مدينة عكا في مواجهة عاصفة التهويد

بقلم: 

في تسابق مع الزمن تحاول المؤسسة الإسرائيلية تهويد آثار مدينة عكا، وفي الآونة الأخيرة عمدت وزارة السياحة الإسرائيلية إلى عرض خان المعمدان التاريخي في عكا للبيع من اجل بناء فندق عوضاً عنه. لقد مضى على احتلال مدينة عكا أكثر من خمسة وستين عاماً، تعرضت المدينة خلالها كغيرها من المدن والمناطق الفلسطينية لمحاولات إسرائيلية مبرمجة لتهويد ماتبقى من معالمها العربية، ناهيك عن السياسات الإسرائيلية المتبعة لتهجير سكانها العرب أصحاب الأرض الأصليين، ولم تكن الاعتداءات المتكررة التي حصلت في الآونة الأخيرة سوى سلسلة في إطار حلقات متصلة لجهة فرض الأمر الواقع التهويدي على المدينة، وفي هذا السياق يذكر أنه قد بقي في داخل المناطق التي أقيمت عليها إسرائيل في أيار من عام 1948 نحو 151 ألف عربي فلسطيني، تجمع القسم الأكبر في منطقة الجليل الفلسطيني ومنها مدينة عكا على الساحل الفلسطيني الجميل، حيث يقطن في مدينة عكا في العام الجاري 2013 حسب الدراسات المختلفة نحو 60 ألف نسمة، من بينهم 40 ألف مستوطن يهودي و20 ألف عربي، أي أن المدينة تعتبر مختلطة من حيث السكان العرب واليهود، ويتمركز العرب في عكا القديمة بنسبة تصل إلى 100 وخارج الأسوار في حي فولفسون بنسبة نحو 90 من الحي، ومركز عكا الجديدة بنسبة نحو 70 فيما يتمركز السكان اليهود في الحي الشرقي من عكا حيث موقع الأحداث الأخيرة بنسبة تصل إلى نحو 98 وفي شمال عكا بنسبة نحو 75 ورئيس بلدية عكا وغالبية مؤسساتها التابعة للحكومة هم من اليهود، لذا يعاني سكان عكا العرب من تمييز عنصري ضد الأقلية العربية بشكل عام ومن تمييز عنصري في المدينة بشكل خاص، الأمر الذي ادى إلى قلة عدد المدارس العربية واكتظاظها في المدينة والنوادي الخاصة بهم، ناهيك عن ضعف الخيارات للعربي بفعل سياسة الأسرلة المتبعة في المدينة والتي جعلت الأقلية العربية هامشية في المستوى الاجتماعي والاقتصادي ورغم التمييز العنصري الواضح ضد العرب في عكا بيد أن المتابع يشهد تقدماً ملحوظاً للعرب في المدينة على المستوى الاقتصادي، فمعظم المحال التجارية في عكا القديمة ومركز عكا هي للعرب، كماأن العرب في مدينة عكا حصلوا في السنتين الأخيرتين على معدل نتائج في امتحانات الثانوية العامة أعلى بـ 12 من الطلاب اليهود في المدينة وفي مواجهة الصمود العربي قامت السلطات الإسرائيلية باستجرار مجموعات المستوطنين للاعتداء على العرب في مدينة عكا بغية طردهم وإحلال اليهود محلهم للإخلال بالتوازن الديموغرافي وتهويد المدينة بشكل كامل في نهاية المطاف.
تعتبر مدينة عكا من أقدم المدن العربية الفلسطينية، حيث تأسست عكا على الساحل الفلسطيني الجميل على يد إحدى القبائل الكنعانية المعروفة بالجرجاشيين في الألف الثالثة قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام، وسميت المدينة عكو، أي الرمل الحار، وتقع عكا المدينة في الطرف الشمالي لخليج عكا، ويدل موقعها بين رأس الناقورة شمالاً وجبل الكرمل في وسط فلسطين على أهمية عامل الحماية واختيار الموقع، وأثرت هذه الصفة في البعد الاستراتيجي لموقع عكا منذ إنشائها، وتعتبر وظيفة عكا العسكرية من أهم وظائف المدينة التي تمتاز بها عن غيرها من مدن الساحل الفلسطيني الجميل، الذي يمتد لأكثر من مئتي كيلو متر من الشمال حتى جنوب فلسطين المحتلة، وتؤكد أسوار مدينة عكا وحصونها وقلاعها وأبراجها المحيطة بها من جهتي البر والبحر على الأهمية الدفاعية في وجه الطامعين من الأقوام المختل.
لقد كان الموقع الجغرافي الاستراتيجي لمدينة عكا مدخلاً لأطماع الغزاة، حيث تسابق على احتلالها غزاة كثر ورحلوا بسبب إرادة أهلها، بيد أن المدينة تعرضت خلال القرون الماضية لعمليات تدمير مبرمجة، ومن ثم إعادة ترميمها من جديد.
