اصطفاف لعله يكون جميلا!

بقلم: 

إهداء: إليهما محمد وأحمد وآخرين وأخريات

أشعر بالرضا كلما أسمع أطفالي يستمعون لبعضهم بعضا، ويكتمل السرور حينما يتناقشان-يتناقشون، ولا أميل لحسم أي موقف، حيث أفضّل إثارة التفكير، وذكر بعض المعلومات، أو النصح بالبحث عن معلومات تفيد في النقاش.
"أنا واخوي ع ابن عمي وانا وابن عمي ع الغريب" كان هذا المثل مثار نقاشهما:
قال محمد مفسّرا بعدما لاحظ تساؤل أحمد بعينيه الجميلتين البريئتين: المعنى أنه حينما يكون النزاع بين الاخوة وأولاد العمومة، فإن الأخوة يقفون معا ضد أولاد العم، أما إذا كان النزاع بين الأقرباء وآخرين، فإن أولاد العم يكونون مع بعضهم.
-       ................
-       يعني...
وراح محمد يفسّر بمثال، لكن أحمد لم يكن منتظرا للتفسير، هكذا توقعت، كون أحمد طفلا مسالما لا يرى علاقة الناس قائمة على النزاعات، ويعتقد أن الحياة يمكن أن تستمر بدون مشاكل، ما دام كل إنسان يمارس حياته بدون أن يزعج أحدا. ولعل الجينات لعبت دورها، فأنا أشارك أحمد وآخرون وأخريات بهذه القناعة، وقد عشت هذا العمر باحثا عن أفضل الحلول البديلة للنزاعات.
لم يكتمل النقاش، رغم تشوقي للاستماع إلا أنني لم أشأ التدخل بإكماله، لقد تشوقت لبحث أثر التربية الأسرية والمجتمع والإعلام على تكوين بذور الفكر الاجتماعي والسياسي لدى الأطفال والفتيان والفتيات، لذلك فإنني أحاول هنا أن اشارك في النقاش على ضوء النزاعات التي نحيا في ظلها داخليا وخارجيا ودوليا.
هي فكرة لمقال في ظل التجاذبات والاصطفافات، لعل تصالحية برناردشو ستكون بديلي الفكري والاجتماعي والوطني والعربي والإنساني عن تصعيد النزاعات.
أتساءل: أكان لا بد من الاصطفافات؟
إن احترامي للأسماء والشخصيات على مستويات قيادية وفكرية مختلفة تدفعني بألا أذكرها صراحة، لثقتي في ثقافة وذكاء القراء والقارئات، خصوصا أن هذا المقال مبني للتصالح لا لوضع أي نقطة نفط على أية نار حتى ولوكانت نار قداحة-ولاعة سجاير أو عود كبريت.
ربما لي تجربة وللآخرين والأخريات تجارب قد تكون أكثر خصوبة ودرامية حادة ودموية أحيانا، في التعاطي مع المتنازعين، فإذا استمعت لقيادي لا يعني الاصطفاف ضد خصمه، لأنني أزعم أنني مثل كثيرون/ات تخلصنا من "من ليس معي ضدي"، فالوضوح والانتماء للجوهر الوطني (والتربوي والثقافي بشكل خاص كوني كاتبا في هذين المجالين) يريحنا.
الاحترام ضروري، وهو عقد إنساني لنكمل عيشنا هنا سلما أو حربا.
من السهل على المواطن، كاتبا كان أو إعلاميا أو أي متخصص/ة في أي مجال، أن يبحث عن القاسم بيننا، ويدع الاختلاف للتفاصيل، فمثلا الاتجاهات السياسية الفلسطينية وطنيا داخل المنظمة وحركة  فتح بشكل خاص، وما أفرزته من محاور، لا يجب أن تقود لاحتراب كلامي أو إعلامي، فمن السهل العثور على البديل التصالحي، وهو التصالح الحقيقي، وترك المسألة ليتم تقريرها داخل الهيئات والمجتمع من خلال صندوق الانتخابات الذي يضمن كرامة الكل، لأن من يتقبل نتائج الانتخابات هو إنسان كريم وراق ويستحق فعلا أن يكون قائدا.
أما النزاعات غير المفيدة لنا، فوجدت تيارا شعبويا يكون وقودها، ويكون منشغلا بقصد أو غير قصد في صب الزيت على النار.
