الدولة المدنية والدولة الدينية علاقة تقابل أم إقصاء

العلاقة بين السياسى والدينى ليست قاصرة على الدول العربية والإسلامية فقط ، بل إن هذه العلاقة والبحث عن حلول لها عاشتها كافة الشعوب الأخرى وخصوصا المسيحية التي نجحت إلى حد بعيد في الوصول إلى نموذج تقابل وليس تنافر ، وإن عاد الدين يلعب دورا جديدا وقويا في سياسات هذه الدول. ومنذ أن ظهر الدين الإسلامى والحديث عن دور الدين الإسلامى في صياغة البنى السياسية والإجتماعية والقيمية لهذه الدول لم يخفت او يتراجع إلا مع ظهور أنظمة الحكم ذات الطابع العلمانى والسلطوى .

ولعل العامل الرئيس الذي حال دون إيجاد حل لمعضلة العلاقة بين الدينى والسياسى هو قيام أنظمة الحكم السلطوية التي حاول الحكام المحافظة على إستمرارية حكمهم بإقصاء كل أشكال المعارضة السياسية وأقواها الحركات الدينية . ولو أن هذه الدول عرفت أنظمة الحكم الديموقراطية والرشيده منذ البداية لقطعت مسافة بعيده في البحث عن نموذج تلتقى فيه الدولة المدنية والدولة الدينية .

ولقد عادت هذه المعضلة تطل برأسها من جديد بعد الثورات العربية التي تشهدها عدد من العواصم العربية ، وحتى الدول العربية ألأخرى لم تعد بمنأى عن مواجهة هذه المعضلة الشائكة والمعقدة لأسباب تتعلق برؤية الحركات الدينية لمفهوم ووظيفة الدين ، رغم أن الدين ليس حكرا عليهم ، وبين الحركات العلمانية السياسية والتي هى بدورها ليست بعيده عن الدين .

وتبدو تعقيدات المشكلة بعد فترة حكم سلطوية طويلة عملت فيها الحركات الدينية مع القاعدة الجماهيرية التي أكسبتها قوة وحضورا كبيرا بسبب بعد الحكم عن هذه القاعده ، وبسبب ضعف الأحزاب والقوى السياسية ألأخرى التي تراجعت كثيرا في ظل أنظمة الحكم السابقة . وهذه العودة الغير متكافئة بين القوتين هى التي قد تثير القلق والخوف من عدم التوازن والألتقاء عند نموذج مشترك لمفهوم الدولة ونظام الحكم لفترة ما بعد الثورة . وفى هذه البيئة السياسية الجديده والتي وفرت هامشا واسعا من التعبير عن حرية الرأى ومحاولة كل منهما التأكيد على رؤيته ، وقد بدا التناقض يظهر بمجرد إنتهاء الفترة ألأولى القصيرة للثورة في مصر وتونس والتي لم نسمع فيها عن حقيقة موقف هذه الحركات والقوى الدينية من رفع الإسلام هو الحل .

لتبدا مرحلة جديده وسريعة لتظهر فيها هذه الشعارات بقوة . مما يطرح معه وبقوة العلاقة بين الدولة المدنية والدولة الدينية . ومن الخطأ ألإعتقاد أن السياسة منفصله وبعيده عن الدين أو عن مجال من المجالات العامة التي تشكل حياة الإنسان ، وكما يقول المفكر الراحل إدوارد سعيد أن السياسة ترافقنا في كل حياتنا وفى كل مكان .

وكما قال أرسطو أن الإنسان حيوان سياسى . وفى الوقت ذاته يشكل الدين المرجعية الرئيسة لمنظومة القيم والحياة التي تحدد سلوك الإنسان ، فالدين وخصوصا الدين الأسلامى ليس دين عباده فقط ، بل أيضا دستور سماوى يحدد الإطار العام المنظم لحياة الإنسان .

وفى هذه الدائرة الكلية للإنسان تلتقى السياسية بالدين ، وهذا الإلتقاء إما أن يكون صداميا تنافريا ، وإما إن يكون تكامليا . وهذا يتوقف على دور وحدود كل منهما في حياة الإنسان . والخطا الثانى الذي نقع فيه هو إختزال مفهوم الدولة فقط في الدولة المدنية أو الدولة الدينية ، فهذا الإختزال هو الذي قد يقود إلى الصدام والتنافر. فالدولتان تلتقيان في كثير من النواحى ، فالدولة المدنية تضمن أبعادا ونواح كثيرة مثل البعد القيمى الذي يحدد رؤية الإنسان لغيره ، ويحدد علاقته معه دون أن يلغيها ، وهنا التركيز على قيم التسامح والمواطنه ونبذ العنف ، والتسليم نفس الحقوق للجميع ، وحرية الراى والمعتقد طالما أن ذلك لا يضر بالآخرين ، وتضمن أيضا البعد المؤسساتى الذي يتجسد في المؤسساتية الرشيده البعيده عن الشخصانية ، والإستقلالية بينها وبين المؤسسة الدينية الحاكمه . والبعد القانونى الذي يؤكد على القوانين التي تترجم مفهوم المواطنه في المساواه والحرية والعدالة وفى كافة الحقوق المدنية دون أن يكون الدين هو المعيار فيها .

