فلسطين: قضية شعب تتغلغل أوصاله المهاترات

بقلم: 

عندما كتب الروائي الفرنسي جان جينيه كتابه “أسير الحب” في منتصف الثمانينات بعد مذبحة صبرا وشاتيلا عن الثورة الفلسطينية في السبعينات. كان قد أعلن اعتزاله الكتابة قبل أكثر من عشر سنوات ، و”أسير الحب” كان آخر أعماله الذي أراد من خلاله أن يهديه لنضال الفلسطيني . عندما سئل عن سر حبه لفلسطين ،قال : إنه عدم العدل الواقع على هذه الشعب هو ما يدفعني. إنها عدالة القضية الفلسطينية.

كان جينيه على قناعة تامة أن كتابه لن يترجم إلى اللغة العربية ، ولن يحاول القادة الفلسطينينن “أبطال ثورة الشتات” المعتلون عرش أوسلو المتوج في رام الله حتى قراءة كتابه . كان متأكدا أن العرب كالفلسطينيين في الشتات قد اكتفوا بتحرير فلسطين عبر الشعارات. فالكتابات العربية التي احتوت على موضوع فلسطين منذ السبعين من القرن الماضي على حد تعبيره، كانت فلسطين فيها العروس والأرملة والأم والبتول ، وملكة العالم العربي وغيرها من الصفات العظيمة التي حملتها العناوين والمضامين. وكان تساؤل جينيه الدائم : كم فرح العرب بتحويل النضال إلى عبارات وأبيات شعر . فلقد وفرالعربي على نفسه الذهاب إلى المعركة على الأرض والتعرض للقتل او الاصابة. لقد اثبت لنفسه وللآخرين كم هو جيد في صياغة الكلام ، وبتحويل النضال الفلسطيني الى غير حقيقي . فلا أحد يخرج للقتال في حرب غير موجودة.

استحضرتني كلمات جينيه لأفكر بما يجري اليوم . كيف تحولت القضية الفلسطينية من قضية العرب والمسلمين الى قضية الفلسطينيين فقط. وليس من الصعب استيعاب هذا في ظل الويلات التي تعيشها البلاد العربية في معظم أشطارها . فلماذا تكون فلسطين أغلى من سوريا او اليمن او العراق أو مصر؟ ما الذي يعنيه قتل فلسطيني واثنين وعشرة أمام حمامات الدم المجانية من ذبح وسفك للدم العربي في سوريا والعراق واليمن ؟ ماذا يعني أن تقوم إسرائيل بهدم بيت او تجريف حقل او اجتياح مدرسة؟ ما الأسوأ في سحل جندي اسرائيلي لشاب او فتاة فلسطينية ؟ او ضرب طفل او امرأة او زج الشباب والصبيان .الرجال والنساء في السجون أم ما نشاهده يوميا من مذابح جماعية من جماعات وحكومات؟

إسرائيل تبدو كبلاد الأحلام وسط كوابيس الأمة العربية .

ومع انشغال الشعوب بويلاتها ، لا بد أن القيادات تعيش أحسن أيامها . فالجهاد تحول إلى جماعات “تخليص الثمن” وانشغل كل بغريمه ، وأصبحت مشكلة المصري بالإخوان أو العكس ، ومشكلة السوري بالنظام أو غريمه، ومشكلة العراقي السني مع ذلك الشيعي والكردي والعلوي ووووو،ومشكلة اللبناني بالكهرباء وتفجيرات الإرهاب المتعدد الطوائف والملل، ومشكلة اليمني بالحوثي والسلفي، ومشكلة الأردن بترشيد حكومة او إقالتها ،ومشكلة تونس والتفجيرات ،ومشكلة البحرين والثورة الشيعية الخامدة، ومشكلة الكويت والبيدون ، ومشاكل داعش وومشكلة بداخل مشكلة …ومشكلة فلسطين في فتح وحماس.

كيف للعرب أن يرو او يشعروا بفلسطين ومصابها وقادة فلسطين انفسهم انشغلوا بمنازعتهم على قيادة جوفاء حتى عندما يكون الموضوع أرزاق المساكين من هذا الشعب. المهزلة الجارية بشأن معبر رفح ومن يتحكم بالمعابر ، تسد العبارات عن الخروج وتفطر القلب حسرة … فبينما نعيش وسط حمى العدوان المستمر .. يسقط في كل يوم على تراب هذا الوطن شهيد . وغزة التي لم تبدأ اصلا بتجميع أحزانها او دمارها الأخير ،لا يخجل أطراف السلطة البالية من الفصيلين من التصارع على من يمسك حدود بالأصل مفتوحة او يراد فتحها لإنقاذ الشعب النازف الذي ينازع من أجل رمقة حياة في فتح المعابر.

