العلمانية والمواطنة أو تأبيد الحروب الأهلية
الاحتقان الطائفي المتزايد والخطير الذي تواجهه المنطقة العربية والمُستند على حوامل التطرف الديني والمذهبي قد يقودنا الى الهاوية. انجازات الربيع العربي في إسقاط الاستبداد السياسي والدكتاتوريات في اكثر من بلد عربي سوف تظل محدودة ما لم يتم الاطاحة بأنواع الاستبداد الاخرى، وخاصة استبداد التطرف الديني والانغلاق والتعصب واستبداد الطائفيات بأنواعها. وتحقيق هذا ليس بالأمر اليسير، لكنه قيد الاستطاعة والوعي الجماعيين ذلك ان الانحدار الى مهاوي الطائفية والتطرف الديني تجربة مكرورة ومملة ودروسها الدموية مكتوبة بالدماء وما تزال تنز في اكثر من افق. الخطر الكبير يكمن في احدى الحقائق المؤلمة التي تشير الى ان بعض المجتمعات لا تتعلم من تجارب غيرها حتى لو كانوا جيرانها المقربين, وتصر على ان تدفع الثمن الباهظ الخاص بها كي تصل الى ما وصل اليه الاخرون من قناعات ... ودمار. في اللحظة العربية الراهنة تقف بعض المجتمعات على مفترق طرق سوف يحدد مستقبلها لعقود قادمة, فإما ان يتسارع الوعي الجمعي ويلجم استعار الطائفيات والتعصب ويدفع بدولة المواطنة والديموقراطية والعلمانية الدستورية الى الامام, واما الانحطاط الى التشظي الداخلي والحروب الاهلية.تتعدد الأسباب والظروف المولدة للطائفية واحتقاناتها وانفجاراتها ولا تحتاج لعبقرية في التحليل لوضع اليد عليها. داخليا وخارجيا تظافرت عوامل عديدة على دفع اسوأ ما في المجتمعات الى السطح, وهو الاسوأ الذي بقي على الهوامش في الشطر الاغلب من تاريخها, وفي حال تمكن من السيطرة على التيار العام في اي حقبة من الحقب فإن النتيجة المباشرة كانت الانحطاط.
داخليا اشتغلت سيطرة الخطاب الديني واحتلالاته للفضاء العام, قولبة الثقافة الجمعية وفق شرعنة الفعل الاجتماعي والسياسي, الفردي والجماعي, تبعا لإملاءات الخطاب الديني، النقمة الكامنة على الآخر المختلف والنظر اليه نظرة عدائية، حتى لو كان هذا الاخر "الشقيق العقدي او الايديولوجي". اما خارجيا فقد اشتغلت الحروب الكولونيالية التي اجتاحت المنطقة خلال القرنين الماضيين وما تزال تجتاحها على نزع الصدقية والايمان بالافكار والطروحات المدنية والليبرالية، كما عملت على الربط الآلي، غير الموضوعي, بين تلك الافكار والغرب الاستعماري مما افقدها فاعليتها وشعبيتها. يطول التحليل هنا لكن الجهد والابداع مطلوبة في كيفية ابطال مفاعيل الطائفية وقطع الطريق على الدمار الذي تقود اليه مجتمعاتها وبلدانها. ولا يبدو ان هناك افقا يخرج المجتمعات العربية والاسلامية من مآزقها الحالية ويحميها من غول الطائفية والتطرف سوى تحولها الى دول مدنية دستورية قائمة على المساواة التامة بين الافراد على اساس المواطنة, وفي إطار علمنة الدولة كجهاز يخدم الناس والافراد بغض النظر عن اديانهم وطوائفهم وانتماءاتهم.
