل رهينة المديونية ، بتداعياتها وشروطها المجحفة ، مرغمة على تغطية إحتياجاتها بالاقتراض والاستدانة ، وذلك لتغطية تموبل الخدمات الأساسية من تعليم وصحة وإسكان وفرص عمل وغير ذلك .
وعلى صعيد التطور الديمقراطي ، تفتقر غالبية البلدان العربية لمقومات ممارسة الديمقراطية وعوامل تطورها الديمقراطي المدني والدستوري والقانوني ، بما في ذلك وجود برلمانات حقيقية منتخبة ، وحياة حزبية مؤثرة ، حيث ان النظم السلطوية لا تحترم حقوق الأنسان أساساً ، وترفض مباديء تداول السلطة سلميا ، ولا تقبل الأحتكام لنتائج صناديق الأقتراع ، التي تنتقص بالضرورة من سلطة الزعيم الملهم ، والقائد الفذ ، والشخص العبقري ، والعائلة الواحدة ، والطائفة المتحكمة برقاب العباد والبلاد ، على حساب التعددية والتنوع والمواطنة والحقوق الدستورية  .
على هذه الخلفية التاريخية الموجزة ، ببعديها السياسي والاقتصادي ، وارضيتها الاجتماعية ، يمكن القول بثقة ، ان هذه الابعاد والعوامل مجتمعة ، كانت بمثابة الحامل الموضوعي ، الذي أدى إلى إنفجار ثورة الربيع وطنياً في أكثر من بلد عربي .

وبالتدقيق أكثر فاكثر في الصورة المشهدية ، وقراءة تأملية هادئة للوضع الأقتصادي والسياسي والأمني المتشكل لدى البلدان العربية المعنية ، نلاحظ أن العالم العربي كان ينقسم إزاء موجة الربيع الاولى إلى ثلاث مجموعات هي :

أولاً : مجموعة البلدان العربية التي تحتاج للمساعدات الأقتصادية والمالية من قبل الدول المانحة كالولايات المتحدة وأوروبا ، وهذه البلدان هي : موريتانيا والمغرب وتونس ومصر وجيبوتي واليمن والأردن ولبنان ، وبسبب حاجتها للمساعدات ، تصغي  هذه البلدان بشكل أو بأخر للنصائح الأميركية الأوروبية ، إن لم نقل أنها تستجيب لهذه النصائح دون مكابرة شديدة ، حتى لا نقول انها  تنصاع لما يشبه الاوامر الخفية  .
ثانياً : مجموعة البلدان الخليجية الستة الغنية بمواردها النفطية ، التي لا تحتاج للمساعدات المالية الخارجية ، ولكنها تحتاج في المقابل للحماية الأمنية والعسكرية الأميركية والأوروبية ، ولذلك فهذه الدول الهشة اجتماعيا تستجيب للنصائح بتلقائية ، وتعمل على هديها سرا وعلنا ، دون مكابرة .
ثالثاً  : أما المجموعة الثالثة فهي البلدان العربية التي لا تتلقى المساعدات المالية ولا تتوسل الحماية الأمنية والعسكرية ، وتتسم سياساتها بالطابع المتمرد ، الامر الذي جلب عليها ضغوطاً وحصارات بأشكال مختلفة قبل ثورة الربيع العربي ، وهي : الجزائر والسودان وليبيا وسوريا والعراق . وقد سعت بعض هذه الدول الى تحسين علاقاتها مع واشنطن ومع العواصم الأوروبية ، ودفعت ثمن إزالة إسمها عن قوائم الشيطنة ، أو الراعية للأرهاب ،  وقدمت أوراق إعتمادها لإزالة الحصار أو تخفيفه عنها ، ولكنها لم تلقى القبول المطلوب في الغرب الأميركي الأوروبي ، حيث ظلت تحت الضغوط المتفاوتة .
وإمعاناً في تأثير الغرب على هذه الدول ، التي وصف بعضها بالدول المارقة ، نلاحظ بلا تردد أن المساعدات المقدمة من قبل الدول المانحة لكل بلد عربي ، يتم تقديمها إلى ثلاثة أطراف في داخل البلد الواحد ، وبهدف واضح وهو أن يبقى تأثير تلك الدول قوياً في تسيير دفة الأحداث ودفعها نحو الحفاظ على مصالح الدول المانحة وهذه المصالح هي : النفط ، إسرائيل ، محاربة الأرهاب ، الاسواق والتجارة الخارجية ، ناهيك عن تدفق فوائض  المال العربي ، وسواء إختلف المراقبون على درجة أهمية هذا العامل أو وزن ذاك ، او على  أولويته ، ولكن ثمة إجماع على أن هذه العناوين الرئيسة هي عناوين المصالح الأميركية والأوروبية في عالمنا العربي .
أما الأطراف الثلاثة التي تتلقى الدعم الخارجي داخل البلد الواحد فهي :

