كيري والالتفاف حول الألغام

بقلم: 

 

منذ جولات وزير الخارجية الأكثر شهرة في تاريخ الدبلوماسية الأمريكية هنري كيسنجر إلى المنطقة العربية في سبعينات القرن الماضي، والتي أنجبت اتفاقيات “كامب ديفيد”، تعاقب على الخارجية الأمريكية نحو 13 وزيراً حاولوا هندسة تسوية ما للقضية الفلسطينية، ووضع حد نهائي للصراع العربي- “الإسرائيلي” . وخلال كل تلك المحاولات، كانت العقبة الرئيسية، إضافة إلى قضيتي القدس واللاجئين، قضية الاستيطان الصهيوني في الأراضي المحتلة عام 1967 حيث سطا الاحتلال على أكثر من أربعة ملايين دونم من أخصب الأراضي الزراعية الفلسطينية، وأقام عليها المستوطنات وجدار الضم والتوسع العنصري . واليوم، يحاول وزير الخارجية الأمريكي الحالي جون كيري استنساخ دبلوماسية كيسنجر المكوكية، ولكن مع فارق تراجع منسوب القدرة والتأثير الأمريكيين بعد حرب العراق التي تكبدت فيها الولايات المتحدة خسائر فادحة؛ بشرية تمثلت بنحو ستة آلاف قتيل و40 ألف جريح، ومادية قُدّرت بنحو 5 .1 تريليون دولار أمريكي، وانعدام اليقين حيال مآل ما يسمى “الربيع العربي” الذي شرع الأبواب على مختلف الاحتمالات، وصدَع متن وهوامش المخططات المرسومة والنظريات والأيديولوجيات لسنين، وربما لعقود مقبلة .

وعلى غرار ما تحقق من اختراقات، نوعية ومحدودة، فرضتها المتغيرات الإقليمية والدولية التي شهدها العالم منذ بداية تسعينات القرن الماضي، على يدي بعض أسلافه، تمكَن كيري، في جولته السادسة والأخيرة إلى المنطقة، من التوصل إلى اتفاق، غامض وملتبس و”حمال أوجه” رفض الحديث عن أي من تفصيلاته، مع الفلسطينيين و”الإسرائيليين” يضع أساسا لاستئناف المفاوضات المباشرة المتوقفة منذ ثلاث سنوات، ما يرجح أن عملية الالتفاف على العقبات المتراكمة، وعلى التباين في مواقف الجانبين، لوضع أساس المفاوضات، تتضمن تقديم تعهدات أمريكية مختلفة للطرفين، الفلسطيني و”الإسرائيلي”، تشبه ما فعلته إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش الأب خلال مؤتمر مدريد في العام ،1991 عندما تعهدت للفلسطينيين بمعارضة النشاط الاستيطاني في الأراضي المحتلة عام ،1967 ول”الإسرائيليين” بمعارضة إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وفي الوقت نفسه، عدم دعم استمرار السيطرة الصهيونية على الأراضي الفلسطينية المحتلة أو ضمها إليها .