الخيار البديل هو الامعان في الاسلمة الحركية، وخاصة بعد وصول الحركات الاسلامية للحكم في اكثر من بلد عربي. ورغم الشعبية الظرفية ل "الإسلاموية" والتي تجسدت في نتائج الانتخابات هنا وهناك الا انها ساهمت في إشاعة خوف شرائح ونخب عديدة في العالم العربي, ولأنها لم تنجح في طمأنة الخصوم والمحايديين إزاء نواياها المستقبلية, فإن الخوف من وصولها للحكم, سواء بالسلم أو بالعنف لم يخفت, بل تكرس حاليا. ولأنها أثبتت أنها الأقدر على الفوز بأية أنتخابات نزيهة ومحايدة تقام في أي من البلدان العربية, فإن الحماس لفكرة الديموقراطية ذوى في كثير من دوائر المثقفين, والديموقراطيين, وأعداء الإستبداد. لقد وفرت "الإسلاموية" من دون أن تريد مسوغاً لا مثيل له لمعظم الأنظمة العربية كي تتهرب من أية أستحقاقات للدمقرطة والإنفتاح السياسي عبر سنوات طويلة. وأنحصرت الخيارات التي تواجه المجتمعات العربية عملياً بين إستمرار الوضع الاستبدادي القائم، أو المغامرة بقبول حكم الإسلاميين. ولأن تجارب الإسلاميين في الحكم, سواء في السودان, أو أفغانستان, أو غزة, أو مشاركاتهم فيها في غير بلد عربي, لم تقدم النموذج البراق الذي يقطع مع ما تعودت عليه المنطقة من فشل وقمع وانحطاط، فإن الرهانات على خوض تلك المغامرة بالنسبة للكثيرين لم يعد لها معنى. تقود محدودية الخيارات هذه إلى ترسخ وتعمق المأزق العربي الراهن على المستوى الداخلي ومستوى طبيعة الحكم السياسي والشكل الذي ينظم العلاقات بين السلطات المختلفة, وبين الحاكم والمحكوم, وما يمكن أن يحافظ على الحد الأدنى من التماسك الشعبي والإجتماعي في وجه تهديدات الإنقسام والتجزئات الإثنية والطائفية الأهلية.
يُضاف إلى ذلك توترات متفاقمة على المستوى الخارجي والإقليمي تعمل على تعظيم التحديات التي تواجهها كل دولة عربية على حدة. فمن تحدي اليمين الإسرائيلي, إلى توسع النفوذ الإيراني, إلى الرغبة التركية في لعب دور إقليمي أكبر, إلى آثار ومنعكسات الأزمة المالية والإقتصادية العالمية, وغير ذلك كثير. لكن الغريب في الأمر وإزاء مخاطر حقيقية لتفتت بلدان عربية إضافية (السودان واليمن مثالاً قريباً, بعد الصومال وفلسطين), وتصاعد شبح الطائفيات في بلدان أخرى, وإستعار أوجه التطرف بكل أشكاله, الرسمي والإسلاموي، ليس ثمة محاولات على أرض السياسة الواقعية تهدف مواجهة هذه الاستعصاءات والأزمات. بل هناك مزيد من "الإسلاموية" الظافرة, والتي رغم فشلها المدوي, ما تزال تسيطر على الفضاء العربي بكل عنفوان. بل وتؤثر في أتجاهات السياسات المحلية والخارجية للدول والحكومات التي تنزع في المجمل العام نحو إستراتيجية المزايدة على حركات الإسلام السياسي, وصوغ خطاب إسلاموي رسمي ينافس ذلك الذي تطرحه تلك الحركات. معنى ذلك أن كل الصراع على إيجاد حلول واقعية يتم نقله إلى مستوى تجريدي وشعاراتي ونظرياتي لا معنى له. ففي الوقت الذي تتفتت فيه المجتمعات, وتتهدد فيه الدول بالتقسيم, وتنعدم مساحات التسامح, وتستفحل الأمية, وينكمش الإقتصاد, وتتضاعف معدلات البطالة, وتدق "القاعدة" بوابات أكثر من بلد، فإن الجدل والسجال والنقاش حتى على مستوى رسمي يتقهقر إلى مستويات فاضحة تحوم جواز تمثيل الصحابة في برنامج تلفزيوني ام لا!.