نحو رؤية وطنية جديدة .... أسئلة قلقه في الحالة الفلسطينية

بقلم: 

في الوقت الذي بدأت  تنتشر فيه قيم الديمقراطية في البلدان العربية تحت ضغط الجماهير، وحالة الفوضى التي تعيشها المنطقة بفعل تعقيدات التحول الديمقراطي وإشكالياته في البلدان العربية وانشغال العرب ومن خلفهم العالم بالمتغيرات التي تحصل، وتراجع القضية الفلسطينية في الأجندات الإقليمية و الدولية، يعيش الوضع الفلسطيني أزمات متعددة و متشابكة،  فبعد أكثر من أربعة عقود على تأسيسه يعيش المشروع الوطني مأزقا حقيقيا، بل تهديدا مصيريا، ليس بفعل طبيعة الصراع مع الإحتلال الإسرائيلي وجوهر حركته الصهيونية وأهدافها فقط، بل بسبب تحديات من داخل الحالة السياسية الفلسطينية ومن داخل المشروع الوطني ذاته. أن يأتي الخطر والتهديد من إسرائيل وسياستها الاستعمارية والاستيطانية أمر مفهوم لان إسرائيل تدرك بأن إنجاز المشروع الوطني على أرض فلسطين سيكون على حساب المشروع الصهيوني وتطلعاته التوسعية، لكن ما لا يقل خطورة عن ذلك هو التدمير الذاتي للمشروع الوطني الذي تمارسه القوى و الفصائل الفلسطينية.

  مرت أكثر من ست سنوات عجاف على الشعب الفلسطيني منذ سيطرت حركة حماس على قطاع غزة الأمر الذي أدى إلى  حدوث انقسام سياسي إداري  وظيفي في بنية النظام السياسي الفلسطيني، مست وحدة التمثيل السياسي للفلسطينيين، رافقته انتهاكات في مختلف المجالات، تضررت فيه الحريات العامة والخاصة وإغلاق المؤسسات الوطنية. وكان للمرأة الفلسطينية نصيبا كبيرا من الانتهاكات، لتتضح مدى خطورة الأجندة الاجتماعية التي مورست في القطاع. إن الاعتقالات السياسية التي مورست في قطاع غزة والضفة الغربية أحدثت خسائر معنوية كبيرة  بين الفلسطينيين وشكلت صدمة لدى العديد من أصدقاء الشعب الفلسطيني الذي كان مثالا للتضحية والنضال وممارسة الديمقراطية عبر تعددية فكرية سياسية احترمها العالم وقدرها، شكلت منظمة التحرير الفلسطينية وعاءها ومجالها النضالي التعددي بامتياز، وكان للمثقفين الفلسطينيين إسهامات ودور محوري هام في صياغة ثقافة منفتحة على الثقافات العربية والإسلامية والعالمية،  خلقت فضاءات متعددة ساهمت في نشر البعد الإنساني السياسي للفلسطينيين في كل أنحاء العالم. وحققت تاريخا حافلا بالعطاء والإيداع. إن قيم الثورة الفلسطينية المعاصرة بما تحمله من مبادئ، هي قيم العدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية واحترام التعددية السياسية والفكرية، والحريات العامة والمرأة بقبولها شريكة للرجل في النضال التحرري والاجتماعي، كل هذه القيم والمبادئ، هي التي حركت الشعوب العربية ضد الظلم والاضطهاد. في البدء كانت ثورة تونس المجيدة و تلتها ثورة مصر، ثم انفتحت المنطقة العربية ومازالت إرهاصات التحول الديمقراطي تسير وإن بخطى متعثرة، إلا أنها  انكشفت أمام تطلعات الشباب واستمرت  الثورات الاجتماعية  بمضامين سياسية واضحة عنوانها إسقاط النظم الفاسدة و تحقيق العدالة الاجتماعية.

