زمن "جباية الثمن"، وتهافت السياسة

بقلم: 

يستمر العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة منذ ما يقارب الأسبوعين، ويجبي معه ثمنا باهظا من أرواح وومتلكات وطمأنينة الشعب الفلسطيني. إن "جباية الثمن" أو تدفيع الثمن هي التعبير المركزي الذي تستخدمه الحكومة الاسرائيلية لوصف هدفها الرئيسي من هذه الهجمة الشرسة التي تشنها ضد الفلسطينينن عموما، وضد قوى المقاومة الفلسطينية على وجه الخصوص، وأولها حركة حماس.

"جباية الثمن" هو اسم المنظمة الاستيطانية الإرهابية التي تكن وتعلن العداء المطلق للفلسطينيين، وتدعو لقتلهم وسلب أرضهم، وللاستيطان على نطاق واسع. تعارض هذه المنظمة سياسات الحكومة الاسرائيلية (أيا كان الحزب الذي يقودها) في التفاوض وإمكان إعادة أي جزء من الأرض للفلسطينيين. إن طرد الفلسطينيين من الأرض وتهويدها وضمها لإسرائيل هو الهدف المعلن لهذا التنطيم، وقتل الفلسطينيين هو عقيدة راسخة كما جاء في كتاب "توراة الملك" الذي ألفه اثنان من رموز هذا التنظيم من مستوطنة "يتسهار" المجاورة لمدينة نابلس. اليوم وفي ظل الهجمة متعددة المحاور التي تشنها الحكومة الاسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة لتصفية الوجود السياسي الفلسطيني، تغيب هذه المنظمة عن الأنظار. ينوب عنها اليوم كل دولة إسرائيل بجيشها، وحكومتها، ووسائل إعلامها، وفوق ذلك يسندها معادلة إقليمية ودولية فاضحة، وحالة فلسطينية متهافتة.
(1) في محركات العدوان
لقد كان اختفاء ومقتل المستوطنين الثلاثة في منطقة الخليل هو شيفرة انطلاق العملية الاسرائيلية ضد الكيانية الفلسطينية برمتها (بالمناسبة، أين وصل التحقيق في مقتل هؤلاء؟ ولماذا لم تم سحب كل ما يتعلق بذلك من الخطاب الرسمي ومن الإعلام العبري؟!!). إن لقضية المستوطنين الثلاثة ذات الأثر الذي فبركته الولايات المتحدة الأمريكية حول امتلاك عراق صدام حسين لأسلحة الدمار الشامل. إلا أن هذه القضية لم تكن لتسوغ لإسرائيل هذا العدوان الشامل لولا وجود عدد من المعطياتت المحلية والإقليمية والدولية التي شكلت السياق المواتي لهذا العدوان:
أولا: موجة التحريض المتصاعد في المنطقة ضد تعاظم نفوذ القوى الإسلامية في المنطقة، بخاصة بعد التهديد الداعشي الزاحف في كل من العراق وسوريا. في هذا السياق تُتَهم إدارة باراك أوباما بأنها تتحمل مسؤولية هذا الوضع بسبب سياستها الخارجية الناعمة في معالجة هذا الملف، ومن ذلك امتناعها عن تقديم عون جدي ومباشر للتصدي لهذا الزحف. تعتير إسرائيل نفسها بأنها أول المتضررين من هذه الحالة المنفلتة، وتربط إسرائيل هذا التهديد بالقوة المتصاعدة لحماس وفصائل المقاومة الإسلامية في قطاع غزة. ربطت الحكومة الاسرائيلية بين هذا التهديد (سواء كان جدي أم مفتعل) وبين تشكيل حكومة التوافق الفلسطينية، من أجل حمل الإدارة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين على إدارة الظهر لهذه الحكومة بدعوى أنها تشكل تحالفا مع قوة إرهابية تتمثل بحركة حماس.
ثانيا: العلاقة المتدهورة باضطراد بين حركة حماس وبين النظام المصري. ليس خافيا على أحد بأن هذا التدهور مرتبط بموقف حركة حماس من انقضاض المؤسسة العسكرية على الحكم بعد عزل الرئيس محمد مرسي. مصر أقدمت على تصعيد غير مسبوق ضد حركة الإخوان المسلمين إذ أعلنت عنها منظمة إرهابية وأخرجتها عن القانون، ولاحقت قادتها. رافق ذلك سلسلة خطوات عقابية ضد قطاع غزة وحركة حماس تشير إلى أن النظام المصري سيتعامل مع حماس بذات المنطق الذي طبقه على حركة الإخوان المسلمين.
