قناة الجزيرة بين المحبة والعقاب

بقلم: 

 يقول مثل فرنسي شهير "من يُحب حقاً يُعاقب حقاً"، هذا يعني أن المحبة لا تُعطي المحبوب حق عمل أي شىء، فإن أخطأ وجب عقابه حتى تبقى المحبة وتدوم.

ينطبق هذا المثل على المُقابلة التي أجراها أحمد منصور، صحفي الجزيرة، مع طيار من الجيش السوري، أسير عند جبهة النصرة. وفيها نرى الصحفي المُخضرم في مشهد سريالي، وقد خلع لباسه الصحفي، وارتدى بدلة محقق مخابرات في أحد أقبية السجون لدولة عربية، كما سمعنا عنها أو عاشها كثير من المظلومين، أو كما عودتنا قنوات الإعلام العربية باعترافات منزوعة ومبثوثة على شاشات الفضائيات لإرهاب الناس.

قبل أسابيع قليلة استهجنا كلنا ما حدث لأحمد منصور بألمانيا، حيث أُوقف لبضع ساعات من طرف الإنتربول، بناءً على طلب الحكومة المصرية، قامت بعدها الدنيا ولم تقعد، لتعدي ألمانيا المُفترض على حقوق الصحافة الحرة، حتى أن بعض النواب الألمان طالبوا السيدة ميركل، بالاعتذار للصحفي للإهانة التي أُلحقت به.

نحن نحب قناة الجزيرة وصحفييها، لمهنيتهم العالية، واحترامهم والتزامهم بقواعد وآداب مهنة الصحافة، ومنها احترام حقوق الإنسان، وحقوق الأسير وعدم إهانته، وليس كما رأينا من استعمال الصحافة الإرادي لخدمة الجهة الآسرة ولأجندتها الخاصة، مهما كان تأييدنا أو إدانتنا لهذه الجهة. وضع النفس في موقع البوق الإعلامي والدعائي، يتنافى تماماً مع ما عودتنا الجزيرة على رؤيته على شاشاتها منذ سنوات طويلة.

لا يصح بالقانون الصحفي والإنساني، نشر استجواب لأسير لا يستطيع أن يقول شيئاً إلا تحت الخوف، والقنوات المهنية التي نعرفها تأبى بنفسها عن هكذا مُمارسات.

إدانتنا للنظام السوري المتوحش ضد شعبه، وإدانتنا للغارات التي يقوم بها طيارو هذا النظام، وبما تؤدي إليه من قتل للاطفال والمواطنين العزل، لا يُبرر أن يُستعمل الأسلوب الإعلامي نفسه ضد هذا النظام.

رأينا في برامج سابقة السيد أحمد منصور، وهو يبكي لحظة استجوابه لسجين مغربي، قضى سبعة عشر عاماً من حياته في الظلام في أقبية الملك الحسن الثاني، وبكينا بالآلاف معه، لأنها كانت لحظة صادقة، من قبل سجين مُحرر وحر.

يقول أفلاطون، أب الفلسفة اليونانية، أن القاضي العادل هو الذي يحكم بالقانون العادل، فهو ليس عادلاً بذاته وبطبيعته. هذا النص الفلسفي صحيح في كل المجالات، فالصحفي القدير هو الذي يعمل بناءً على قانون صحافة صائب، ويحترم قواعد المهنة التي يُمارسها. هذا الاحترام هو الأساس في الكفاءة المهنية، الخروج عن ذلك واستغلال الشهرة لتحقيق أهداف لا علاقة لها بعالم الصحافة، يُضعف مصداقية الصحفي وصحيفته، ويؤدي ذلك إن لم تتم العودة إلى المهنية الحقة، لفقدان وسيلة الإعلام المعنية من شعبيتها وتألقها.

شُهرة الطبيب لا تسمح له بعدم احترام مريضه، أو الخروج عن مبادىء وقيم ممارسة الطب، تحت طائلة فقدان شهرته وضياع مرضاه.

إن بناء أوطان ما بعد الأنظمة الإستبدادية الحالية، لا يتم إلا عن طريق احترام القيم والمبادىء التي من أجلها يموت الناس ويستشهدون، الفصل بين السلطة والإعلام، بين السلطة والقضاء، الإعلام الحر والقضاء الحر، هذا كله هو أساس المُستقبل الذي نتأمل الوصول إليه.

نأمل من الجزيرة أن لا تدفع مُحبيها وهم كُثر، ونحن منهم، إلى رفع البطاقة الحمراء، ونرجو من السيد أحمد منصور والذي نقدره بلا حدود،  أن لا يدفعنا إلى تطبيق المثل الفرنسي العريق " إن كنت تحب حقاً، فكن قاسياً مع من تحب؛ إن استحق ذلك".