وطنٌ.. شيخٌ ومطران

بقلم: 

لا أعرف كم من القراء يعرف قريتي التي كنت أحبها حبا خاصا. ‘كفرياسيف’ لم تكن مرجا للوداعة العذراء فقط، بل حصنا إليه أوى الشعراء، ودفيئة على ترابها عرف الفخار عزا. جاءها الحالمون سجناء فلامس ‘راشدوهم’ في ساحة عينها ناصية الشمس، وتواعدوا أن يأتوها طلقاء. قريتي كانت رأس حربة وخصر وطن، وهي التي أغوت ‘جهينة’ فصرخ ‘حبيبها’: ‘تكفرسوا يا عرب’.

إلى كفرياسيف تلك أخذني الحنين وأنا أقرأ ‘توبيخ’ النائب إبراهيم صرصور لصديقه وأخيه المطران عطا الله حنا، صديقه ‘المسيحي المشرقي’، كما وصفه. جاء البيان الشديد اللهجة، كما يؤكد النائب،’بعد أن ‘صبر على المطران حنا وتفهم مواقفه إزاء ما يحدث في سورية، فالقضية فيها معقدة، وخلفت حولها وجهات نظر متضاربة، وانقسمت بسببها دول بحالها، لهذا تفهم النائبُ المطرانَ، إلى أن تجاوز الأخير حدودَه ووقف مع من هم ضد الرئيس المصري المخلوع ‘محمد مرسي، ولذلك ‘صدمتُ كثيرا من أعماق روحي حينما قرأت تصريحه بخصوص مذابح السيسي في مصر، التي كشفت جانبا ما كنت أتمناه لسيادته أن يقع في مستنقعه، وهو ما هو عليه من المكانة الدينية والوطنية التي من المفروض أن تكون جامعة لأسباب كثيرة من بين أهمها، كونه قيادة مسيحية مشرقية يجب أن يتفكر كثيرا قبل الخوض في قضايا لها صبغتها الإسلامية المحضة’.

مواقف السيدين السياسية من تلك الأحداث وغيرها لا تعنيني هنا، أما وصف النائب لموقف المطران بأنه وقوع في ‘مستنقع′ فهي لغةٌ كان الأجدر بالشيخ لو نأى بنفسه عنها، وهو الذي شهد على احترامه لسيادة المطران أولا وكرجل دين يفتش عما يجمع بين أبناء الشعب الواحد والوطن.

تبقى تلك مسألة جانبية مقارنة بالأهم بنظري، وهو ما يؤمن به النائب ومثله كثيرون، بأن على المطران عطا الله ولأنه ‘مسيحي مشرقي’ أن يحذر من التدخل في شؤون لها ‘صبغتها الإسلامية المحضة’. بكلام خال من فذلكة الساسة، بسيط ومفهوم، ‘يقول النائب المسلم: ‘ما شأنك أنت أيها المسيحي وقضايا الأمة الإسلامية، احذر لا تقترب!’.

لست معنيا ولا مكلفا بالدفاع عن أي موقف يتخذه المطران، ولست بناطق باسم فئة ‘مسيحية’ أو ‘مسلمة’، لكنني أثرتُ هذه القضية المهمة الواردة في بيان النائب إبراهيم، لأن كثيرين، مسلمين ومسيحيين، يؤمنون بها وأنا لا أتفق معهم.’

قبل عامين دفعت ثمن السكوت عن موقف قريب، فبعد أن قرر نفرٌ من عناصر ‘هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر’ أنهم يملكون حق لف الأحزمة على حريتي بالتعبير، وبمحاولة لإخافتي وإخراس قلمي أصدروا بيانا وقعوه متخفين باسم ‘شباب الجامع′ في القرية، وبمظاهرة استفزازية جابوا شوارعها ووزعوه جماعة. جاء البيان مليئا بالتحريض على شخصي ودعوة للتعرض لي،’طافحا بعبارات التهييج الطائفي والتحريب الديني.

في”كفرياسيف’، حيث يعيش مسيحيون، مسلمون ودروز، كما عاشوا لقرون بوئام وسلام، كان الحدث سابقة خطيرة ومؤشرا على أي حضيض وصلت إليه فضاءات قرانا. بعض المغرضين من جميع الطوائف كانت لهم مصلحة مباشرة بتجنيد البيان لاستقدام فتنة مسمومة. عدد من الرفاق والإخوة عبروا عن رفضهم لما جاء فيه وطالبوني بعدم الرد على المحرضين. شخصيات قيادية وعدت بالتعرض للبيان فالرد من مسلمين سيكون أوقع وأنسب وأسلم. لم أقبل في حينه ما سيق من تبريرات لكنني رضخت لمطلبهم منتظرا مجيء الرد. ‘

لم يرد أحد على ذلك البيان. قيل لي إن أولئك هم بمثابة نفر يقع على هامش الحدث والأحداث. لم أوافقهم في حينه ولا أوافقهم اليوم، فلقد آمنت، كي لا يبقى الصوت صدى لصحارى الربع الخالي، على من يسمعه أن يرد، لا أن يصم أذنيه. في الأمس حاول من حاول كتم صوتي واليوم يحسب الشيخ إبراهيم ألا دخل لمطران عربي بما يجري في مصر فهذا شأن للمسلمين وأولى بالمسيحيين المشرقيين الصمت، كما يليق بأهل ذمة.’

على الرغم من تباين الموقف بين ذلك البيان التحريضي المباشر، وبيان الشيخ إبراهيم الموبخ، أرى أن الفكر الذي يؤسس للموقفين واحد؛ استئثار بالحقيقة ‘المنزهة’ والحكم على الآخر بكونه خاطئا ‘أو ربما عاصيا.

من يراقب ما يجري في ديارنا يلحظ هذه التداعيات، ولذلك آمنت حينها وما زلت أومن أن’فرض الرأي غير مقبول. الصمت على من يدعو لفرقة وإلغاء الآخر يعبد طريق الفتنة ويسوغ للعابثين من المعسكرالآخر أن يعمقوا الهوة، متسترين بذودهم عن صليب ودين. محرض برد على محرض والأبرياء يدفعون الثمن.’

حق عطا الله حنا أن يحب من يشاء بمصر وسورية،’شريطة أن لا يفعل ذلك باسم الدين والمسيحية، وللنائب في الكنيست الإسرائيلي حق مشابه ومساو له بالجوهر. حق المطران عطا الله حنا أن يصلي بكنائس مستشفعا بمن صلب وقبر وقام في اليوم الثالث، وحق الشيخ إبراهيم أن يصلي في الجوامع ويدعو للرسول الكريم أن ينصر الإسلام والمسلمين. واجبهما أن يصونا الكنائس والجوامع معا. نحن العباد نصلي لتعود ‘كفرياسيفاتنا’ كما تمنى لها ‘إميل’ وشهد حسين الراشد قبل نصف قرن وصرخ:

يا كفر ياسيفَ أردْتِ لقاءَنَا فتوافَدَت للقائِكِ الشعراءُ

لن تُرجعَ الأمنَ الشهيدَ سياسةٌ فيها التعقلُ والجنون سواءُ’.

فهذه بلادنا التي من أجلها نحن البشر صلينا وسنصلي وندعو أن لا تدخلونا في تجربة عسانا ننجو من الشرير.

المصدر: 
القدس العربي