تثار أسئلة كثيرة حول الوضع الفلسطيني بشكل خاص، و الوضع العربي بشكل عام، تتطلب الإجابة عليها مشاركة الجميع من النخب السياسية و المثقفين، تتطلب جهدا فكريا تنظيريا، الجميع مطالب بالمشاركة فيه، أسئلة كثيرة يطرحها الواقع الفلسطيني وتستدعي الإجابة عليها دون  إبطاء أو تأخير، فالوقت ليس في صالحنا، لدينا من الإمكانيات والكفاءات الفلسطينية ما يؤهلنا للإجابة على جميع الأسئلة، فالمشروع الوطني الفلسطيني بحاجة ماسة إلى صياغة جديدة تنقل الفلسطينيين إلى المستقبل، تعطيهم الأمل في الحياة وفي جدوى نضالنا التحرري الطويل و المرير، أسئلة كثيرة تحتاج إلى عقل منفتح و جرأة في الخوض فيها بدون خوف أو هواجس، تستند إلى وعي الشعب وحاجاته وتطلعاته لاستعادة دوره، تستدعي نهوضا شعبيا كبيرا متوازنا ومسؤولا، فهل يعقل أن نقف عند حدود البرنامج المرحلي للنضال الفلسطيني التحرري الذي صيغ منذ أكثر من خمسة و أربعين عاما؟! هل حل الدولتين مازال يشكل الحل الممكن المتاح في هذه المرحلة، أم أن تعقيدات و الظروف الحالة العربية و الفلسطينية أخرجته من الممكن إلى غير الممكن؟! وهل آن الآوان للتفكير بالذهاب إلى حل الدولة الواحدة كخيار، ضمن تعقيدات لا حصر لها  يصعب قياسها ضمن مفهومي الممكن المتاح وغير الممكن؟! لقد آن الآوان لإعادة نبش الفكر السياسي الفلسطيني، بما يحمله من برامج وسياسات. لا بد من وقفة مع التاريخ الفلسطيني المعاصر، أين أخطأنا و أين أصبنا، نرتكز خلالها على الإنجازات العظيمة التى حققناها، ونستفيد من الأخطاء على صعيد السياسة العامة، وفي مجالات الوضع الداخلي للحركة السياسية الفلسطينية، والنظام السياسي الوليد الذي أسسناه ،  ما هو الهدف الذي يوحد الفلسطينيين الآن؟ هل نحن بحاجة إلى تطوير منظمة التحرير الفلسطينية، أم بحاجة إلى صوغ إطار جمعي جديد قائم على مبادئ معاصرة ومفاهيم جديدة تؤسس لخطاب حضاري كفاحي واضح يستوعبه شعبنا ويقبله العالم؟ هل العلاقة بين م ت ف والسلطة الوطنية الفلسطينية علاقة تكاملية تشكل فيه السلطة جسرا يضفي إلى الدولة الفلسطينية الناجزة، أم السلطة وضعت نفسها في تعارض وفي موقع إحتواء لدور منظمة التحرير؟ وهل عكس ذلك وأثر على وحدة الفلسطينيين وأمنهم في الداخل و الشتات و مناطق 48 بعد أن أصبح فلسطينيو الشتات غير آمنين حتى في منافيهم؟ ماهي السبل لإحداث عملية اختراق حقيقية وبأدوات فلسطينية خالصة لاستعادة الحياة الديمقراطية في أراضي السلطة الفلسطينية وإعادة ربط قطاع غزة بالمشروع الوطني الفلسطيني، بعد سيناريوهات عزله وربطه بمصر أو بمشروع وهمي تسعى حركة حماس إليه ؟ ما هي رؤية الفلسطينيين للإسلام السياسي ودوره في النضال التحرري وبناء المجتمع، وأي حركة إسلامية نحتاج، هل هي بمضامين  وطنية تنويرية  مدنية ديمقراطية أم بقاء الصورة على حالها، على شاكلة نظم الحكم العربية التي كانت سائدة ولا زالت "وهذا درس بالغ الدلالة"، وبأجندات مرتبكة تلقي بظلالها على كاهل المواطنين وبإجراءات شديدة الوطأة، وتحرف نضالنا الوطني وهدف الفلسطينيين الأسمى المتمثل في  التحرر و الانعتاق وبناء الدولة المستقلة بفضاءات عصرية تحترم التعدد وتستند إلى إرادة شعبية حقيقية وإلى مؤسسات قوية بمواصفات عصرية،  يحتكم  الفلسطينيون إليها وتنهي اجتهاداتهم وخلافاتهم بشكل ديمقراطي تستند إلى الدستور والقوانيين الفلسطينية، كيف نؤسس مجتمعا معافى خال من الجريمة و الأحقاد بعيدا عن التجاذبات السياسية والمناطقية والعشائرية؟  أي مفاوضات نريد؟ و ما هي مرجعياتها وأي مقاومة نريد؟ ومتى نفاوض ومتى نقاوم بشكل مجدي ضمن هدف سياسي محدد؟ وأخيرا كيف ننهض بدور الحركة الوطنية الفلسطينية، وأي حركة سياسية يحتاج شعبنا؟ و ما هي المضامين الفكرية والسياسية لهذه الحركة ؟

أسئلة كبيرة وصعبة تحتاج إلى جهد جمعي ونشاط فكري من مختلف النخب الفلسطينية، وطنيين ويساريين وإسلاميين وهي دعوة للنقاش والحوار، ضمن جهد فردي و جماعي واع، لاشك أن هناك محاولات جريئة تمت من قبل الكثير من المثقفين الفلسطينيين للإجابة على هذه الأسئلة، ولكنها محاولات بقيت متفرقة لم توضع في إطار شامل متكامل، إلى جانب أنها لم تنتقل إلى مستويات النخب السياسية الحزبية وغير الحزبية، التي في مستوى صنع القرار، فهذا الجدل والجهد يبقى ناقصا ما لم يصل إلى مستويات صنع القرار السياسي الفلسطيني في الفصائل ومنظمة التحرير ومؤسساتها، والسلطة الفلسطينية.

تقع على كاهل الوطنيين الفلسطينيين مثقفين و مبدعين و اكاديميين وباحثين مسؤوليات جسام في هذه الفترة الصعبة، تبدأ بتعميق النقاش و الحوار البناء، والإجابة على الاسئلة الكبرى، و تنتهي بتعزيز عمل المؤسسات الفلسطينية، وفي مقدمتها منظمة التحرير الفلسطينية، البيت و الحاضنه لكل الفلسطينيين إينما تواجدوا.