‘إلى فلسطين’خذوني معكم’

بقلم: 

اتبعوا صوت الزغاريد وارقصوا مع الراقصين في ساحات فلسطين الدامية. ليكن اليوم يوم فرح كبير، فيكفيه غدنا ما ستسقطه عليه سماء الشرق وغيومها الحبلى بالوجع.
البعض يحترف لعبة الندّابات، يحسب أن الخدود لا تليق إلا للّطم، ولا تكون الدموع إلا رسائل وداعات وحسرة. آخرون لا يجيدون إلا ‘البسبسة’ تُردف وراء كل إشادة، فتفسد ما كاد يصير شهيقا يملأ الفضاء رضا.
ولكن، هنا في أحضان سيّدات الساعة، تشرق المفارقة وتضع شفرتها الحقيقة؛ حفنة من صاحبات الصبر ينفجرن فيصرن أنهرا من شوق يتلوّى وحنينا يتطاير. أمّهات، زوجات، أخوات، بنات وحفيدات ملأن الفجر بأسطع دليل أن لا ظلم باقيا، وأن الأمل في فلسطين يكبر حتى في العتمة.
ستة وعشرون رجلا ضحّوا بربيع أعمارهم ثمن الارتجال الفلسطيني، وربما من طيبة آباء موروثة عن الأجداد آمنوا بحسن النوايا، واستأمنوا النوم بحضن ‘ابن العم’، اندفعوا إلى بحر من حب وشوق، وغرقوا في لجّةٍ من عناقات وقبل. لم يحفلوا بما أعدّه ‘البروتوكوليون’، فهم يدرون مَن كان وراء الحكاية، ومن على رذاذها يحيا.
في مثل هذه الليالي تتخلّى فلسطين عن’أسمالها فتبدو كتلك السيّدة بكامل مشمشها، وتجيد لعبة العشق المشتهى. يزدحم المشهد ويتدافع ‘العشاق’؛ من آمن منهم بصدق رئاسة وقيادة، ومن راهن على خيبة أولئك، ومن شكّك في حسن النوايا وصفاء العزيمة، كلّهم هناك على منصة الوهم يذكرون بصدق التجربة، فمن ذا الذي قال إن ‘كلّ ليالي العاشقين ذنوب’؟’
ربع قرن مضى. تغيّر ما تغيّر إلا حلمهم والصورة الأخيرة للهفة حبيب وحبيبة تودّعهم قبل أن يطبق ليل الزنازين عتمته. بعضهم فقد صاحب/ة تلك النظرة، وبعضهم ربّاها وردة صارت في مخيّلته بساتين ورود. لن تكون كلّ أيّامهم الآتية راحة ونغمًا، فهم كمن ولدوا من جديد وفلسطين كما كانت بقيت؛ أرض الأرق وأرض العرق وميدان رعد وبرق. هلا سمعتم ما قالته أنجم ليلكم الحر وقمره: نالوا من ليلة الفرح هذه أيّها العائدون إلى الوجع ما أنتم جديرون له وبه، وأعدوا العدّة لما ستجود به سماء فلسطين التي غيمها من غضب!
من وطنكم انتُـزعتم، وإليه تعودون اليوم. ستجدونه، في أوّل الحب، كما كان. ربما ستلحظون أنّه انكمش قليلا وصار في بعض المواضع أخشن، فلا بأس، وربما لن تجدوا نبعة الماء التي عند أعتابها أضاعتكم ضفيرة ابنة الغنج السمراء. لا تسألوا عن ذلك البلبل الذي استوطن ‘شجرة التوت الكبيرة في ساحة الدار لأننا لن نقول لكم إن العنادل أخلت فضاءنا بعدما كثر الغراب فيها وملأها البوم. 