على هذه الأرضية، واستناداً إلى رزمة من التسريبات والتقديرات، فإن العرض الأمريكي المستند إلى محاور رئيسية ثلاثة، سياسية وأمنية واقتصادية، يشتمل على التالي: استئناف المحادثات السياسية على أساس خطابات الرئيس باراك أوباما من دون ذكر حدود عام 67 مباشرة التي أشار إليها أوباما، مع تبادل مناطق “ربما” تأخذ بعين الاعتبار الواقع الذي نشأ في الضفة الغربية، أي وجود الكتل الاستيطانية الكبيرة، كما صرح كيري أكثر من مرة، وإطلاق سراح عشرات الأسرى الفلسطينيين، بينهم بعض الأسرى القدامى، على دفعات، والسماح للفلسطينيين بالبناء في عدة مناطق قريبة من مدن فلسطينية رئيسية في المنطقة المصنفة “ج”، إضافة إلى إقامة مشاريع اقتصادية في الأغوار وفي منطقة جنين شمال الضفة الغربية، وفتح حواجز عسكرية وطرقات لتسهيل حركة الفلسطينيين . وذلك في مقابل التزام السلطة الفلسطينية بإجراء “مفاوضات جدية” لمدة تسعة شهور على الأقل، وعدم العمل ضد “إسرائيل” في الساحة الدولية خلال هذه الفترة . أما بخصوص الاستيطان، فثمة ضبابية تكتنف التفاهم بشأن مستقبله، وهل سيجري تجميده أثناء فترة المفاوضات، أو لمدة ثلاثة أشهر، كما تسرَب بعض الأوساط الفلسطينية، أم أن هذه القضية “ليست على جدول الأعمال”، كما يؤكد وزير الشؤون الاستراتيجية والاستخبارات “الإسرائيلي” يوفال شطاينتس؟!

في كل الأحوال، وبصرف النظر عن مدى دقة المعلومات المتعلقة بالعناوين والتفاصيل التي استهلكت وقتا وجهدا وافرا من كيري لبناء أساس للمفاوضات يعلم الوزير الأمريكي، قبل غيره، أنه هش وغير قابل للصمود طويلا، فإن إصرار واشنطن على انتزاع قرار فلسطيني- “إسرائيلي”، وبمظلة عربية (وفد الجامعة العربية) وأخرى أوروبية (قرار الفصل الاقتصادي الأوروبي بين “إسرائيل” ومستوطناتها)، يحيل إلى طيف واسع من التساؤلات حول مغزى وأهداف هذا الحراك الأمريكي الذي جرى تعزيزه، ووفق ما أفادت بعض المصادر “الإسرائيلية”، ب”تهديد” الرئيس أبو مازن بتحميله مسؤولية فشل العملية السياسية، في حال بقي مصرا على الشروط المسبقة للعودة إلى المفاوضات، وهو ما يعني أيضاً قطع المساعدات الأمريكية عن السلطة، وتذكير نتانياهو بمصير حكومة إسحق شامير في العام ،1992 وبمصير حكومته هو في العام 1999 .

ربما لا جديد في القول إن مفتاح الولوج إلى جميع الملفات المفتوحة على مصراعيها في المنطقة العربية هو القضية الفلسطينية والصراع العربي- الصهيوني الذي ينبغي الإيحاء للشعوب العربية بأنه وضع على سكة المفاوضات، وأن ثمة رغبة أكيدة لدى الإدارة في تحقيق انجاز ما تستطيع، بعد تضخيمه وتجميله إعلاميا، تقديمه إلى الداخل الأمريكي كاختراق مهم للوضع القائم، وفي إبقاء الملف الفلسطيني بعيدا عن الأمم المتحدة وهيئاتها منعاً لمكاسب دولية جديدة يمكن أن يحققها الفلسطينيون، وتجنباً لتكرار الموقف المحرج الذي وجدت نفسها معزولة فيه حين صوتت غالبية كبيرة من دول العالم لمصلحة فلصسطين ضد إرادتها وتصويتها . غير أن الأكثر أهمية من كل ما سبق هو أن “إسرائيل”، وتحت ظلال غموض الاتفاق على أساس استئناف المفاوضات والتباساته، ستواصل الضرب في كل الاتجاهات: إقرار بناء وحدات استيطانية جديدة، وتهجير بدو النقب عن قراهم والاستيلاء على عشرات آلاف الدونمات من أراضيهم، وإقرار المزيد من القوانين العنصرية التي تضيّق على أصحاب الأرض في مناطق ،1948 وتزيد من التعدي على حقوقهم وحرياتهم وتوسع فجوة اللامساواة ضدهم كمواطنين أصيلين على أرضهم .

المصدر: 
الخليج