ثالثا: فشل الجهود الأمريكية في الجسر على المواقف المتعارضة، بل على الهوة الكبيرة، في مواقف الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي في المفاوضات التي كرس وزير الخارجية الأمريكية وقتا وجهدا استثنائيين للخروج من استعصاءها والشلل الذي اعتراها. في هذا الإطار فإن حالة التشاؤم وانعدام الأمل بتجاوز العقبات الكبيرة أمام إحداث اختراق في هذا الملف شكلت الخلفية للهجمة الاسرائيلية، أذ تسعى حكومة نتنياهو إلى فرض أسس ومرتكزات التسوية التي تريدها على طرف فلسطيني ممزق ومهزوم سياسيا وعسكريا. تغيب في هذه الأجواء أية مبادرات جدية لتجاوز الشلل التفاوضي إذ من الواضح بأن أية مبادرة لن يكون لها نصيبها من النجاح حيث فشلت الدبلوماسية الأمريكية بما تملكه من قدرة التأثير على الأطراف.
(2) الأثمان المطلوبة والتهافت العربي
عمل نتنياهو على دحرجة هذا العدوان الشامل من نقطة المعارضة الشديدة لتشكيل حكومة التوافق الفلسطينية. في هذا السياق يتحمل العالم الغربي مسؤولية استثنائية في تمكين الحكومة الاسرائيلية من إطلاق هذه الحملة الإجرامية. بالرغم من إعلان القوى الغربية عن استعدادها للتعامل مع هذه الحكومة، لم تفعل واشنطن أو أي من العواصم الغربية ما يشير إلى رفضها لأية ممارسات قد تقوضها. فالإدارة الأمريكية تحديدا واجهت واقعا داخليا صعبا في هذا الشأن، حيث لجأت الحكومة الاسرائيلية (كعادتها في مواجهة الإدارة الأمريكية) إلى الاستقواء بالكونغرس بوجه موقف الإدارة ووزراة الخارجية الذين استقرا على استمرار العمل مع الحكومة الفلسطينية. في هذا السياق قدم 80 عضو من مجلس الشيوخ عريضة للرئيس الأمريكي لمنع المساعدات عن الحكومة الفلسطينية بسبب وجود حركة حماس فيها. وإذا قفزنا إلى الأمام زمنيا، تستمر هذه المواجهة في قرار بالإجماع صدر عن مجلس السيوخ يوم أمس الأول (17/7/2014) يعلن وقوف المجلس غير المشروط مع الحكومة الاسرائيلية في عدوانها على الشعب الفلسطيني. في قرار وصف بأنه يعبر عن الخضوع التام لمنظمة "إيباك" (زعيمة اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية) أعلن المجلس بأنه "مع إسرائيل في ذات الخندق".
فشلت الحكومة الاسرائيلية في حصار حكومة التوافق دبلومسيا، ولكن حلفاءها الأقوياء نجحوا في شل قدرة الحكومة الأمريكية على تأكيد موقفها من هذهه الحكومة. توجهت إسرائيل نحو تدمير حكومة التوافق على الأرض من خلال جباية الثمن عسكريا وأمنيا. إلى جانب ذلك عملت الحكومة الاسرائيلية على جباية الثمن من الإدارة الأمريكية بسبب موقفها من الحكومة الفلسطينية. في هذا السياق فإن أحد أهداف العداون الاسرائيلي هو إجبار الإدارة الأمريكية على تغيير سياستها ليس فقط في شأن المفاوضات، بل في قضايا أخرى استراتيجية في المنطقة يوجد حولها خلاف أمريكي اسرائيلي استراتيجي عميق. فتوجه الولايات المتحدة نحو الابتعاد عن التدخل المباشر في المفاوضات هو فقط أحد علامات الأزمة في العلاقة الأمريكية-الاسرائيلية التي يبدو عنوانها الأبرز هو العلاقة الشخصية المتدهورة بين نتنياهو وأوباما. فثمة خلاف حول الملف الننوي الإيراني، وحول سوريا، إلى جانب اتهام مسؤولين في الإدارة لإسرائيل بأنها تتحمل القسط الأوفر من فشل جهود كيري في الملف التفاوضي. إذن نتنياهو أراد أحراج وزج الإدارة الأمريكية في معادلة إقليمية تعقد حسابات الإدارة في كل هذه الملفات من خلال تفجير المنطقة بأسرها بدءا من قطاع غزة، وتغيير الأولويات الإقليمية للإدارة الأمريكية في ظل السياسة الخارجية الجديدة لهذه الإدارة والتي تقوم على التوجه نحو التركيز على اسيا على حساب الشرق الأوسط.