لقد امتزجت دماء شهداء أهل عكا بتربتها الغالية، وتاريخ أسوار عكا الشامخة التي تطل على البحر شاهد على نضالات أهلها ضد الغزو الصليبي، فضلاً عن كسر حصار نابليون بونابرت في القرن التاسع عشر الميلادي، لقد أعطى موقع عكا الاستراتيجي أبعاداً، أخرى لاتقل أهمية عن البعد العسكري، فعكا صلة الوصل بين أوروبا وفلسطين، ونقطة تجمع الحجاج المسيحيين إلى الأرض المقدسة، وقد أقيم فيها في أيام ظاهر العمر والجزار خانات متعددة كان ينزلها المسافرون والتجار والقوافل المتعددة التي تحمل خيرات البلاد لتنقلها السفن إلى دول العالم، ومن أشهر تلك الخانات خان الجزّار وخان الشونة، ومن خلال سهل عكا كان أهلها يتمتعون بغلة زراعية وفيرة مثل الحبوب وأشجار الزيتون والخضار والموز والنخيل، وبفعل العوامل المختلفة التي تمتعت بها مدينة عكا في الجليل الغربي الفلسطيني باتت المدينة محط أنظار الغزاة الصليبيين، حيث سعوا لحماية نفوذهم في فلسطين في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي من خلال محاولة الاستيلاء على الموانئ في الساحل الفلسطيني، ففي عام 496 هجري الموافق لعام 1102 ميلادي أسرت السفن الفاطمية في ميناء عكا سفناً، فخشي ملك بيت المقدس من سوء العاقبة، وحاصر مدينة عكا في العام التالي، فأنجدتها السفن الفاطمية عبر نجدات من الموانئ المجاورة وقد ساعدها في الصمود تحصينات المدينة الجيدة، فعاد جيش الملك أدراجه مهزوماً بعد حصار لم يدم طويلاً لعكا، لكن الملك استنجد بأسطول مدينتي بيزا وجنوا، فاحتلت الأساطيل الصليبية بعد اتفاق مع الملك ساحل جبيل ثم حاصرت مدينة عكا لمدة عشرين يوماً بعد صمود مشهود له في التاريخ إلى أن سقطت في عام 497 هجري الموافق لعام 1104 ميلادي وتوالت الاحتلالات على المدينة نتيجة موقعها الاستراتيجي، لكن عكا بأسوارها بلغت مجداً عالياً من الصمود خلال حصار نابليون لها في عام 1214 هجري الموافق لعام 1799 ميلادي، حيث أوقف صمود أهل المدينة ومنعة الأسوار حولها تقدم جيش نابليون، بعد أن احتل مصر وسواحل فلسطين الأخرى وتشير الدراسات التاريخية إلى أن حصار جيش نابليون البحري والبري لمدينة عكا وهجومه العنيف على الأسوار استمر من الحادي عشر من آذار من العام المشار إليه وحتى العشرين من أيار من العام نفسه وتقهقر جيش نابليون بعد ذلك بفعل صمود أهل المدينة بقيادة الجزار من جهة ومساعدة الأسطول الإنكليزي بقيادة (السير سدني سميث) من جهة أخرى حيث كان هناك تناحر بين الإنكليز والفرنسيين للسيطرة على بقاع الأرض والمناطق الهامة.. وبعد هذه المعركة انتهت أحلام نابليون دون عودة في محاولات السيطرة على الشرق.
ومن الأهمية الإشارة إلى أن سليمان باشا العادل قد خلف الجزار في حكم مدينة عكا، وقام بإعادة ترميم ما دمرته آلة جيش نابليون بونابرت، وخاصة الأسوار المنيعة والحصون المختلفة، ومن جديد استطاعت بريطانيا عبر نفوذها وانتدابها على فلسطين خلال الفترة الممتدة من عام 1922 إلى أيار من عام 1948 مساعدة العصابات الصهيونية في السيطرة على الساحل الفلسطيني ومنها مدينة عكا، حيث تم طرد غالبية قرى أهالي القضاء خلال نكبة فلسطين الكبرى في أيار من العام المذكور، فتناقص مجموع سكان مدينة عكا من العرب أصحابها الأصليين ليصبح نحو ثلاثة آلاف بعد النكبة مباشرة، وارتفع إلى نحو خمسة آلاف في عام 1965 وبفعل سياسات الإجلاء الإسرائيلية القسرية بقي مجموع العرب ثابتاً في مدينة عكا حتى عام 1973، مالبث بالزيادة بفعل الخصوبة العالية، حتى وصل مجموعهم إلى نحو عشرين ألف عربي في العام الحالي 20 ألف عربي .
ولحماية عروبة مدينة عكا والتواجد العربي فيها لابد من دعم عربي سياسي ومادي لتثبيت العكيين في أرضهم لمواجهة أفكار يهودية الدولة ومحاولات الترانسفير المحتملة.
المستقبل