وحدات الشكاوي.."الشكوى لغير الله مذلة"

بقلم: 

وحدات أو هيئات أو حتى صندوق الشكاوي أصبحت ظاهرة منتشرة في مختلف هيئاتنا ومؤسساتنا سواء الحكومية منها أو غير الحكومية وما بينهما، ويمكن للمواطن العادي ملاحظة ذلك بسهولة ويسر لدى زيارته لأية مؤسسة. بل إن بعض المؤسسات ذهبت أبعد من ذلك، في سبيل التسهيل على المواطنين من خلال إستحداث خدمة تمكن المواطنين من تقديم أية شكوى من خلال الشبكة العنكبوتية، مهما إختلفت التسميات فإن المضمون يشير الى وجود "جسم معين داخل المؤسسة هدفه المعلن والواضح هو  إستقبال أية شكوى من أي مواطن حول طبيعة ومضمون وجودة الخدمات التي تقدمها المؤسسة نفسها أو أية مؤسسات ذات علاقة، أو تلك التي إمتنعت المؤسسة عن تقديمها أو  أية ملاحظات تشير الى وجود "تظلم" لدى أي مواطن.

المعنى العام والمغزى من وجود "آلية" محددة للشكاوى هو  بناء علاقة متينة بين المؤسسة والمواطنين وتقوم بالأساس على تقييم الأداء، وبصورة تفسح المجال لتصحيح أية عقبات أو ثغرات تحول دون تقديم خدمات ذات جودة ونوعية عالية، ومن ناحية ثانية التسهيل على المواطنين خلال هذه العملية وإختصار الوقت والجهد المطلوب، وتمكينهم من التواصل بسهولة ويسر ودون عقبات مع مراكز صنع القرار في مختلف المجالات. بإختصار شديد "وحدات الشكاوي" يفترض فيها أن تكون ملجأ آمن وسهل الوصول اليه ويتم فيه سماع صوت المواطن ووجهة نظره ومتابعة تظلماته والتدقيق والتحقيق فيها.

كل ما ذكرته أعلاه موجود في خانة تسمى "ما يجب ان يكون"، أي في اطار النظرية أو الواقع الإفتراضي والنظري، أما واقع الحال القائم في مؤسساتنا فينطبق عليه القول: "حدّث ولا حرج"، وهو ينطبق على غالبية المؤسسات في كل القطاعات. ومن خلال جملة من الحقائق وتجارب العديد من الأصدقاء فإنه يمكن تحديد الملاحظات التالية:

أولا: في بعض المؤسسات لا يوجد مكان أو جسم أو هيئة لإستقبال الشكاوى من حيث الأساس. وأية شعارات أو مسميات تطلقها بخصوص علاقتها وإنفتاحها على المواطنين تبقى مجرد كلام للإستهلاك رغم إنتهاء صلاحيته.

ثانيا: في مؤسسات أخرى تجد الشكاوى طريقها مباشرة الى أقرب سلة للمهملات بعد أن تم إستقبالها من أصحابها بالترحاب والتهليل وإطلاق الوعود بالاهتمام.

ثالثا: النمط الثالث من التعامل هو تعويم الأمور وعدم تحديد المسئولية، سواء الأشخاص أو الجهات، وهذا يعني أنه لا يوجد من يتابع الشكاوي.

رابعا: في نمط آخر  يتم التعامل مع الشكاوي وإستقبالها وتحويلها الى جهات مختصة داخل المؤسسة، لكن في الغالب لا تمتلك هذه الجهات الامكانيات اللازمة للمتابعة سواء فيما يتعلق بالكادر أو الصلاحيات والمرجعيات أو الامكانيات المالية والفنية اللازمة.

 حدثني صديق لي أنه قدم شكوى لإحدى المؤسسات من خلال رسالة عبر البريد الالكتروني منذ أكثر من عام، وأنه تفاءل خيراً حين جاءه رد في اليوم التالي وعبر البريد الالكتروني أيضا يؤكد وصول شكواه وأنه سيتم التدقيق فيها عاجلاً وابلاغه بالنتائج، لكنه مل من انتظار الرد. وحدثني صديق آخر عن شكوى بعث بها عبر الموقع الالكتروني لإحدى المؤسسات وفق الاعلان والتفاصيل التي قام بتعبئتها حسب المطلوب، لكنه فوجىء بعد عدة أسابيع عند تواصله مع تلك المؤسسة أنه لا يوجد علم لدى معظم موظفيها عن حقيقة وجود مثل هذه الخدمة لديهم. الأمثلة كثيرة وعديدة من الواقع، لكني وجدت أصدق تعبير عنها من خلال قصة الإعلان "كيف ترى قيادتي" وهو إعلان دأبت العديد من المؤسسات على طباعته بصورة بارزة على سياراتها مع وضع رقم هاتف، على الغالب يكون مجاني، للإتصال عليه، ويهدف الإعلان كما يُفهم منه الى فتح المجال أمام المواطنين لإبلاغ المؤسسة التي تعود لها السيارة عن أي خلل أو تجاوز يقوم به السائق خلال سياقته للسيارة. لا أعرف إن كان هناك من حاول، وعلى سبيل التجربة الإتصال على واحد من تلك الأرقام أم لا، لكن ما اعرفه ورأيته شخصياً خلال سياقتي لسياراتي في أحد الأيام حيث كانت في الشارع أمامي مباشرة سيارة وعليها شعار إحدى المؤسسات الكبرى، ومطبوع عليها ذات العبارة: " كيف ترى قيادتي؟" والى جانبها إشارة الى الرقم الذي يمكن الإتصال به وهو عبارة عن مجموعة من الأصفار.

ربما تعكس القصة واقع الحال، وربما هناك قصص وروايات كثيرة ومتنوعة حول موضوع الشكاوي وكيفية التعامل معها، وربما ذلك ما يدفع الى القول أن هذا الأمر تحول الى نوع من "الموضة" أو ذر الرماد في العيون ليس أكثر، لأن بناء علاقة متينة وقوية بين المواطن ومؤسسات مجتمعه المختلفة إنما يجب ان يستند الى أرضية من المصداقية والشفافية أولاً، والإحترام للمواطن ورأيه ووجهة نظره ثانياً، وثالثاً تمكينه من ممارسة حقه الطبيعي في تقييم أداء عمل المؤسسات والهيئات المختلفة، ورابعاً ان ينعكس ذلك في تغيير وتعديل توجهات وإجراءات وأنظمة العمل بصورة تعكس التطوير المستمر في طريقة وآلية ونوعية الخدمات التي تقدم للمواطنين. وبدون هذه الأسس الأربعة فإن طبيعة العلاقة بين المواطنين ومؤسساتهم ستبقى قائمة على أسس من التبعية التي لا تعطي للإنسان ليس فقط حقوقه المختلفة، وإنما لا تعترف به من حيث الأساس كإنسان، بل مجرد رقم أو فرد. وستبقى كل الشعارات التي تصم آذاننا أحياناً من ضجيجها العالي حول المواطن وحقوقه مجرد شعارات لا تساوي حتى ثمن الورق أو الحبر الذي تطبع فيه، هذا إن لم نقل أنها تخدع المواطن ببريقها فضلاً عن هدرها لوقته وجهده وإرهاق لأعصابه. وفي الحالة هذه فإن أفضل لسان حال للمواطن هو القول: "الشكوى لغير الله مذلة".