تستغل الحكومة الاسرائيلية كذلك رغبة الأطراف الإقليمية في تصفية حساباتها مع حركة حماس، وحالة الأزمة التي دخلتها حكومة التوافق بفعل عملية اختفاء المستوطنين الثلاثة، وموقف رئاسة السلطة الفلسطينية من هذه القضية، وأزمة رواتب موظفي قطاع غزة. وهذه الأخيرة لعبت فيها القوى الدولية دورا هاما لجهة امتناعها عن تقديم حلول توفر وسيلة لصرف هذه الرواتب بما يخلق عند حركة حماس والمواطن الفلسطيني في غزة انطباعا بوجود تغيير حقيقي في الحالة الراهنة. في هذا السياق لم تقدم الحكومات الغربية على ما من شأنه أن يَحمِل إسرائيل والنظام المصري على فتح معابر القطاع وأنهاء الحصار المفروض عليه من ثماني سنوات. التقت رغبة النظام المصري في إخضاع حركة حماس وقطع سبل استعادتها لدور سياسي فعال في المنطقة، مع مخطط نتنياهو لضرب قدرة الفلسطينيين السياسية على بناء إجماع وطني حاسم في مواجهة الحكومة الاسرائيلية.
مصر اليوم تصر على إخضاع حماس والمقاومة الفلسطينية في القطاع من خلال مبادرتها لوقف العدوان. مدعومة بموقف عربي، وبقبول فلسطيني رسمي، تصر الحكومة المصرية على عدم تغيير مبادرتها بما يكفل احترام شروط المقاومة والتي تشكل ليس فحسب انتصارا للمقاومة بل للموقف الفلسطيني برمته. فإذا كان هدف نتنياهو هو سحق الفلسطينيين سياسيا من خلال حملة هائلة كهذه، فإن الوصول إلى هدنة دون رفع الحصار عن غزة، ودون تراجع إسرائيل عن إجرائاتها العقابية الأخيرة في الضفة الغربية (بما في ذلك إطلاق سراح أسرى صفقة شاليط)، ودون إخضاع إسرائيل للمحاسبة على جرائمها، هو بمثابة هزيمة نكراء للفلسطينيين جميعا. تصر الحكومة المصرية على لسان وزير خارجيتها في تصريحاته أمس وأمس الأول على استخدام خطاب يشجع نتنياهو على الاستمرار في المجزرة بحق غزة. فالقول بأن المبادرة المصرية تهدف لوقف شلال الدماء - ويتساوق معها تصريحات فلسطينية تصر على اعتبار هذه المبادرة هي الوحيدة على الطاولة (مثل تصريح عزام الأحمد)، وأن المهم الان هو حقن الدماء الفلسطينية ثم بعد ذلك التفاوض على وضع القطاع (تصريحات رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس وياسر عبد ربه)- هذا القول هو بمثابة مقايضة الفلسطينيين دمهم بحقوقهم، ودعوة صريحة لإسرائيل لتدفيع حماس والمقاومة ثمن إصرارها على رفض مبادرة مهينة بقتل الأطفال والنساء وحرق غزة عن بكرة أبيها. هذا ما يمكن تسميته المتاجرة بالدم الفلسطيني. بات من الواضح بأن الرئيس محمود عباس يريد أن يجر المقاومة إلى نهجه: فاوض ثم فاوض ثم فاوض وأنت مجرد من من مقومات القوة.
ليس غريبا والحال هذه أن يتزامن مع هذه التصريحات إعلان نتنياهو بأنه سيعمل على توسيع الحملة في غزة وأن يجعل حماس تدفع ثمن رفضها لهدنة على أساس تفاهمات 2008 و 2012. يستند نتنياهو في ذلك إلى الموقفين المصري  (والعربي عموما) والرسمي الفلسطيني والذي برز تهافته في عدم الإصرار على استصدار قرار من مجلس الأمن الدولي يلزم إسرائيل بوقف عدوانها على الفلسطينيين، بل اكتفى بالمكالبة ببيان يعيد التأكيد على التفاهمات السابقة. وبلغت ذروة تهافته في الإصرار على اتهام حماس والمقاومة بالعناد وتحميلها -ضمنيا وصراحة- مسؤولية استمرار العدوان. إن هدنة على الطريقة المصرية تساوي القول بأن كل هذه الدماء الفلسطينية ستذهب هدرا، وسنعود إلى حيث بدأت كل مأساة قطاع غزة المحاصر. نتنياهو اليوم في أحسن حالاته السياسية، فهو يستمر في العدوان ويمتلك الجرأة والسند العربي والدولي لاتهام حماس والمقاومة بارتكاب جرائم حرب. كنت قد قلت في مقالة سابقة بأن قضية المستوطنين الثلاثة هي بمثابة 11 سبتمبر الخاص بنتنياهو. أعتذر، لقد أخطأت التقدير، فهي أكثر من ذلك بكثير. لم تحظ إسرائيل بمثل هذا الإسناد النوعي منذ إقامتها، وأحسب أن شارون لو بعث حيا لأحس بالغيرة من إنجازات نتنياهو، التي يهددها فقط حسابات الميدان، وتصاعد الاحتجاجات في الضفة المحتلة، والحملة الدولية المناهضة للعدوان.

*أستاذ السياسة الدولية والسياسات المقارنة، جامعة النجاح الوطنية