ناموا قليلا واستريحوا قبل زيارات الوفاء والواجب، فأحبّة رحلوا وسكنوا أحلامكم -غصّة ودمعة- حافظنا عليهم وعلى حرماتهم في المقابر. لا تسألونا عن كيف ولماذا؟ بعضهم على حد السيف قاوم وارتقى، وبعضهم برسم العزة والدم والقبيلة.’ 
ستجوبون شوارع القرية التي تعرفونها. ثلاثون عاما مضت وقريتكم الحبيبة حافظت على ترابها وقماشها وكتابها. لا تطمعوا بمثل رحلة الشوق الشقية. لم تعودوا شبابا كما كنتم تلاحقون الفراش حتى التعب. ‘صلعة الجبل’ التي تحت أشجارها غفوتم وصرتم رجالا سكنتها بعض الأشباح المتمرّدة؛ ‘شباب الهضاب’ اسمهم،’يظهرون ‘لنا بالنهار كاللعنة، وأحيانًا يضيء ليلنا أزيزُ رصاصهم. أشاعوا قبل مجيئكم أن أسماءكم معهم، وأنهم سيثأرون منكم، لذلك لن تصلوا إلى ذلك الكرم الذي على ‘صلعة الجبل’، واكتفوا بعالمكم الجديد الأوسع من سجن.’
صلّوا في جامع القرية. كل المصلّين إخوان. لا تصدّقوا ما كانت إسرائيل الخبيثة تبثه بينكم، فهنا نحن عائلة فلسطينية واحدة لا حمائل ولا قبائل ولا فصائل. قلّة من حديد، وحدة واحدة لن تفرقنا راية ولا لحم ولا قذيفة أو شاعر. ارضوا بجامعنا المبارك ولا تلحّوا على سور وبوابة وقبّة. القدس مشروع مؤجل. لا تقنطوا، فالحجة لمكّة ستكون أسهل من زيارة لباب العمود أو قراءة ‘الفاتحة على روح حبيبكم ‘فيصل’. لا تكثروا من الأسئلة عمّا جرى للقدس وفي القدس. بعض الحكايا التي سرّبت، طمأنتنا أن الملائكة ‘سرقت’ القدس وغطّتها فخبّأتها عن عين العدو، لذلك حتى لو تسلّلتم إليها لن تجدوها.
لا تبالغوا. لقد لحقت يافا بأخواتها وصار العرب فيها أغرابا. لا شيء لكم في يافا ولا على شاطئها. صارت مدينة لأهل الفن والمال الوارد من دولٍ يهودها يعشقون رملها وشمسها. ‘
كم من هذا الليل حملتم على أكتافكم؟ 
كم حلم لكم نام على ذلك البرش اللعين ولم يفق؟
كم عصفورة تمنيتم عليها أن تنقل قبلة لجبين أم حنى الدهر ظهرها؟ أو حبيب وحبيبة انتظروا هذه اللحظة واحتضان الوعد والأمل.
لا تتعبوا وراء العبث والمستحيل، كفاكم ما أعطيتم وما تحمّلتم. في فلسطين ما زال خير كثير وحقول تنتظر حرثكم وزرعكم لتمتلئ سنابل. اتركوا الخنادق وعيشوا على قمم الأشجار وضفاف الجداول. اكسروا دروع السلاحف وصيروا كما حلمتم نسورا في سماء فلسطين وهي التي مع ‘أمثالكم تنام وتصرّ أن تصحو.
لا’تسألوا عن فلسطين الداخل. وشت الرواية أن ملائكة، إخوة لملائكة القدس، جاءوها خلسة وسرقوها، خبّأوها وأبعدوها عن عين العدو، ‘فإن جئتم إليها جهارا، أو تسلّلتم خلسة، لن تجدوها فهي في عهدة ومأمن الله.
اتركوكم من هذه الرواية. اليوم يوم فرح كبير! وهل هناك أكبر من فرح الولادة إلا فرح الحرية، فعيشوا في ظلّها كرامًا عزازًا.’

المصدر: 
القدس العربي