سوريا.. تركيا.. وبالعكس!

بقلم: 

هكذا إذاً انقلب السحر على الساحر وتحول المشهد من الشارع العربي لينتقل للشارع التركي، خرج الشعب محتجاً على سياسات الحكومة الداخلية التي كان آخرها قرار إزالة متنزه عام (جيزي بارك) بميدان تقسيم وإقامة مبنى تجاري. وبالرغم من أن مشهد الاحتجاجات ما زال غير واضح المعالم، إلا أن ما يحصل في تركيا اليوم له مؤشرات مهمة جداً على الصعيد الداخلي والإقليمي.

لا يمكن فصل تركيا عن العالم بشكل عام وعن الإقليم بشكل خاص، إذ يرتبط موقع تركيا بالشرق الأوسط ارتباطاً حساساً على الصعيد الدولي وبسوريا على الصعيد الإقليمي، كما أن تركيا  طالبت مراراً وتكراراً في السنوات العشر الأخيرة وقبلها أن تضم للإتحاد الأوروبي وكان لا بد أن تنتصر في العديد من التحديات.

نجحت تركيا في عهد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي ينتمي لحزب العدالة والتنمية والذي يدعي بأنه حزب معتدل ذو جذور إسلامية في أن تحقق تنمية اقتصادية داخلية وخارجية، كما أن تركيا على مستوى التصنيع والتصدير انتقلت نقلة نوعية خلال العقد الأخير من الزمن، وعلى صعيد الإقليم تسعى تركيا للعب دور "الشرطي" في الشرق الأوسط خصوصاً أنها تسعى للإنضمام وبشكل قوي للإتحاد الأوروبي، وفي ظل ظهور أقطاب جديدة قوية اقتصادية وعسكرية قريبة عليها في الإقليم مثل إيران وقطر.
إن المشهد في تركيا لا ينفصل عن تداعيات الاحداث في سوريا بتاتاً، انقسم العالم لقسمين فيما يخص المسألة السورية، روسيا والصين وإيران من جهة تدعم النظام الحاكم، والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وقطر والسعودية وتركيا من جهة أخرى تدعم الجماعات المسلحة، وكلٌ له مؤيد ومعارض. روسيا والصين تدركان تماماً أن سوريا هي آخر بقعة تبقت لهما في الشرق الأوسط، لا تستطيع روسيا التنازل عن سوريا بسهولة ولا حتى بصعوبة، أما إيران فهي الأم الراعية لسوريا، سوريا هي الذراع الحامي لإيران في المنطقة، والشريان المغذي لحزب الله في جنوب لبنان، وهذه المنظومة هي المنظومة التي يسعى الغرب لإسقاطها، وهذه المنظومة هي التي تسعى دول الخليج المتمثلة بقطر والسعودية لإسقاطها خوفاً من "المارد الشيعي"، وهنا التقت مصالح الجميع في اسقاط النظام السوري أو الحفاظ عليه، إضافةً إلى أنه في سوريا حقيقةً وبعيد عن تحالف الغرب وأمريكا لاسقاط محور إيران – سورياحزب الله الذي وبكل تأكيد يقف أمام مد الدولة الصهيونية، يوجد مشاكل داخلية على صعيد تحقيق احتياجات المجتمع والاقتصاد الداخلي ومنظومة الأمان الداخلية هي التي في الأساس دفعت الناس للاندفاع في الهبّة في وجه النظام منذ البداية، إلى أن أصبحت الصورة أوضح وشعر البعض أن ما يجري قد انحرف عن مساره، بالتالي انسحب المعظم. وتعد الصورة التي صور بها بشار الأسد موحشة، أي أنه بالرغم من صمود النظام وتماسكه حتى هذه اللحظة إلا أن الرئيس الأسد أصبح يحمل صورة معينة لن تغادر بال الأجيال القادمة، ولو نجحت إيران وروسيا في فرض الأسد الآن وإعلان انتصار محورهم، لا يمكن أن يبقى الأسد في الحكم لفترة طويلة وذلك لينجح المحور في استمرار انتصاره.

وصلت الأمور اليوم إلى طريق مسدود أمام أمريكا وحلفاءها، وأصبحت تدرك هي وأوروبا أنها لن تتقدم أكثر من ذلك فيما يخص المسألة السورية، فبالرغم من الدعم المادي والعسكري والانقسامات التي زرعتها أمريكا وأوروبا، إلا أن الجماعات المسلحة لم تحقق مصالحها بتاتاً. الجيش العربي السوري خاض معارك طويلة (حرب شوارع مع الجماعات المسلحة التي تدعمها قطر مادياً والولايات المتحدة الأمريكية والغرب قانونياً وسياسياً) ولم ينكسر حتى اللحظة، فالدعم الذي توجهه روسيا والصين لم ينقطع نهائياً في مقابل الدعم الذي تتلقاه الجماعات المسلحة في سوريا من الولايات المتحدة وقطر.

