الحكيم والثورة والانتفاضة

بقلم: 

ليست هيلدا حبش ، زوجة الحكيم ، مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وأمينها العام كفصيل أساسي من فصائل الثورة ، ليست علاقتها بالراحل الكبير لأنه « الفقيد الغالي « بل كانت كما وصفته بالنسبة لها : رفيق درب النضال الشاق .
ولهذا لم يكن تسليمي لفكرة هيلدا حبش ومنطقها ، مجرد مجاملة من جانبي لصديقة عزيزة ، تربطني بها علاقة أخوة وتقدير ، لشخصها ولبناتها ولزوجها الراحل ، بل تسليمي لها لأنها تملك من القوة والدوافع لأعادة التأكيد على فهم الحكيم لمنطق الثورة وصيرورتها ، أو لأعادة إنتاج سياسة الحكيم وضرورته ، عبر عملية الربط بين الانتفاضة الجماهيرية الاولى عام 1987 ، باعتبارها نقلة نوعية في مسار الكفاح الفلسطيني والتي اعتبرها الحكيم في خطاب الذكرى الاولى للإنتفاضة عام 1988 بقوله « خطوة جبارة نحو إنتقال ثقل المقاومة إلى داخل فلسطين المحتلة « ، وربط ذلك من قبل هيلدا مع الانتفاضة الشبابية الجارية على أرض القدس وما حولها ، في مواجهة جيش الإحتلال وأجهزته ومستوطنيه ، وضرورة برمجة ذلك من وجهة نظرها ودعوتها للقيادة الفلسطينية ولجميع الفصائل أن « يشكلوا قيادة وطنية موحدة للإنتفاضة ، وأن تتخذ موقفاً تاريخياً وتعمل على حماية الشعب وتعيش هموم الناس وقضاياهم العادلة ، وأن تعمل السلطة الوطنية على وقف التنسيق الامني ، وكل الاتفاقيات التي تطبق من جانب واحد ، وتعمل على مساندة الانتفاضة واستمرارها وتجذيرها ومدها مادياً ومعنوياً وعسكرياً ، لتكون هذه القيادة على مستوى طموحات وتطلعات شعبنا وتضحياته الجسيمة « .
وهي بذلك تستذكر موقف الحكيم حينما تفرغ على أثر إندلاع الانتفاضة الاولى ، بهدف مساندتها ، عبر الاتصال اليومي مع القيادة الوطنية الموحدة ، ورفع شعار لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة ، والتنسيق والتعاون المباشر مع الشهيد القائد أبو جهاد  .
هيلدا حبش ، بدون أن تدعي أو تُصرح ، تعتب على رفاق الحكيم ، وتعتبر نفسها وصية على تراثه ، ليست باعتبارها زوجة وفية تدين له بالوفاء والاخلاص والمحبة ، بل لأنها رفيقة دربه في المحطات الكفاحية التي عاشها ، والحكيم لجيل الشباب الذي يخوض النضال الآن ويقدم حياته طوعاً من أجل فلسطين واستقلالها وحرية شعبها وكرامته ، قد لا يكون معروفاً بالقدر الكافي لهؤلاء الشباب الصغار من حديثي العهد في النضال ، وإن كان بعضهم يتعامل مع تراثه الكفاحي عبر الشراكة النضالية مع قيادات الجبهة الشعبية وكوادرها ، أسوة بالرئيس الراحل ياسر عرفات ، والشيخ أحمد ياسين ، والحي الباقي القائد نايف حواتمة .
لقد مر الحكيم بمحطات كفاحية هامة ، وتنقل من مواقع سياسية أيديولوجية ، إلى مواقع تراكمية مختلفة ، فقد بدأ حياته السياسية قومياً عربياً ، بإعتبار وحدة العرب وأحزابهم وحركتهم هي طريق تحرير فلسطين ، وخاب أمله ، بسبب نتائج الانقلابات العسكرية وهزيمة حزيران ، فإنتقل فكرياً إلى مواقع الاشتراكية العلمية واليسار والماركسية ، ولكن هزيمة الاتحاد السوفيني في الحرب الباردة وفشل المعسكر الاشتراكي ، إنعكس سلبياً على خيارات الحكيم وعلى العديد من القيادات الفلسطينية والعربية والاممية وخياراتها .
ولكن الحكيم في كل محطاته ، بقي وفياً لقضية واحدة: فلسطين ، ولذلك كتب يقول عن فهمه لمضمون الانتفاضة :
« لقد كان الصراع الفلسطيني ضد المشروع الصهيوني جزءاً لا يتجزأ من الصراع العربي الصهيوني ، أي أن المظهر الرئيسي للصراع صراع عربي صهيوني يحتل فيه الصراع الفلسطيني الصهيوني هامشاً معيناً ، الآن وللمرة الاولى منذ أربعين عاماً على هذا الصراع يظهر الوجه الفلسطيني ليقول أنا محور وجوهر هذا الصراع وسأبقى كذلك دون أن يعني ذلك المساس بأي شكل من الاشكال بفهمنا لقومية المعركة ، وإنما أصبحت قومية المعركة تدور الان حول المحور الاساسي محور الصراع الفلسطيني الصهيوني « .
لقد ربط الحكيم خلاصة فهمه وتطوره الفكري بين الهوية الوطنية الفلسطينية ، والقومية العربية ، والفكر الانساني التقدمي ، وهذا هو مصدر الوعي لديه وأهميته وضرورة أن يفهمه ويعيه شباب فلسطين سواء أبناء مناطق 48 ، وأبناء مناطق 67 ، وأبناء اللاجئين في المنافي والشتات ، فالنضال متداخل تراكمي يكمل بعضه البعض ، فالنضال من أجل تحقيق المساواة لأبناء الجليل والمثلث والنقب ومدن الساحل الفلسطيني المختلطة ، رافد لنضال فلسطينيي الضفة والقدس والقطاع من أجل طرد الاحتلال وتحقيق الاستقلال  وداعم لهم ، ونضالهما المشترك على أرض فلسطين ، في سبيل المساواة في مناطق 48 ، وتحقيق الاستقلال لمناطق 67  ، هو الذي يُوفر الامكانية والقاعدة الكفاحية والظرف الموضوعي لعودة اللاجئين من بلاد المنافي والشتات نحو المدن والقرى التي طردوا منها وتشردوا عنها ، إلى اللد ويافا وحيفا وعكا وصفد وبئر السبع ، واستعادة بيوتهم وممتلكاتهم منها وفيها وعليها .
استذكارات هيلدا حبش السنوية لرحيل الحكيم رسائل سياسية لكل الفلسطينيين الذين ما زالوا يُناضلون من أجل المساواة والحرية والعودة ، ولذلك لها التقدير والشكر من قبل كل من كان وفياً ولا يزال لتراث الحكيم وخياراته باعتباره تراثاً فلسطينياً لشعب ما زال يعمل على الطريق لاستعادة حقوقه الثلاثة الكاملة .