غزة لا تمنح صكوك غفران لأحد.. القرضاوي نموذجا

بقلم: 

كما اشتهر الفلسطينيون بالنضال والجهاد، فقد اشتهروا بالكرم وحب أشقائهم العرب والمسلمين والانفتاح على كل الشعوب والحضارات، سواء بسبب طبيعتهم وأخلاقهم أو بسبب ظروفهم السياسية والاجتماعية وخصوصا الشتات الذي فرض عليهم التواجد في كل بلاد العالم وخصوصا في البلاد العربية، أيضا بسبب الهوية والانتماء حيث الفلسطينيون عرب أقحاح يعتزون بانتمائهم القومي ومسلمون يعتزون بدينهم كما يعتزون بوطنيتهم، فالوطنية والقومية والإسلام تشكل مكونات الهوية والثقافة الفلسطينية. لذلك فالفلسطينيون يحبون العرب ويرحبون بكل من يزورهم ويتعاطف مع قضيتهم ومعاناتهم، ولكن الفلسطينيين وخصوصا في قطاع غزة لن يمنحوا صكوك غفران لأحد لمجرد زيارته لقطاع غزة، ولن يبيضوا وجوه من سُوِدت وجوههم بممارساتهم المخزية ضد شعوبهم والشعوب العربية من خلال تواطئهم مع واشنطن وربيبتها الثانية بعد إسرائيل – قطر- .

لا غرو أن الفلسطينيين يحتاجون لغيرهم أكثر من حاجة الغير إليهم، إلا أن هذه الحاجة كانت تُلبى أو تُطلب بكرامة وعزة حيث لم يتذلل زعيم فلسطيني لأي نظام عربي لطلب المساعدة على حساب الكرامة الفلسطينية أو الحقوق السياسية، وكان الراحل أبو عمار مثلا وقدوة للزعيم الوطني الذي لم يستجدِ مالا من أحد، بل ناضل من أجل استقلالية القرار الوطني ودخل في مواجهات وخلافات مع أكثر من دولة عربية وإسلامية بما فيها دول خليجية دفاعا عن الكرامة الفلسطينية والقرار الفلسطيني بالرغم من حاجته للأنظمة والحكومات، كما واجه واشنطن وإسرائيل عندما انكشف تلاعبهم بعملية السلام وقال (لا) مدوية في وجه الرئيس الأمريكي في كامب ديفيد الثانية، طالبا منه أن يمشي في جنازته ولكنه لن يتخلي عن القدس ولن يقبل أن يكون مختارا أو رئيسا طرطورا على دويلة غزة، وكان موقف أبو عمار والقادة الوطنيين الآخرين ينطلق من منطلق أن العرب لا يمِنون على الفلسطينيين وما يقدمونه للفلسطينيين ليس صدقة بل واجب قومي وديني، فالعرب مسؤولون عن ضياع ثلثي فلسطين في حرب 1948 وعن ضياع بقية فلسطين في حرب 1967، وهذا عكس ما يردده البعض في سياق التحريض على الفلسطينيين وتبرير تخليهم عن واجبهم تجاه الشعب الفلسطيني، بالقول بأن العرب – وخصوصا المصريين- خاضوا أربعة حروب من أجل الفلسطينيين – حرب 48 وحرب 56 وحرب67 وحرب 73 –وكل عاقل يعرف أن هذه الحروب كانت دفاعا عن الدول العربية وأمنها القومي أو لاستعادة أراضيهم المحتلة، والأنظمة العربية تاجرت وساومت على القضية الفلسطينية وبعضها اكتسب شرعية وجوده وبرر قمعه لشعبه بالزعم أن ذلك من أجل مواجهة العدو الصهيوني، حتى أن قطاعات من الشعوب العربية ناصبت الشعب الفلسطيني العداء معتقدة بأن سبب فقرهم يعود لذهاب مداخيل بلادهم للفلسطينيين أو للجيوش التي تستعد لتحرير فلسطين، وفلسطين براء من كل ذلك. كما أن نصرة الشعب الفلسطيني واجب ديني لأن القدس ليست مقدسة عند الفلسطينيين فقط بل يفترض أنها مقدسة لأكثر من مليار ونصف المليار مسلم، والواجب الديني الجهادي لا يمكن تعويضه ببعض الملايين يتم تقديمها لهذا الحزب أو تلك الحركة، أو بمؤتمر يُعقد هنا أو هناك.

يبدو أنه في زمن الرداءة العربية – وليعذرني الثوار العرب الحقيقيون الذين سُرقت منهم الثورة بأهدافها النبيلة – وزمن الرداءة الفلسطينية – مع كامل الاعتزاز والفخر بالشهداء والأسرى والجرحى الذين ضحوا من أجل فلسطين وليس من أجل سلطة وحكومة – في هذا الزمن تسيَّدت على الشعب الفلسطيني زعامات حولته من شعب الجبارين إلى شعب الكوبونة والراتب، قيادات باتت تتذلل من أجل المال ليس لدعم مشروع الجهاد والمقاومة، بل لتثبيت سلطتها وحكومتها ولإرضاء شهوة نخبة فقدت بوصلتها الوطنية ونسيت تاريخ الشعب الفلسطيني وثوابته وتنكرت لدماء الشهداء وعذابات اللاجئين والأسرى، نخب باتت السلطة بالنسبة لها مطمعا وهدفا بحد ذاته حتى وإن كانت سلطة هزيلة تحت الاحتلال في الضفة يحميها التنسيق الأمني مع إسرائيل، أو سلطة هزيلة في قطاع غزة باتت وظيفتها حماية الحدود الجنوبية لإسرائيل مقابل ضمان استمرارها.