ألاول: الحكومات ، او قل الموازنات الحكومية ، أي مؤسسات الدولة المدنية ، سواء على شكل منح مالية أو قروض ميسرة او ستثمارات مباشرة ، الى جانب تغطية تمويل مشاريع خدمية وبنية تحتية مختلفة .

الثاني : المؤسسة العسكرية والفروع الأمنية ، وذلك عبر تمويل يرامج تدريب وتقديم أسلحة وذخائر ومعدات تكنولوجية حديثة ، وهبات مالية مباشرة في بعض الحالات ، فضلا عن تغطية كلف مشاريع أمنية وعسكرية محددة ، مقابل توفير تسهيلات لوجستية عسكرية معلنة وغير معلنة .

أما العنوان الثالث : فهي مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية ، عبر صناديق خاصة ، بمعزل عن المؤسسات الحكومية المدنية والعسكرية الموازية.
وعليه يمكن قراءة تأثير وشدة تغلغل نفوذ وحجم علاقات وأدوات التعامل الأميركي والأوروبي مع البلدان العربية ، على ضوء تفاعل هذه المساعدات في بيئتها ، وذلك كي نفهم سياق الأحداث التي إنفجرت مع ثورة الربيع العربي والنتائج التي آلت إليها ، فالثورة التي حدثت مع بداية العام 2011 ، قامت بدوافع موضوعية أملاها غياب العوامل الثلاثة المذكورة آنفا وهي : 1- غياب الأستقلال السياسي والأقتصادي ، و2- غياب العدالة الأجتماعية ، و3- غياب الديمقراطية ، ولكن الأدوات التي أنجزت هذه الثورة فقد كانت  ثلاثة أطراف متعادلة ، كل منهما أدى دوره وفق الأمكانات المتاحة ، والفرص المتوفرة ، وكل حسب قدراته وتأثيره على سير الأحداث ونتيجتها غير النهائية ، وهي :

