في ذكرى رحيل جبرا إبراهيم جبرا

بقلم: 

البئر الأولى
فصول من سيرة ذاتية.

كلنا نعرف جبرا إبراهيم جبرا بأعماله الخالدة حتى ولو تاه عنا ومنا اسمه لجهلنا. فمن لم يقرأ جبرا ولا بد وانه شاهد فيلم عمر المختار الذي قام ببطولته انتوني كوين واخرجه المخرج السوري مصطفى العقاد وكتب السيناريو جبرا ابراهيم جبرا.

وعبقرية جبرا لا تقف ولا تنتهي هنا… وبينما أقرأ سيرته ، لا يمكن أن يتتلمذ إنسان على ايدي كإبراهيم طوقان وان يكون المفتش الدراسي في حينه خليل السكاكيني واسعاف النشاشيبي ، وأسماء اخرى كثيره ولا تكون النتيجة بمثل هذا الزخم.

لا بد انه كان هناك اكثر في تلك الحقبة الاولى من اوائل سنوات القرن العشرين التي جعلت الأدب العربي بهذا الثراء . ولا بد انه لم تكن صدفة ان اجيال من الادباء خرجت من مهد تلك العقود من سنوات ذلك القرن … وكأنها توقفت وانتهت هناك.

ولا اعرف كم هناك من العلاقة بين الفقر والأسى وصعوبة الحياة وبين الثراء الذي يتغذى بداخل روح الانسان . فالفقر كان بوصفه رغم صعوبته ومرارته وكأنه سلم صعد من خلاله على وهج الحياة وجمالها . كأن الجمال والرضى والسعادة في كل شيء رغم بساطته وشحه .

كان هناك قيمة لكل المعاني الانسانية الحقه من حب وتفاني واخلاص يعدو بكثير ما تجلبه الاموال . طلب العلم كان مدركا ..وسيلة وغاية للوصول الى الرقي الذي به تكمن السعادة والرضى.

القراءة تبقى تجربة يستمر الاستمتاع فيها الى ما هو أبعد مما تحمله الحبكة من رصانة في التركيب وما تمده الكلمات من بلاغة في التعابير ..هناك ما هو ابعد يحملنا اليه الكاتب الحق ، يفوق وصفه الكلام مهما بلغت دقة وصفها وعذوبة معانيها وانبعاث المشاعر فيها … هناك من يحملنا على ضفاف المعرفة فيما بين السطور والى ابعد من وصف التعابير والمكان ورص المعلومات .

جبرا ابراهيم جبرا هو احد هؤلاء…

في كل مرة افكر اني وقعت على أعظم الكتاب ، اتفاجأ بعظمة من نوع جديد وفريد ..

قبل عدة سنوات شدني بطريقة مقحمة الكاتب الاسرائيلي عاموس عوز بكتابه مذكراته “ حكاية حب وعتمة” وكان الوصف الدقيق الخارج من اعماق مخيلته من اجمل ما يوصف على لسان طفل بلغ من العمر ما قارب السبعون عاما . جبرا في البئر الاولى تفوق وبلا مبالغة الاف المرات على الطفل في عوز ، بوصفه طفولة باماكن تحفر في اعماق القاريء بتفاصيل مذهلة . الاوراق التي صنعت كتبه ومشاكسات الطفل فيه حافي القدمين ،بانيا بمخيلته مشاريع بحار وعروض سينما وهزيمة وحوش وصراع ملائكة وشياطين ..

بيت لحم كمدينة ، كمهد وكنيسة ودير . مدارس ونساء واطفال .

بطولات يومية لعائلات ، لوالده لامه لاخوته من اجل عيش .

المسافة بين القدس وبيت لحم ..الطريق بوصفها الدقيق … القدس ببلدتها وزقاقها ..الحوش والحارات والزحام…
كم هو عذب القراءة من رحم فلسطين

في ذكري رحيل جبرا إبراهيم جبرا ..في مثل هذا اليوم قبل ١١ سنة.