القدس بين النخوة والرغوة

بقلم: 

استقبل عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير،أحمد قريع (أبو العلاء)، في مكتبه في أبو ديس، القنصل الإسباني العام في القدس. في هذا اللقاء، الذي وافق  افتتاح العام الدراسي، أطلع أبو العلاء القنصل على الاعتداءات الاسرائيلية في القدس، وخاصةً على المسجد الأقصى الذي يواجه خطر تقسيمه على غرار ما جرى في الحرم الإبراهيمي في الخليل.

كانت الجريمة البشعة التي أودت بحياة الشاب محمد أبو خضير مدعاة لاندلاع موجة من غضب الشباب المقدسي الذي اجتاحت جموعه شوارع وحواري المدينة، وأدت إلى وقوع إصابات عديدة ومئات من المعتقلين الذين أسرتهم قوات أمن الاحتلال، وزجّت بهم في سجونها.

اليوم، فيما تبقى من قدس، بدأت الحياة تعود إلى وجعها ومخاضاتها التي ترافق محاولات اسرائيل لخلق "أورشليم"، بولادة قسرية متواصلة منذ بدأ طلقها الأول قبل عقود. 

فما تقوم به إسرائيل في المدينة هو نتاج خطة شاملة وضعت بعناية فائقة، وبمشاركة العديد من الجهات الإسرائيلية المهنية وذات الاختصاص، وهي  تستهدف ابتلاع  كل المدينة، وليس جزءًا منها. وتتعمد هذه الخطة، بالوقت ذاته، تفتيت الكيان السكّاني المقدسي الفلسطيني الجمعي وتحويله إلى أفراد ترتبط مصالحهم الوجودية بالمرافق الإسرائيلية، وما "تهبه" تلك المرافق من "حقوق وخدمات" وفقًا لمصالح "السلطان" ومكرماته.

بدأت الحكاية في اليوم الأول بعد انقضاء عدة رحلة الستة أيام، حين أعلنت إسرائيل ضمّها للقدس الشرقية، ومغطت حدودها لتصير بمساحة أكبر عمّا كانته بعشرة أضعاف كاملة. ثمّ بدأت تبني مستوطناتها التي تحيط اليوم بالمناطق المأهولة بالفلسطينيين من جميع الجهات، فحوّلت بذلك الأحياء العربية إلى جزر تسبح في بحار من مستوطنين.
ثم جاء قرار إحكام إغلاق المدينة في بداية التسعينيات، فنصبت إسرائيل الحواجز العسكرية التي أمّنت فصل القدس جغرافيًا عن باقي الجسد الفلسطيني، ومُنع الفلسطينيون من دخولها إلّا بأذون يصدرها الاحتلال لغايات في نفس إسرائيل.

تلا ذلك بناء سور الفصل العنصري الذي أدى إنجازه إلى محاصرة القدس بشكل كامل ومحكم، فلاقت الجغرافيا، هنا في القدس، ما لاقته في فلسطين كلّها؛ اغتصابًا وتقويضًا لكثير من معالمها، بينما يقف العالم بعربه وعجمه وإفرنجه، على منصّات الخديعة والنفاق، ويشهد على ولادة "حبيبة داود" كما في النشيد.

لم تكتف إسرائيل بالأرض، فالوجود الفلسطيني المتماسك كان هاجسها، والانتماء لهوية وطنية فلسطينية جامعة كان مقلقها ومؤرقها، لذلك باشرت بضرب مؤسسات المجتمع الفلسطيني المدنية؛ فأغلقت، بأوامر أمنية، عشرات الجمعيات والمؤسسات التي دأبت على تقديم المساعدات والمشورات والخدمات للمواطنين المقدسيين.  عرف خبراء إسرائيل أن تقويض هذه الدعامات الاجتماعية سيحرز تفككًا هامًا وخطيرًا في جدران اللحمة الاجتماعية الثقافية الوطنية، من جهة، ومن جهة أخرى،سيجبر الفرد الفلسطيني على البحث عن بدائل ستؤمنها المؤسسات الإسرائيلية التي ستشترط "تعاقدها" مع أولئك "المحتاجين" على أسس شخصية أو فئوية مصلحية مغرضة.