أولاً : الأحتجاجات الجماهيرية التي قامت بها مؤسسات المجتمع المدني ، وهي تلك المؤسسات التي تملك القدرة على إستعمال الشبكة العنكبوتية ، وتدعو إلى الديمقراطية والحداثة ، ولديها علاقات دولية تحميها ، وتتوفر لها الأمكانات المالية والإعلام ، وتعود هذه المبادرة لمؤسسات المجتمع المدني اساسا ، بسبب ضعف الأحزاب اليسارية والقومية وغياب الأحزاب الليبرالية ، وعدم مبادرة الأحزاب الأسلامية للتغيير ، نظراً لتفاهماتها المسبقة مع الأميركيين ، فقد عاد التفاهم بينهما ، الذي كان سائداً طوال مرحلة الحرب الباردة 1950 - 1990 ، وتم إعادة الوصل بينهما بعد حادثي سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة ، والإحتلال الأميركي للعراق 2003 ، حيث تعاونت واشنطن مع أحزاب التيار الأسلامي لإسقاط النظام القومي في العراق وتسليم السلطة لطرفين عبر حكومة بريمر ، أولهما تحالف أحزاب ولاية الفقيه ،  وثانيهما فرع حركة الإخوان المسلمين في العراق ، بشكل رئيسي ، وقد إنعكس ذلك على موقف الرئيس أوباما علناً الذي إعتبر صعود حركة الإخوان المسلمين إلى الحكم عبر الإنتخابات في مصر على أنه مؤشر إيجابي وبشرى للديمقراطية ، كما إعتبر إسقاط معمر القذافي إيذانا بقدوم السلام والأستقرار ، وهذا كان موقف من قبله نحو العراق وسقوط نظام الرئيس الراحل صدام حسين . 
ثانياً : الجيش الذي لعب أدواراً متلاحقة وخاصة في مصر وتونس ، فقد عمل على حماية المتظاهرين من القمع من جهة ، وحمى مؤسسات الدولة من الأنهيار من جهة أخرى ، حتى لا تتكرر التجربة العراقية  ، وأخيراً قام بطرد الرئيس وإقصائه عن سدة الحكم  لدى هذين البلدين .
أما العامل الثالث فهو القرار الدولي ، الأميركي الأوروبي ، ولولا رفع الغطاء الدولي عن نظامي حسني مبارك وزين العابدين بن علي ، لما إستطاع محمد حسين الطنطاوي أن ينفذ مطالب المحتجين ويقول لرئيسه المصري  " روّح " فروح ، وأن  يقول  رشيد بن عمار لرئيسه التونسي  " روّح " فروح .
السؤال هو ، لماذا كان هذا القرار الدولي نحو البلدان الصديقة لأميركا ولماذا إستجابت للقرار الدولي ؟؟
أولاً : لأن أنظمة البلدان الصديقة لأميركا قدمت خدماتها طوال مرحلة الحرب الباردة ، وبالتالي فقد إستنفذت أغراضها ، وولّدت أربعة مفردات  تمس بالمصالح الأميركية وتؤذيها ، هي : الأصولية والتطرف والأرهاب والعداء للغرب ، حيث أصبحت هذه المفردات هي العنوان السياسي الأبرز للأحداث وللقوى المؤثرة ، وذلك يعود بالطبع الى فقدان  الديمقراطية وشيوع ظواهر الفقر وسوء الخدمات وغياب العدالة الأجتماعية ، فالغرب الأميركي الأوروبي هو الذي دعم الديكتاتوريات العربية وساندها طوال مرحلة الحرب الباردة ، ولم تعد هذه تستحق الرعاية وتحمل المسؤولية ، فأطلقت الولايات المتحدة نظرية " الفوضى الخلاقة " لتغيير النظام العربي الفاقد لشرعية صناديق الأقتراع ، وأصبح عبئاً على الأميركيين والأوروبيين وعامل إستفزاز لهم ، ومساً بمصالحهم عبر المفردات الأربعة  المذكورة وسياساتها التطبيقية الميدانية ، وخاصة بعد هجمات سبتمبر 2001 وما بعدها  .
ثانياً : لأن هذه البلدان تستمع للنصائح الأميركية ، حتى لا نقول تنحني للتعليمات ، وذلك نظرا لحاجتها للمساعدات المالية والأمنية من قبل واشنطن  ، الامر الذي  جاء معه التغيير كإستجابة لمطالب الأحتجاجات والمظاهرات والإعتصامات التي قادتها مؤسسات المجتمع المدني ، وبما لا يتعارض مع المصالح الأميركية المتمثلة بالعناوين الأربعة  :
1- إستمرار تدفق النفط ، 2- أمن إسرائيل ، 3- محاربة الأرهاب ، 4- السوق والمال العربيين .
لقد وقع التفاهم الأميركي مع حركة الإخوان المسلمين ، وتم إستعادة التحالف بينهما الذي كان سائداً طوال فترة الحرب الباردة في مواجهة الشيوعية والإشتراكية والأتحاد السوفيتي وحلفائهم في العالم العربي ، وإنفض التحالف بينهما بداية التسعينيات في أعقاب نهاية الحرب الباردة ، ثم عاد التفاهم بينهما واضحاً ملموساً في ذروة الربيع العربي ، ولعب كل من خيرت الشاطر نائب المرشد العام لحركة الإخوان المسلمين وعصام العريان دوراً بارزا في هذا المجال ، بإعتبارهما مسؤولين عن ملف العلاقات الأميركية والدولية في مكتب الأرشاد الدولي لحركة الإخوان المسلمين  ، مثلما وقع التفاهم مع الأيرانيين والذي أدى إلى توقيع الأتفاق النووي في تموز 2015 ، وغيره من الأتفاقات الأمنية والأقتصادية والسياسية ، وقد سبق ذلك التفاهم بين واشنطن وطهران نحو أفغانستان والعراق ،وإسقاط نظام طالبان الجهادي ، ونظام حزب البعث القومي ، وتسليم السلطة لأحزاب ولاية الفقيه ، وبمشاركة فرع حركة الإخوان المسلمين .  
ولذلك يمكن الأستخلاص أن ثورة الربيع العربي قد تحققت وإنفجرت بفعل العامل الموضوعي الأول وهو عدم إستكمال خطوات التحرر الأقتصادي والسياسي وغياب العدالة الأجتماعية وإفتقاد الديمقراطية ، ولكن عدم نجاح ثورة الربيع العربي يعود لعدم نضوج العامل الثاني الذاتي ، لا سيما وانه العامل المحرك للثورة وأداتها والموجه لفعالياتها وبرنامجها ، وهذا العامل لم يكن مكتملاً بسبب نتائج الحرب الباردة ، ونتائج كارثة الخليج العربي المدمرة ، واللتان أدتا إلى تراجع وضعف وتأثير الأحزاب اليسارية والقومية والليبرالية ،  بل وغيابها عن إدارة الأحداث ، وانتفاء قدرتها على توجيه التطورات السياسية والجماهيرية والميدانية .