وبالمقابل االدولة الدينية أيضا هدفها ألأساس هو الإنسان وإحترام آدميته ، ومساواته في الحقوق مع الآخرين وإن أعطت للبعد الدينى المقدس أهمية وأولوية اكبر .

في هذه الدوائر يمكن البحث عن دوائر الإتفاق بين المفهومين بما يكمل كل منهما الآخر. ولكن في الوقت ذاته الثيوقراطى او الدينى وهنا قد تتعدد النماذج ما بين متشدد محافظ تقليدى سلفى او بين معتدل ، اوبين منفتح ، هو الذي يخضع كل شئ لما هو مقدس نصا ، وعن طريق فرض الشريعة السماوية التي لا تقبل التأويل او التفسير ,وبالتالى الفوز في الإنتخابات والوصول للسلطة هدفه تطبيق هذه الشريعة عن طريق القوانين التي تصدرها الدولة ، وبالتالى مفهوم الحكم هنا مغاير للمدنى الذي يرى ضرورة فصل الدين عن السياسية ، ، وبهذا المعنى العلمانية تعنى فصل الدين عن الدولة ، بمعنى جعل القوانين الناظمة للحياة نتيجة إجتهاد ألفراد وليست نتيجة الترجمة الحتمية والمطلقة للنصوص الدينية .

لأن النص الدينى يحمل معنى القدسية ، كما أنه قد يحتمل عدة تأويلات وتفسيرات يجعل التنازل عن أى منها انه تنازل من صميم الدين او يبدو امرا صعبا مستحيلا، ولهذا قد تحدث الفتن والخلافات الطائفية .

والعلمانى يرى أن الديموقراطية تفقد جوهرها ومضمونا بإقتصارها على النواحى الإجرائية ةالشكلية ، فهم يرون أن الديموقراطية أو الدولة المدنية تضمن نظاما شاملا يحتاج إلى تشريعات وقوانين منظمة لها ، وهنا التداخل الكامل بين الدينى والمدنى . فالسياسة ترتبط بالبعد أو العامل الزمنى ، وهى فن من فنون الممارسة الميكافيلية ، وهى فن العمل في حدود الممكن الذي يتقيد بالقدرة البشرية ، في حين أن الدين يرتبط ويتسم بالمطلق وبالفهم والممارسة وهو غير مقيد بعامل الزمن ، لإرتباطة بالقدرة الألهية المطلقة ، ولا مجال للمقارنة بين ما يأتى به العقل البشرى المحدود ، والقدرة الألهية غير المقيدة لا بعامل الزمن ولا المكان .

وهنا قد يقع التعارض والتصادم بين الدين والسياسة رغم الخلط الذي يقع بين الممارسة السياسية والإعتقاد الدينى ، وما يتبع ذلك من تجليات في الممارسات والسلوكيات الإجتماعية ، وفى هذا يكون الإعتقاد الدينى بتوظيف الدين من قبل السياسيين بحثا عن الشرعية الدينية وهى شأن مقدس لفعل سياسى وهو زمنى غير مقدس .وأن من شأن هذا الخلط إن يسئ إلى الدين بسبب الفعل السياسى ، فحين تفسد السياسة يفسد الدين معها ، وبما إن السياسة متغير متغير ، والدين متغير ثابت ، فإن جعل الإسلام دين ودولة او مقرون بما هو سياسى أن تكون نتيجته هى تنفير الناس من الدين الذي يوظف لأجل إعطاء مشروعية للفعل السياسى ، وان نتيجة هذا التوظيف هى إنزال الدين من عليته المقدسة إلى مستوى التحالفات السياسية التكتيكية التي قد تتغير بين عشية وضحاها .

وفى هذا ألأمر في النهاية إساءة للدين ، كما انه يفقد السياسة إنفتاحها حين تمزج بالدين وتتحول إلى دوغما أو إعتقاد ثابت غير قابل للتغير والتحول ومقتضيات النفس البشرية ، وهو مناقض لمفهوم السياسة الذي أشرنا إليه بانه فن الممكن البشرى .

وفى النهاية لا بد من البحث عن صيغة توافقية تبادلية بين المفهومين بحيث يمكن الوصول إلى نموذج الدولة المدنية الدينية والدولة الدينية المدنية . وهى بلا شك إشكالية معقده تحتاج إلى الوصول هذا النموذج التوفيقى قبل أن نصل إلى مرحلة التصادم الحتمىالتي قد تعيد ألأمور إلى أسوأ مما كانت عليه في السابق والدوران في حلقة مفرغة من التخلف والتصادم.

دكتور \أستاذ العلوم السياسية \ غزه