في غزة..حين تحتضن الأم ابنها "شهيداً" بعد غياب 21 يوما!

سناء كمال
زمن برس، فلسطين: " أيام عصيبة مرت علينا، فالدقائق كانت كالسنين، في انتظاري لرؤية ابني محمد (22عاماً) ، مع كل رنين يصدر عن الهاتف النقال أتهافت عليه لعلي أسمع صوته لكن لا جدوى، فمرت 21 يوما كاملا لم انتبه لأصوات الصواريخ ولا لنزوحنا من بيتنا في بيت حانون، إلى أن أتاني صوته العذب يقول لي: سامحيني يا أمي إن أخطأت بحقك يوماً، وأدعي لي بالرحمة، قاطعته بصوت غص والدمعة تخنق نبرتي:" تعال ياما أشوفك حتى لو دقايق تعال بس انت"، لم يستطع أن يرفض طلبي وهو المطيع الحنون، وقال:" أعدك يا غاليتي سآتيكي مهما كلفني الأمر ولن أخذلك أبداً".
في مساء ذات اليوم أتى محمد اليازجي (22 عاماً) من بلدة بيت حانون إلى منزلهم بعد أن تأكد بأن عائلته مازالت باقية في منزله الذي تزوج فيه قبل أقل من عام، وما إن وصل المنزل وقبل أن تعانقه والدته، قصفت طائرات الاحتلال الحربية منزله، هي نظرةٌ وحيدة ألقتها والدته عليه، قبل أن يركض إلى المطبخ كي يحضر كوب ماء لأخته المصابة، فيدفع حياته ثمنا لطاعته".
تروي والدته أم محمد (45 عاما) قصتها لزمن برس بعد أن استقبلتنا على مدخل شارعهم المدمر بالكامل في بيت حانون شمال قطاع غزة، بابتسامة مصطنعة ترسمها على وجهها، لعلها تبدو أكثر قوة وعزيمة، فهي والدة الشهيد المغوار كما تسميه لزمن برس.
وتقول:" هناك لحقه صاروخ آخر من طائرة أف 16 لتقتلع الجانب الأيمن من جسده، فيسقط شهيداً في بيته، ما إن سمعت صوت الانفجار الضخم لم أتمالك نفسي ولم آبه بالقصف، ركضت بسرعة كبيرة تجاه المطبخ لعلي أجد ابني حياً، لكن ذلك كان مجرد أمنية لم تتحقق لي بعد 21 يوماً من فراقه وحرقة قلبي عليه".
وتضيف:" وجدته شهيداً مسبلاً عينيه فكانت آخر نظرة له يحدق بعيني اللتين احتبست فيهما الدموع، حضنته بقوة وهي اللحظة الأولى التي اقترب فيها منه، وقبلته بحرارة الولهان وقبلات الوداع"، قائلةً له :" سامحتك يما، سامحتك ياحبيبي، ليش سمعت كلامي وأجيت، ليش سبت ابنك اللي ماشفته".
مازالت أم محمد تعيش صدمة فقدان ابنها "المقاوم من وحدة النخبة بكتائب القسام، القوي، الصارم، الحازم، الحنون"، لكنها تدرك جيدا أن العملاء هم من كانوا سببا في قتل ابنها "المجاهد"، الذي نفذ عملية قتل عدد من الجنود الإسرائيليين في شارع النعايمة ببيت حانون، وإلا كيف أدركت طائرات الاحتلال بلحظة وصوله لمنزله، واستهداف المنزل فور دخوله البيت.
ورافقت زمن برس العائلة بين أنقاض منزلهم المدمر، الذي يتوسط قاعته السفلى صاروخ ضخم تم إسقاطه من طائرة حربية إسرائيلية من نوع أف 16 لم ينفجر بعد، بصعوبة بالغة تمكنا من الصعود إلى الطابق العلوي، حيث الفجوة الكبرى التي خلفها الصاروخ القاتل لمحمد.
وراحت تشرح لنا أمه ما جرى فتقول:" لم يلبث أن يدخل المنزل حتى أطلقت الطائرة عدة صواريخ باتجاه المنزل، مازلت أذكر نظرته لي، ولكنه سارع إلى المطبخ ليحضر كوب من الماء لأخته التي سقطت على الأرض، ولكن صاروخاً آخر طاله وقتله قبل أن يسعف شقيقته الصغرى".
وانتقلنا إلى منزل والده المجاور الذي عاشوا فيه أصعب لحظات حياتهم تحت نيران القصف ففي "بيت الدرج" حصنوا أنفسهم وسط التشهدات والتضرع إلى الله من قصف القذائف المدفعية لمنزلهم، إلى أن احترقت الجهة الشمالية منه بالكامل، قبل أن يتمكنوا من الهرب واللجوء إلى أحد المدارس.
وبعد عودتهم إلى المنزل لتفقده، وجدوه كما هو عليه ما عدا الغرفة التي كان ينام فيها الشهيد محمد قبل أن ينتقل إلى منزله الجديد بعد زواجه ويقول والده لزمن برس وهو يتوسط غرفة محمد:" هذه الغرفة الوحيدة تم استهدافها من قبل الدبابات الإسرائيلية فهم يعرفون تماماً أنها غرفته، وهي رسالة لنا في ذات الوقت، بأنهم يعلمون كل تحرك لابننا، ولم يكونوا يستطيعوا تخمين ذلك لولا وجود العملاء".