تذوّقوا اللحمَ برائحةِ البارود

أطفال غزة

التفَّ عددٌ مِنَ الأطفالِ المُشرّدين حول كانون نارٍ أشعله ذات مساءٍ قارص ذاك الرّجل الحزين المُلتحف ببطانيةٍ رثّةٍ تلقّاها كمساعدةٍ في أيّامِ الحَرْبِ.. فهو رجلٌ مليءٌ بالحُزْنِ لأنّه فقدَ أُسرته ذات ليلةٍ حمراء حينما قُصفَ منزله .. الأطفالُ بعيونهم الباكيةِ ينظرون صوب الجمراتِ المُتّقدة في موقدٍ عتيق ، فليالي شهر شباط لها مذاق مُميّز وطقوس مُحبّبة على نفوسِ أبناءِ ذلك المُخيّم المُدمّر الذي ينعسُ على شواطئِ بحرٍ يُحرمُ الصّيادون فيه مِن الإبحارِ للصّيدِ لمسافاتٍ كافية في ظلِّ حصارٍ يقتلهم كل يومٍ.

صمتٌ مُطبقٌ يخنقُ المكان ، لمْ يكسر وتيرته سوى أنفاس ذاك الرّجل الحزين وهو يتنهد بلوعةٍ ويغالبُ عبراته التي تزاحمتْ في عينيّه وبدأتْ تنساب بغزارةٍ مثل نهر حزين على وجنتيّه اللتين علاهما الشّحوب ، وبدأ الغمُّ يظهرُ بوضوحٍ على سِحنته برغم نضارتها.

حاول ذاك الرّجُل المهموم جاهدا أن يبدو قويّاً أمام أُولئك الأطفال المُشرّدين .. فبعيد استشهاد امرأته أضحتْ الحياةُ تسيرُ بتثاقلٍ وإيقاعٍ بطئ يغلبُ عليها الألم مِنْ مصيرٍ مجهول .

فلقدْ هدأتْ للتّو دويُّ المدافِع في كُلّ مكانٍ بالقربِ من المُخيّم المُدمّر على الرّغم مِنْ سماعِ أزيزِ رصاصٍ مُتقطّعٍ بين الحين والآخر، لكنّ الرّجل ظلَّ يشوي قِطعَ اللحم  لكي تنضج بسرعة فالجوع لا يحتملُ الصّبر، وينظرُ بعينيّه الغائرتيّن للأطفالِ بحُزنٍ قاتلٍ ويقولُ لهم الآن سينضجُ اللحم. انتظروا قليلا..

وبينما كان الرّجلُ المُلتحف ببطانيته يقومُ بشي قطعِ الّلحْم بكُلِّ تمهُّلٍ لاحظَ الغيومَ وهي تتجمّعُ فوق المُخيّمِ المُدمَّر ودوي الرّعود تعزفُ نغماتٍ حزينة مِنْ خلالِ حبّاتِ المطرِ وهي ترتطمُ بالأرض الرّملية ، فشعرَ الأطفالُ بالبرودةِ تتسلّلُ إلى أبدانهم الهزيلة .. فلمْ يجِدُ ذاك الرّجل سوى كبّود عتيق ليعطيه للأطفال، لكيْ يحتموا من برْدٍ مجنون يُحاصرهم على الرّغمِ مِنْ وقوفهم أمام النّار..

كان الأطفالُ ينتظرون بشغفٍ مجنونٍ إلى قطعِ الّلحْم وهي تتحمّر.. فالجوعُ يأكلُ بطونهم الخاوية ، وفي تلك الأثناء وهم واقفون تناهى إلى سمعهم صوت طائرة وهي تحومُ فوق المكان ، وفجأة سُمعَ دويٌّ يصمُّ الأذان ، فهزّ المُخيّمَ بأكمله وارتفعتْ أعمدةُ الدُّخان لتصل إلى عنانِ السّماء ، وانبعثتْ في المنطقة رائحة الدُّخان مختلطة برائحة شواء مُختلف..

كانتْ الصُّورة مخيفة .. الأشلاء المُقطّعة تنتشرُ في كُلِّ مكانٍ وتغطّي مساحةً شاسعة .. الدّماء تلطّخُ الرّمال .. فحاولَ ذاك الرّجل الحزين أنْ يفهمَ ما جرى ..

فالصُّورة كانتْ تفوقُ الوصفَ وتتجاوزُ الخيال . لمْ يقو ذاك الرّجل المسكين على الحركة ، استدارَ بهامته المُثقلة بالأحزانِ وهو يسمو فوق ألمه في محاولةٍ للبحثِ عن الأطفالِ المُشرّدين فوجدهم مُمسكين بأسياخِ الّلحْم وكانوا مُضرجين بدمائهم في وضعِ استلقاءٍ أبديّ فيتمتم ويبكي يبدو أنّهم تذوّقوا طعمَ اللحم قبل أنْ يستشهدوا فطعمُ اللحم كان برائحة البارود لكنّ الأطفالَ بدوا وكأنهم يبتسمون ويشكرون ذاك الرّجُل الحزين لأنّه حاولَ قتلَ جوعهم ولكنّ الموْتَ انتظرهم وقِطعُ اللحم على أفواههم..

التدوينات المنشورة تعبر عن رأي كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي زمن برس.