وفعلًا، بعد تأكد إسرائيل من نجاحها بإغلاق عشرات المؤسسات الوطنية الفلسطينية وأهمها "بيت الشرق"، واستئمانها لانعدام من يطالبها بعكس ذلك، بدأت تفرض سيطرتها على منظومات الحياة اليومية الفلسطينية: التعليم، الصحة، التطوير، الشؤون الاجتماعية، المرافق الاقتصادية وما يتعلق بها من تصاريح وتسهيلات وتراخيص على أنواعها.
ربما يحتاج كل واحد من هذه القطاعات لدراسة تفصيلية تبيّن مثلًا،  كيف بدأت بعض المدارس الفلسطينية في القدس، ترتبط بالمال والمصلحة الإسرائيليين، وكيف يؤدي ذلك إلى سيطرة إسرائيلية تدريجية على مناهج التعليم ومضامينها، بعد أن ضمنت ارتباط تلك المدارس اقتصاديًا ومصلحيًا بحبل سرّة المؤسسة الإسرائيلية لما تؤمّنه هذه من فرص لحياة أوثق وأرحب، أو كيف ضمّت صناديق المرضى الإسرائيلية (ربما تكون المفارقة محزنة إن عرفنا أنها صناديق تتبع لحركات مؤسسة في تاريخ الصهيونية مثل:"مكابي"و"مئوحيدت"و"كلاليت")، آلافًا مؤلفة من المقدسيين ومئات من الأطباء والطواقم الفنية الذين يعتاشون بشروط لم ولن تستطيع أي جهة فلسطينية تأمينها، ويتركون مستشفيات القدس الفلسطينية تلهث وراء تأمين مصائرها المهددة.

أمّا عمّا تجنيه إسرائيل من نشاطها النافذ في تفاصيل ومفاصل الحياة المقدسية الأخرى، فحدّث ولا حرج. قلنا، بالمختصر، ونؤكد: في القدس تغتصب الجغرافيا، تسرق الأرض ويعرّى الحجر، وفي القدس، يهتك تاريخ، تسلب صلاة ويندثر أثر، وفي القدس، يحاولون، وهذا الأهم والأخطر، محو وجود وكيان وبشر.

في زمن الرغوة هذا تمسي القدس في خطر والعرب وحدهم  لن ينقذوها، لا لأنهم غير قادرين، بل بالأساس لأنهم غير معنيين. فمفاتيح ألعاب الأمم، في الدول الاستبدادية، كانت تحكمها وتمليها، عبرالتاريخ وما زالت، مصالح الحكام وبطاناتهم، ومصالح معظم أولئك اليوم، كما تشهد عليها وقائع العرب وطواحين الدم المسفوك، بعيدةٌ عن القدس وعن الأقصى، الذي يحاول البعض، خائبين، أن يستجيروا به ليستنهضوا المستظلّين، زيفًا، بالسماء، المتوجّسين من غضب شعوبهم ولهيب شمسها التي قد تعود وتسطع كما وعدنا بها ما حسبناه ربيعًا.
في زمن الرخوة هذا، يصرخ الجرح: من يوقف النزيف القاتل في القدس، التي يجب أن تبقى قضية وطنية متعددة الأبعاد والمكوّنات، ومن الخطأ اختزالها في بعد واحد، مهما كان هذاالبعد بالنسبة للمختزل، بعدًا مقدّسًا ومصيريًا.

إن القدس بحاجة إلى مرجعية وطنية تظلل وتجمع أبناءها وتقودهم نحو أرض الكرامة والعزة والاستقلال، وحرام أن ينتظروا دم الضحية القادمة كي يندفعوا كالزبد يتطاير فوق موجات الغضب. 

ربما كان لقاء أبو العلاء بالسفير الإسباني عابرًا وعاديًا، لكنّه لفت انتباهي، ورأيت فيه تأكيدًا على ما تحتاجه القدس، التي كانت ويجب أن تبقى أكبر من حائط وسور وأغلى من قباب وهياكل وسوق، فزمن النخوة ولّى، والركوة لم تعد ركوة عرب!
يتبع...