المال السياسي ليس أسود

بقلم: 

لست مرشحاً لمجلس النواب الثامن عشر ، ولست جزءاً من حلقة إنتخابية ، ولكنني إعتماداً على تجربة ومعرفة ووعي أرى المشهد الانتخابي الاردني ، يقوم على فعل ثلاثة عوامل وأثرها وهي المال أولاً ،  والعشيرة ثانياً ، والمصالح الاقتصادية ثالثاً ، والدوافع السياسية رابعاً  وهي أضعفها ، أما ضرورات المال وأهميته فهي ليست بدعة أردنية تقتصر على الاردنيين ، بل هي سمة غالبة لدى كل الانظمة الانتخابية في العالم ، ولست أدل على ذلك من أهمية ما يتباهى به المرشحون لرئاسة الولايات المتحدة ، أهم موقع تنافسي في العالم ، حيث يتباهى المتنافسيّن في مباراة الرئاسة الاميركية في حلقتها الثنائية الاخيرة ، على مقدرة كل منهما في الحصول على دعم وإسناد مالي أكثر من الاخر ، مما يدلل وفق المعايير الاميركية على مصداقية المرشح من خلال دعم كبريات الشركات المانحة ، ورجال الاعمال المتبرعين له ، في تغطية إحتياجات هذا المرشح في مواجهة الاخر .
وهذا لا يقتصر على الولايات المتحدة بل كافة الانظمة الديمقراطية تقر أهمية المال وكيفية توظيفه في الحملة الانتخابية ، بل وتوظيف ناس يقبضون رواتب علنية في جيش المرشح الانتخابي ، رغم أن بعض المال يتم الحصول عليه من خزينة الحكومية لدى بعض الدول ، لتغطية الانتخابات البرلمانية ، إضافة إلى التبرعات ، مع ضرورة وجود  قوانين وأنظمة تضبط هذه العملية .
وها هو الاردن يتقدم خطوة إجرائية جديدة إلى الامام بهدف تغطية كلفة الحملة الانتخابية لكل القوائم الحزبية ، وهذا يدلل على إدراك مطبخ صنع القرار الاردني لأهمية المال في كل محطات المرحلة الانتخابية ، مثلما تبرز أهمية المال في التدقيق بهوية النواب الذين وصلوا إلى قبة المجلس النيابي ، خلال الدورات الانتخابية السابقة ، فالنواب الذين حققوا نجاحات عبر صناديق الاقتراع أغلبهم رجال أعمال ومقاولين وأثرياء ، والفئة الثانية هم من مرشحي العشائر وأغلبهم من المتمكنين مالياً داخل العشيرة الواحدة ، والفئة الثالثة وهم قلة من أولئك الذين نجحوا بسبب ماضيهم السياسي ونشاطاتهم السياسية وأغلبهم من حركة الإخوان المسلمين وأقلهم من القوميين واليساريين .
الحديث عن المال السياسي ، على أنه أسود يتنافى مع الواقع ، وهو مؤذي وطنياً ، وتطاول على الضرورات ، ومزايدة تعكس قلت الوعي بالواقع ، وفشل في كيفية التعامل معه ، فالمعركة الإنتخابية جُلها معركة مالية ، وهي حسبة سوقية تخدم الاقتصاد الاردني وتحركه خلال فترة الانتخابات سواء كانت نيابية أو بلدية أو حتى نقابية ، ولذلك درجاتها متفاوتة ، ولكنها ضرورة ، ولأنها ضرورة يجب إضفاء الشرعية القانونية عليها ، وشرعيتها يجب أن تكون قانونية وعلنية وشفافة مثل كافة العقود والاتفاقات والإجراءات والقوانين والانظمة ، وهكذا يجب أن تكون الإنتخابات مبنية على أصول مالية لها دوافع سياسية تحركها مصالح ذات طابع قانوني ، ولها شرعية علنية معتمدة ، أما الوظيفة اللاحقة للمشرع فهذا شيء أخر ، مثل الطبيب الذي يقال عن مهنته أنها إنسانية ولكن ثمنها مالي ، والقاضي الذي يفترض أن يحكم بالعدل ، فهو مهني وموظف ويتلقى بدل أتعابه حقوقاً مالية  ، وهكذا نحو باقي تفاصيل الحياة والضرورات ، وعليه يجب إسقاط تسمية المال الاسود عن المال السياسي ، فالمال السياسي حلال على من يدفعه وعلى من يأخذه ، مع التأكيد على أن يكون ضمن ضوابط ومعايير ، وغير ذلك نفاق وتهرب من الواقع وتضليل للنفس وللأخر بدون فائدة ، لأن المال سيبقى عاملاً أساسياً في كل حلقة من الحلقات الانتخابية من أولها حتى أخرها في الوصول إلى الفوز وتقديم وجبات الطعام والتحلية بالكنافة أو بغيرها .
السؤال لماذا الحملة المركزة لوصف المال السياسي في الاردن ، على أنه أسوداً ورشوةً وتلاعباً وتحريكاً لضمائر الناخبين ، الجواب يكمن في دوافع الحملات المنظمة المنهجية في الاساءة المتعمدة لمجلس النواب بهدف الحط من دوره ، والتقليل من مكانته ، والمس به ، لأنه المؤسسة الرسمية الوحيدة المنتخبة ، عن باقي مؤسسات الدولة ، فهو المؤسسة المفترض أولاً أنها تمنح الثقة وتحجبها عن الحكومة ، فروح الحكومة وإستمراريتها مقبوضة بقرار مجلس النواب ، وثانياً هو الذي يملك وظيفة مراقبة أعمال الحكومة ومحاسبتها ، لذلك تسعى قوى الشد العكسي لجعل مجلس النواب غير جدير بثقة الشعب الاردني ، أو شر لا بد منه ، بدلاً من أن يكون مصدر ثقة الاردنيين ومعبراً عن تطلعاتهم ، وحامياً لمصالحهم ، وعلى هذه الخلفية المقصودة يتم إطلاق الاوصاف المحبطة والمسيئة بلا تردد على مجلس النواب ، وهو ما لا يتعرض له مجلس الاعيان المعين مثلاً ، ومالا تتعرض له الحكومة المسؤولة عن كل ما يجري في بلدنا من عناوين سياسية وإقتصادية وإجتماعية وأمنية ، والانتقادات الموجهة لكليهما إنتقادات تخلو من الاذى ومن الحط من المكانة ، وإذا ما  حصل ، فإن مطلق مثل هذه الاحكام يتعرض للمساءلة القانونية على أقل تقدير ، بينما لا يجد مجلس النواب من يحميه ومن يدافع عنه ويبقى عُرضة للشبهات والاشاعات وللأذى المنهجي المتعمد .