بالأمس القريب هالني الاحتفال المهيب لزعيم غير مهيب إلا بحجمه وهو أمير قطر، استقبال وقف فيه أمام أمير قطر، من يُفترض أنهم قادة مقاومة وجهاد، بخضوع وطاعة لا يشبهه إلا وقوف التلاميذ أمام معلمهم أو المريدون أمام شيخهم، واستفزني هذا الخضوع والتذلل أمام رئيس دولة تحتضن أكبر قاعدة أمريكية في المنطقة والصديق المفضل لإسرائيل، وتساءلت كيف يستقيم الحديث عن المقاومة والجهاد والقضاء على إسرائيل مع التحالف غير الندي مع أمير قطر الحليف الاستراتيجي لواشنطن والصديق المخلص لإسرائيل؟ وهل يمكن للمريدين أن يخرجوا عن طريقة شيخهم؟ .وهالني أكثر السيد إسماعيل هنية رئيس وزراء حكومة غزة وهو واقفا مرحبا بأمير قطر ومتحدثا عن الأموال والمشاريع التي يحملها الأمير ومع كل زيادة في الملايين - وكأنه مشهد مزاد علني - ترتفع التكبيرات والتهليلات حتى وصل المبلغ إلى أكثر من أربعمائة مليون دولار فسبح وحمد الحضور للأمير ودعوا له بطول العمر.

وغادر الأمير قطاع غزة ولم يمضِ سوى أسابيع حتى اغتالت إسرائيل الشهيد أحمد الجعبري أكبر قائد عسكري عند حماس وجرى العدوان على القطاع، وبدلا من أن تنتفض قطر والدول العربية لنصرة الفلسطينيين مستغلين أجواء الحراك العربي لتسليح الفلسطينيين وتشجيعهم على نقل معركتهم للضفة والقدس - ولما لا والعرب يسلحون معارضات عربية في مواجهة أنظمة مستبدة – بدلا من ذلك مارست قطر ومصر مرسي ضغوطا على حركتي حماس والجهاد للالتزام بهدنة مذلة مع إسرائيل. ولم يقف الأمر عند هذا الحد فقد تصرفت قطر على طريقة المثل العربي (طعمي الفم تستحي العين ) فخرجت علينا أخيرا مع جامعتها العربية بتنازل جديد وهو التقدم لواشنطن بموافقة عربية لتبادل الأراضي مع إسرائيل، وفي الوقت الذي كنا فيه ننتظر أن تثور حركة حماس على قطر صاحبة المقترح،  صبت جام غضبها على الرئيس أبو مازن والسلطة ومنظمة التحرير – ونحن لا نسقط مسؤوليتهم عما جرى حيث كان وزير خارجية السلطة ضمن الوفد العربي -، لكن يبدو أن إغراء المال والرغبة بعدم إغضاب واشنطن وقطر والتطلع للحلول محل منظمة التحرير في تمثيل الشعب الفلسطيني أهم من الحقوق والثوابت.

بعد أن اعتقد أمير قطر أنه حصل على صك غفران بزيارته لغزة، تفرغ لاستكمال الدور المرسوم له أمريكيا للتآمر على الحراك الشعبي العربي وحرفه عن مساره وكانت وجهته هذه المرة سوريا حيث حرضت قطر الغرب وواشنطن على التدخل العسكري ضد الدولة السورية وهو التحريض الذي شجع إسرائيل على القيام بالتدخل مباشرة في الحرب الدائرة في سوريا من خلال قصف مواقع إستراتيجية في جمرايا وقبلها في مناطق أخرى.

وفي هذه الأيام تُدَق الطبول وتُرفع الرايات وتُوجه الدعوات من طرف حركة حماس وحكومتها لاستقبال القرضاوي مفتي سلطان قطر ومفتي الفتن والمُنَظِر الديني لسياسة الفوضى الهدامة الأمريكية، حيث ما أفتى في قضية أو بلد إلا وثارت الفتن والحرب الأهلية، ويبدو أن القرضاوي وبعد أن بات مكشوفا ومرفوضا في غالبية الدول العربية والإسلامية لدرجة أنه يستحق الحَجر عليه، وحتى يغطي على فتاواه المخربة وأخرها تحليله للتدخل الأمريكي في ليبيا وسوريا وزعمه انه تدخل في سبيل الله! يريد أن يبيض صفحته ويحظى بصك غفران من خلال زيارته لقطاع غزة. وإن كان من حق حماس وحكومتها استقبال القرضاوي والترحيب به لما له من فضل عليها في تجميع الأموال من جماعات الإسلام السياسي وقطر لصالحها، وحتى لا تُغضب قطر، فسيكون من المستهجن أن يشارك قادة الفصائل وقادة مؤسسات المجتمع المدني في استقبال القرضاوي، وقد أحسَنَت بعض القوى والشخصيات الوطنية عندما عبرت عن رفضها المشاركة في مهزلة حفل استقبال القرضاوي .

وأخيرا نقول إن أخطاء وتقصير، بل وتواطؤ منظمة التحرير والسلطة في رام الله لا يبرر السكوت عما يجري في قطاع غزة، والأمر ليس أن حماس سيئة وسلطة رام الله جيدة، بل ننتقد التقصير والخطأ أينما يكون، وخطأ السلطة وحركة فتح لا يبرر خطيئة حركة حماس والعكس صحيح.

Ibrahemibrach1@gmail.com