وفي خبر تتداوله الصحافة الفلسطينية عن رئيس وزراء سلطة رام الله في حكومة الوحدة الوطنية المفككة ، كانت المشاهد لموكبه في إضاءة شجرة الميلاد ببيت لحم ، كمشهد بعيد من مشاهد ديزني وسانتا كلوز القادم على مزلاجه . مشهد ارتبط بخيالنا مع جمالية سانتا وبعده عن الحقيقة ولكن برسم دائم لخيال نحب مداعبته. إلا أن مشهد رئيس الوزراء بموكبه والحراسة التي وصفت “بالغير مسبوقة” ، حول الشعور المرتبط بالعيد وسط زحام القتل والظلم من قبل الاحتلال الى شعور اختلط على المشاهد الفلسطيني نفسه . كنا قبل ايام في تحدي لإضاءة الشجرة ومحاولة إعلاء صوت الحياة والسلام المنبعث اصداءها وميلاد المسيح عليه السلام ، لنجد أنفسنا وسط احتفالية سلطوية بجدارة كان رئيس الوزراء وفخامته هو عنوانها . في وقت تناشد سلطة رام الله الشعب بعدم الاحتفال بالعيد حفاظا على مشاعر الشهداء ، يخرج رئيس الوزراء بموكب “سانتا كلوزي” من أجل إضاءة شجرة العيد ….

في وسط الدم والظلم والإستبداد ، يبدو المشهد وكأنه هزلي دراماتيكي مأساوي ..يصر ان يعيد مشاهد نكسة شعب لم يعد يشتته الإحتلال فقط، ولم يعد انقسام الفصائل همه الدائم ، ولم يعد الفساد المتفشي كالسيول الموبوءة في أرجاء كيانه أكبر آفاته … ولكن تلك العبثية بين نضال ومقاومة لشعب يتم استنزاف دمه وقوته وبين سلطة تمارس نشاطاتها الاحتفائية وكأنها في معزل عن الواقع الذي من المستحيل الا تراه..

فالحواجز هي نفسها التي نمر ويمرون بها … وبكاء الاهل المثكولين بأبنائهم وآحبتهم لا يغشيه ظلام الليل ولا يسكته صرير البرد. فكل مدينة وقرية مكلومة بفقيد يزف يوميا إلى الموت بدلا من فرح كان منتظر.

حالة الانفصام والانفصال ما بين الشعب والقيادة تهوى في كل يوم الى حضيض غير مسبوق. وفي نفس الوقت مرارة الحال نتذوقها جميعا ، كنا مع هذا الفصيل او ذاك . كانت انتماآتنا نحو هذا التيار ام ذاك . نريد السلطة ام لم نريدها ، أعجبنا آداء الحكومة أم لم يعجبنا.. هناك حالة من العبثية أصابت وجداننا بعدما فككت أوصال مشاعرنا تجاه ما يجري بين احتلال وانصياع.. بين مقاومة ومخاذلة.

وبين كل هذا وذاك…. تتبدد القضية الفلسطينية بين حشد وهمي عربي لم تعد حتى فلسطين تذكر علانية فيه . وبين خلط قومي ،ديني، عرقي ووطني … لم نعد جميعنا عربا بفلسطين او خارجها ندرك آفاقه التي تركنا خيوطه وآماله ولا نزال نصرخ من أجل قضية تحولت من قضية عروبة وحق وعرض ..إلى قضية فلسطيني يحمل الوطن في قلبه وسكينا او حجرا يدافع فيه عن حق انشغل الجميع في تعريفه وتحديده بين موروث ديني او تاريخي والاحتلال يقتل ويتنصل ويستفحل … ودموع الأمهات استبدلت السماء بها مطرها لتروي تراب أرض تخجل ممن يدوسونها ويدنسوها.

ويغلب التهاتر على الكلمات كما القضية الفلسطينية ..تغلغلت في أوصالها المهاترات .