إن خرق الكيان الصهيوني بشكل واضح للملأ، هو دليل على أن المشروع في سوريا خرج عن سيطرة أمريكا وأوروبا وحلفاءهم، كما أن الضربة التي وجهها الكيان الصهيوني لم تكن تحدي بقدر ما هي دليل على أن الكيان الصهيوني غير راض عن الجمود في الملف السوري وكقياس لردود الفعل ، الكيان الصهيوني يدرك أن سوريا لن ترد على الغارة في هذا الوقت، لكن يقيس ردود فعل المحور ككل (روسيا –إيران- الصين– حزب الله
إضافة إلى ذلك إن التوصية في إدراج "جبهة النصرة" لقائمة الجماعات الإرهابية يعني أنها إما لم تعد تخدم مصالح من يدعمها وانتهى دورها، أو أن كثرة المسلحين في سوريا خرجت عن السيطرة بالتالي أصبح لا بد من وضع حد لهذه الظاهرة.
تركيا كدولة إقليمية ذات وزن كبير بدأت تخسر جزءاً من مكانتها بالنسبة للغرب، لم تستطع تركيا لعب دور "الشرطي" بشكل حقيقي في الوقت الذي تبرعت فيه هي وبتوصيات غربية أن تكون هي من تنهي المشروع القائم في سوريا إذا ما أردنا أن نعتبره مشروع.

في كتاب "العمق الاستراتيجي – موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية"، أحمد داود أوغلو (وزير الخارجية التركي) والذي يتحدث فيه عن أسس السياسة الخارجية يذكر عدة مبادئء للسياسة الخارجية التركية حتى يتسنى لها تطبيق سياسة خارجية إيجابية وفعالة، منها أن تعتمد وبشكل مباشر على تصفير المشكلات مع دول الجوار، وهذا ما غاب عن بال الحكومة الأردوغانية.
إن انغماس تركيا في الإقليم ولعبها على الوتر الطائفي في الدول المجاورة، يسمح لصفحتها الطائفية والعرقية بأن تلمع ما بين المسلمين السنة والعلويين والمسيحين بما فيهم من أرمن ويونانيين ويهود والأقليات العرقية الكردية والعربية واللازية والشركسية والكردية، وكذلك الانقسام الحاد والذي يقسم المجتمع بشكل طولي ما بين تيار اسلامي وتيارات يسارية واشتراكية وليبرالية.

بالتالي يمكن القول أن تركيا تواجه أزمات عديدة الآن من ضمنها:

1- تركيا فقدت ثقة الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، إذ لم تنجح في التقدم بخصوص الملف السوري.

2- الشعب التركي يدرك تماماً أن ما يجري في سوريا هو ليس من شأن تركيا، والأولوية في تركيا يجب أن تكون في تحسين الأوضاع الداخلية في البلد والالتفات لحقوق العامة، والشعب التركي يعطي إشارات للحكومة أنها تمادت في فترتها الزمنية كما أن الحق العام وحقوق المواطنين باتت من الخطوط الحمراء التي لا تستطيع الدولة المساس بها. المواطن التركي ينتمي لقومية عالية ويدرك أن دور تركيا في الإقليم مهم جداً ولا يجب أن يتلوث في المرحلة الراهنة.

3- إن تدخل تركيا بالأقاليم الأخرى لن يمر مرور الكرام، لن تنسى إيران وروسيا والصين جرأة الحكومة التركية على اللعب في ملعبهم بهذا الشكل السافر.

4- إن ما يجري في تركيا اليوم هو سيناريو من اثنين: إما أن تكون تركيا اليوم باتت كالبيت الغير محصن، عرضة للعب من قبل كل دول الإقليم، خصوصاً وأن الولايات المتحدة لم تعد تشعر بأن تركيا تخدم مصالحها في المنطقة وبهذا رفعت الحصانة عنها، أو أن هذا جميعه مجرد سيناريو داخلي للإنسحاب من الوحل الذي وقعت به تركيا مع المحور الآخر، وفي كلا الحالتين نستدل على أن تركيا أخفقت.

منذ العام 2000م عقب دحر الكيان الصهيوني من لبنان و حرب تموز عام 2006م وتهديدات كوريا الشمالية وملف إيران النووي، اتضح أن العالم لم يعد يرتكز على قوة قطبية واحدة، إذ أن ردود الفعل على حزب الله لم تكن كردود الفعل على الشهيد الراحل صدام حسين عندما ضرب الصواريخ على "تل أبيب"، واليوم نشهد أنه في مقابل محور الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يوجد محاور جديدة وأقطاب جديدة قادرة أن تضع حد وأن ترسم ملامح جديدة للخارطة السياسية.

نسأل الله النصر لكل من ناصر الحق