حين يغيب الفكر والبرنامج..والقيادة..يوميات مواطن عادي (38)

بقلم: 

كمواطن عادي لا أجد لدي الوقت الكافي للتعبير عن موقفي الرافض للكثير مما يمر به مجتمعنا من أحداث، وربما ظواهر لا تكاد تنتهي، ناهيك عن القول أنني لا أجد نهائيا أي وقت للمشاركة في أي تحرك فعلي على أرض الواقع. ذلك أن طبيعة زخم وتفاصيل الحياة لا تترك لي مجال لكل ذلك. وبالكاد أستطيع التعبير ببعض الجمل أو الافكار المتقطعة أحيانا عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو هنا وهناك. التفاصيل كثيرة ومتنوعة تنوع مجالات وظروف الحياة وتعقيداتها المتزايدة، وعلي يومياً أن أتابع توفير أدنى متطلبات الحياة اليومية في ظل وضع متحرك، يشبه حركة رمال الصحراء. أما بالنسبة لتحديد الأولويات فإنني أدخل يومياً، ومع كل حدث جديد، في دوامة من الإختيار والمفاضلة بين أيها أهم أو أقل أهمية.

لا أكاد أنتهي من التفكير في إرتفاع أسعار  الخضار والفواكه، سواء عند إرتفاع الحرارة أو عند إنخفاضها، مع إنحباس الأمطار أو عند سقوطها، مع بداية شهر رمضان أو في العيد، أو  في أي وقت ومناسبة. وتجدني أدخل في دوامة إرتفاع وإنخفاض أسعار الكهرباء والغاز والمياه والإتصالات، مع إرتفاع وإنخفاض أسعارها عالميا، أو حتى بدون ذلك. وبين هذا وذاك أسعار الخبز والدجاج واللحوم والأحذية والملابسومدى إلزامية الأسعار المعلنة. وعلي أيضا القلق بشأن صحتي والعائلة والإهتمام بتفاصيل مشكلات وقضايا القطاع الصحي، الأخطاء الطبية والإضرابات في المرافق الصحية والنظام الصحي بمجله وتفاصيلة وتعقيداته وانعكاسات ذلك كله عليّ كمواطن، وكذلك الأمر بالنسبة للنظام التعليمي والنظام الإقتصادي والوضع السياسي والأمن والقضاء والسكن والعمل والتنقل، وسلسة طويلة من التفاصيل التي لن تنتهي عند مقاطعة منتجات الإحتلال ورفض سياساته في الاستيطان والقتل والإعتقال وغيرها، أو عند تفشي وإنتشار ظاهرة السلع والمنتجات الفاسدة أو إنتشار الجريمة والعنف والمخدرات وغيرها من الظواهر الإجتماعية السلبية.
أعلن كمواطن عادي أنني غير قادر على متابعة كل تفاصيل ذلك في سياق حياتي اليومية، وربما لن أتمكن حتى من متابعة عموميات ذلك حتى من باب مجرد العلم ليس إلا.تضيع الفكرة والأفكار في بحر التفاصيل، ولا يتبقى سوى تساؤلات كثيرة وعديدة، وإجابات كثيرة أيضا. لكن جوهر الموضوع بالنسبة لي يكمن في المقارنة. حين أعود بذاكرتي الى أيام الإنتفاضة الأولى نهاية ثمانينات القرن الماضي، كنا كمجتمع ندير بنجاح كبير وضعنا في كل نواحي الحياة الإقتصادية والإجتماعية والثقافية والصحة والتعليم والعمل .. وغيرها من جوانب الحياة، وندير في نفس الوقت صراعاً قاسياً مع نفس الإحتلال، رغم أننا لم نكن نملك في حينه الكثير من الإمكانيات البشرية والمادية والأجهزة والمؤسسات التي نكاد لا نستطيع حتى عدها أو حصرها هذه الأيام. والسؤال الجوهري الوحيد الذي يدور في ذهني لماذا نتراجع في كل المجالات منذ ما يقارب الثلاثة عقود؟
أعتقد أن الجواب يكمن في فكرة أننا فقدنا الفكر والبرنامج ومعهما القيادة. الفكر هو متطلب أساسي وحيوي في حياة الشعوب والمجتمعات، وهو  تكثيف الصراع والتناقض بين المصالح والفئات المختلفة، ومن الفكر، واستناداً اليه  تتبلور وتنشأ الأحزاب والنقابات التي تعبر عن الفئات والمصالح، ونجاحها يعتمد أساساً على قدرتها على رسم برنامج عمل يعكس مصالح وإعتبارات وطموحات وأولويات الفئات والشرائح الإجتماعية التي تمثلها، وتعتبر نفسها طليعة لها. وحينها فقط تستطيع أن تكون ناظمة وموحِدة وقائدة لها في نضالها في مختلف المجالات. وبدون وجود أحزاب ونقابات بهذه المواصفات، فإن المواطنين لن يكونوا في أحسن الأحوال سوى مجموعات صغيرة مشتتة ومتفرقة لا تقوى في معظم الأحيان حتى على الدفاع عن حقوقها الأساسية.
لا أريد في هذه المقالة التقليل من شأن الأحزاب والقوى المختلفة، بل العكس، إنني أعتقد أنه بدون الأحزاب السياسية لن نتمكن كمواطنين من تحقيق أي تقدم أو تغيير في وضعنا القائم والذي يميل الى التردي يوماً بعد يوم، وعلى كافة الأصعدة، وخاصة بالنسبة للغالبية العظمى من المواطنين الذين تطلق عليهم تسميات عديدة مثل "الجماهير الشعبية" أو "الفئات الضعيفة والمهمشة"أو "الطبقات والشرائح الفقيرة"، بدون الأحزاب والنقابات العمالية. وستبقىهذه الفئات والشرائح الإجتماعية خاصة عرضة لنهش "مافيات" تبيعنا هواءاً وطعاماً وماءاً ودواءاً مسموماً، مغشوشاً ومسروقاً من لحظات حياتنا وصحتنا، ناهيك عن رفاهية وجودة حياتنا ومستقبل أجيالنا، وستستمر في تحريكنا كأحجار الشطرنج على طاولات مصالحها. أما بالنسبة للأحزاب والنقابات فإنها لن تكون قيادة حقيقية ما لم تثبت أنها فكراً وبرامجاً وقيادة قادرة على التعبير الواضح والدقيق عن مصالح وهموم الشرائح والفئات الواسعة من المواطنين. و"لملمة" التفاصيل اليومية، الصغيرة منها والكبيرة، وإعادة صياغتها في برامج تتمكن خلالها من حشد وتعبئة الجهود والطاقات وتوجيهها الى المنابع والجذور حيث يكمن هناك أساس العلل، ومنها أيضاً تبدأ مراحل العلاج. وبدون ذلك فإن الاحزاب والنقابات سوف تجد نفسها دائما تبحث فقط عما يؤكد أنها لا تزال على قيد الحياة. فيما يغرق المواطنون في واد آخر وهم يلاحقون تفاصيل التفاصيل في مسلسل المعاناة اليومية التي أشبه ما تكون بما يسميه مثلنا الشعبي بإسم "القربة المخرومة".

نبيل دويكات