ولذلك إقتصر نشاط العامل الذاتي المحرك للثورة على دور مؤسسات المجتمع المدني بما تحمل من مفاهيم عصرية عن الديمقراطية والتعددية ، والدعوة لمشاركة المرأة في مؤسسات صنع القرار ، وبما تملك هذه المؤسسات ( مؤسسات المجتمع المدني ) من علاقات مع مؤسسات أوروبية وأميركية توفر لها الحصانة والدعم المطلوبين ، مع ضرورة أن نلحظ هنا أن حرق محمد البوعزيزي لنفسه في تونس ، وتعذيب خالد سعيد في مصر ، هما اللذين أشعلا الفتيل الذي إمتد إلى الشارع بعد أن تم توظيف الحدثين من قبل مؤسسات المجتمع المدني التي قادت الثورة ليس فقط في تونس ومصر بل ولدى سائر البلدان العربية .

كما تجب الأشارة الموضوعية أن غياب دور الأحزاب اليسارية والقومية والليبرالية ، دفع أحزاب التيار الأسلامي ، التي إستثمرت غياب التيارات الأخرى للإستفادة من حصيلة الربيع العربي ونتائجه كي تكون هي صاحبة القرار ، سواء 1- عبر تفاهمها مع الأميركيين ، 2- أو عبر حصولها على الأغلبية البرلمانية كما حصل في فلسطين والعراق ومصر وتونس والمغرب ، 3- أو لأمتلاكها الخبرات القتالية على أثر دورها في أفغانستان ، ورغبتها في التغيير الثوري الجوهري ، فإحتكمت إلى وسائل العنف وإستعمال السلاح لمواجهة الإحتلال الأميركي للعراق ، او لإسقاط النظم القائمة في ليبيا وسوريا واليمن ، وحصيلة هذه العوامل إخفاق ثورة الربيع العربي ، رغم توفر العامل الأول الموضوعي ونضوجه لقيام الثورة ، تغييراً للواقع  نحو الأفضل السياسي والإقتصادي والإجتماعي ، ولكن الإخفاق الفاقع يعود لعدم نضوج العامل الذاتي ، وكثرة نواقصه ، وعدم إكتماله ، بإعتباره أداة الثورة ومحركها ولذلك إن توفر العامل الموضوعي الأول وحده لا يكفي لنجاح الثورة ، فالضرورة تتطلب والتجارب تدلل بشكل قطعي على أهمية توفر العامل الثاني وهو العامل الذاتي المحرك والقائد والموجه للثورة .
فالعامل الذاتي لدى بلدان الربيع العربي لم يكن متوفراً ، بل كان ناقصاً ، ولم تكتمل حلقات نضوجه ، وقد إنعكس ذلك على ضعف أدائه وعلى نتيجة أفعاله ، فغياب أحزاب التيارات الثلاثة اليسارية والقومية والليبرالية وضعفها ، جعل الوضع متروكاً لقوة ونفوذ أحزاب التيار الإسلامي ، التي لا تؤمن لا بالتعددية ولا بالديمقراطية ، ولا تملك البرامج الإقتصادية والإجتماعية الكافية لجعلها أداة في يد عامة الناس ، وهدفاً لها كي تلتحم مع الثورة وتلتف حولها ، فإنطبق على المواطن العربي المثل القائل أنه مثل الشخص الذي هرب من الدلف فوقع تحت المزراب ، وغدت الأنظمة السابقة بعجرها وبجرها ، هي أفضل حالاً مما وقع لاحقاً ، من هيمنة ونفوذ وتأثير الأحزاب الإسلامية ، وقيادتها للعمل السياسي وللتغيير الثوري ، مسنودة بعواصم إقليمية ، فحاضنة الإخوان المسلمين ، تركيا وقطر ، وحاضنة ولاية الفقيه الدولة الإيرانية ، مما خلق حالة من الصراع الأقليمي والدولي المباشر في منطقتنا ، وعلى أرضنا ، وعلى حساب دماء شعبنا وثرواته المادية.