"أنا وأخوي ع ابن عمي وانا وابن عمي ع الغريب"!
إذا وضع المثل من أجل قيم إنسانية تحافظ على الجماعة أما العدو المعتدي فلا بأس، أما إذا كان منطلقه هو " ومَا أَنَا إِلَّا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ... غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدِ" الذي يجعل الناس كالقطيع، يهجم دون أن يسأل، فلا يجب أن نجعله مصدرا قيميا لنا.
وللأسف، نجد أن أكاديميين ومثقفين وإعلاميين/ات قد آثروا الشعبوية في إثارة الجمهور، فصارت المسألة أخذا وردا، فبدلا من الانشغال بما يستحق أن ننشغل به، ونضيف، ونقوي الجبهة الداخلية نجد أنهم استسهلوا توزيع الاتهامات وشهادات العبور للرأي العام.
كلاهما على غير صواب، والأفضل تركهما في حربهما الكلامية ونحن نودع الاندلس مهزومين، فلا يجد بأي سلطة لا تنفيذية ولا قضائية للدخول في معركة أظنها ترفا فكريا.
وأيضا لأنني وكثيرون/ات نرى أن معركتنا هي التحرر السياسي والاجتماعي والفكري، وتنمية المجتمع والأفراد، والبحث عن حلول اقتصادية تقوي من بقائنا، دون أن نخلق كرها طبقيا أو تخريبا "بمبرر الحراك"، فإننا ننحاز لأنفسنا ولهذه الأرض الرائعة، ولقضيتنا الأكثر نبلا.
هل نحن بحاجة لمن ينصحنا قائلا: إن غرقنا سنغرق معا!؟
نعم نحن بحاجة لتعميق النصيحة لا من قبل الوعظ والإرشاد، ولا الأمر، بل من قبيل الشعور والعقلانية.
لذلك، فإن الاعنقال السياسي والفكري والأدبي في بلاد العرب بأوطاني من الشام لبغداد ومن نجد إلى يمن إلى مصر فتطوان" بما يشمل فلسطين، غير المستثناة رغم ما بها من وجع، إنما يأتي من باب التربية على " "أنا وأخوي ع ابن عمي وانا وابن عمي ع الغريب"!.
على ابن عمي، والغريب، والحزب والفئة، إلى آخر التقسيمات والدوائر.
لماذا يجب أن نغيّر؟
لأن الأصل هو التصالح والعقد الاجتماعي والسياسي المؤسس للمجتمع والحياة.
فلا يعقل أن ينشعل الأخوة بحرب اولاد العم حينما لا تكون هناك نزاعات مع آخرين، لسبب بسيط أن الأخوة والأخوات أنفسهم سيقتتلون إن انتهوا من حروبهم مع أبناء وبنات العم.
وددت لو أدلي بدلوي بصراحة أكثر، ولكن ربما ليس هناك حاجة للتكرار، فلدي كمواطن أن أذكره من واقع خبرتي في الكلام المذاع والمنشور، لكن نفور الجمهور منه يشجعني لأن أمضي في تصالحيتي إلى آخر مدى.
كنت عائدا من مؤتمر عن المسرح الفلسطيني في جامعة بيت لحم حين استوقفني رجل قائلا: هل التقينا؟ قلت ربما لكنني زائر هنا. وحينما علم مجال اهتمامي وعملي قال: أنتم الكتاب والفنانين لم تكتبوا عنا، انتم لا تعرفوننا، ومضى يتحدث عن همومه الطويلة. هو يتحدث وأنا أسمع وأتأمل وأتذكر، وأحاسب نفسي على ما كتبت وما سأكتب.
-       سنكتب!
-       .............
ومضى مهموما بما فيه، ومضيت مهموما بما فيه وفينا.
لربما تصالح الساسة والقادة، ليتصالح بعدها ومعها المجتمع، مجتمع العمل والفعل ومجتمع المعرفة والإعلام والأدب، لعلنا نتابع معركتنا الحقيقية، لعلني إذا التقيت بالمواطن التلحمي وغيره/ا أكون أكثر ثقة بأنفسنا فأقول له: فعلنا وكتبنا ونفعل، من أجلك وأجلنا.