حبس الصحفيين احتياطاً

بقلم: 

على بال زمن...بقلم صالح مشارقة

ترتفع درجة حرارة البلد مع كل قضية حبس للصحفيين، ليس حرارة فقط: غثيان مع دوخة ومقدمات لاستفراغ إذا اردتم. هكذا رأيت حال بعض أصدقائي من المهنيين الذين صدمهم قرار توقيف الزميل إيهاب الجريري اليوم.
ومع قرار الافراج بعد التوسط المشكور من النقابة، انفلت سيل من المواقف من الجسم الصحفي ومن المحسوبين على حرية الرأي في البلد، مواقف أجهشت بالدوافع الذاتية وكل شخص تحدث من زاويته، ولم ينتبه أحد أن أصل القصة لا في الجريري ولا في السيدة المدعية عليه، ولا في النيابة العامة، إنما في شخص واحد، كلفنا كل هذه الشرذمة: إنه صائغ كتاب عقد توظيف السيدة المدعية على الجريري.
بكل بساطة، من صاغ الكتاب قائلاً إن راتب الموظفة قيد التعاقد يصل 12 ألف دولار، هو من أوقع كل الأطراف في الورطة، السلطة مع الرأي العام، الجريري مع السيدة المكتوب اسمها في العقد، الصحفيين المستقلين مع المراعين لانتماءاتهم السياسية، الذي رأوا في تدخل النقابة واجباً مع الذين رأوا فيه تقشيراً لتهديد ووعيد وإثباط دافعية تعرض لها الجريري رغم الإفراج عنه.
من هناك بدأت الأزمة، من اللحظة التي كتب فيها موظف كبير الكلمات على ورقة A4 وحصل على موافقة عليا عليها، علماً أن تراث السنتين الأخيرتين من خطابات السلطة يشلح النملة قميصها في القول إن مُثل الاسترشاد بالنزاهة هي التي تحكم، وإن بطولات الاستشفاء من الفساد تظلمها أقلام كتاب الأعمدة والصحفيين "المارقين". وأن أية مبالغ كبيرة تخضع للعطاءات وتدخل فيها لجان المشتريات والمدققين الماليين للوصول إلى أعلى درجات النزاهة.
طيب، ربما يظهر الآن فجأة من يقول إن صورة الكتاب المسربة مدبلجة وإلكترونية وليست قرينة تقاضٍ حسب القانون.
طيب، مرة أخرى: لماذا لم يخرج للناس منذ أشهر من اتهموا من قبل الرأي العام بهذا الانهيار الإداري ويقولوا إن الكتاب المروج على مواقع التواصل الاجتماعي مزوّر، وإن العقد الحقيقي هو أن الراتب الحقيقي هو كذا وكذا وأن المبلغ يشمل المشتريات، وبالتالي يسكتون رأياً عاماً تائهاً وإشاعات أساءت لكل الأطراف.
كان بالإمكان أن يخرج شخص ما ويوضح المعلومات للجمهور كما يحصل في كل الدنيا، ويعفينا من كل هذا التجريس للسلطات والصحفيين والبلد أيضاً، لماذا لم يخرج هذا الشخص، لماذا لم يفسر هذا الشخص مكنونات نسخة الكتاب الإداري الذي انتشر على كل الصفحات، لماذا تركتم الرأي العام يعوم على معلومات غير مؤكدة، لماذا يسقط شخص واحد كلمات السلطة العليا عن حرية سقفها السماء، من المسؤول عن هكذا مواصيل وصلنا لها كلنا بأقدامنا؟
قد يقول البعض إن مقالتي هذه مزاودة ونكد إضافي وكآبة صحفيين، لأن القصة انتهت مساء اليوم. أنا لا أعتقد ذلك، وسيظل سيف الاستدعاء مسلطاً على الزميل الجريري، وسيل المحاكمات لن يتوقف، وستكون هناك فصول ومتابعات ومقالب وقوالب محاكمات واستدعاءات. سيقول قائلون: هذا هو المطلوب: تقاضٍ عادل، فنذكر هنا: أن هذا التقاضي في ناحية ما هو وعيد وتهديد معروف ومكتوب عنه في كل الدنيا، على أنه محبط لدوافع الصحفيين ومشوه لمواقفهم ومؤثر كبير على سجيتهم النقدية المطلوبة لمرحلة "انسطحنا" ونحن نقول إنها مرحلة بناء الدولة الفاعلة والكبيرة والمبهرة.
ثمة فرصة مواتية الآن لنقول كلنا كمجتمع وقوى ونقابات ومهنيين: ممنوع حبس الصحفيين في قضايا حرية الرأي والتعبير، قلت "حبس" وليس استدعاء أو تحقيق، هذه الجملة مطلوب صياغتها في قانون المطبوعات والنشر المعدل، وفي ثلاث مسودات قوانين خاصة بالإعلام الفلسطيني، هي قانون المجلس الأعلى للاعلام، وقانون نقابة الصحفيين، وقانون المرئي والمسموع، إذا رآه أو سمع به أحد في الفترة الأخيرة.
إذا لم نصل حد المسؤولية الأخلاقية عن تحديث البلد مهنياً، فحبس الصحفيين واجب احتياطاً من باب الاستعداد لفلكلور عربي طويل في القمع بكل مقتنياته وإكسسواراته.

مقال خاص بزمن برس