المصالحة: كذبة آخر نيسان؟
تبدو مهمة الوفد القادم من رام الله إلى غزة لبحث قضية المصالحة مع حماس سهلة وصعبة في نفس الوقت، ويمكن لها أن تكون فرصة تاريخية أو مجرد خبر يضاف لعشرات الأخبار الأخرى حول المصالحة والحوار الوطني، وحتى تصبح ممكنة، فإن توفر النوايا الحقيقية وعدم جعل التفاصيل المملة تفشل فرص التوافق أهم من كل شيء، فإذا ما تم التعامل مع المصالحة على أنها مطالب واستحقاقات وحصص، فإن مصير هذه اللقاءات دفتر الماضي القريب.
تكمن معضلة المصالحة البنيوية في أنه تم التعامل معها بالقطّاعي بحيث تم الالتفات للتفاصيل على حساب الفكرة العامة.
ضمن هذا التعامل كان يتم مناقشة الأفكار الصغيرة والتفاصيل الدقيقة بوصفها جوهر الصراع والخلاف، فيما كان يمكن للاتفاق على الفكرة الكبرى أن يجعل تلك التفاصيل ليست ذات أهمية، لأنه في المشاريع الكبرى، كما في الأحداث المفصلية في التاريخ، فإن التوقف عند التفاصيل يكون على حساب النجاح.
الذي حصل في مسيرة المصالحة الوطنية التي سبقت الانقسام بأحداثه الدامية في حزيران 2007، أن النقاش تركز على الكثير من الهوامش على حساب المتون، لم يكن هذا ربما بلا قصد، إذ إن مراجعة نقدية لتلك المسيرة تكشف عن تقصد من البعض من أجل تضييع فرص الاتفاق. والحال كذلك، لم يكن غريباً أن تفشل المصالحة حتى حين يتم التوقيع على اتفاق شامل، لأن البعض كان ينظر إلى تفاصيل الاتفاق أكثر من نظرته لفكرة الاتفاق، وبسبب ذلك فإن النقاش على نسبة الحسم في الانتخابات التشريعية كان من شأنها أن تُبطل اتفاقاً شاملاً تم التوصل إليه.
وبعد ذلك إذا تم تجاوز هذه النقطة يظهر تفصيل أدق ربما حول نسبة الدوائر من مجموع التمثيل البرلماني لتكون سيفاً يقطع رقبة الاتفاق.
وأيضاً في ظل هذه الدائرة المفرغة، فإنه ما أن يتم تجاوز هذه النقطة حتى تظهر نقطة جديدة، انظر مثلاً إصرار "حماس" على ضرورة أن يتم ضم موظفيها الذين تم إدماجهم على كادرها المدني والعسكري ضمن ولاء حزبي لتثبت الانقسام وتمكينه، القصة بالطبع في جزء منها مالية، لكنها تعكس بصورة أدق الوعي العميق حول المصالحة بوصفها اقتسام الغنائم والحفاظ على الحصص.
فلو كانت المصالحة هي الشغل الشاغل، وهي الغاية المنشودة لأمكن بقليل من الحكمة المسنودة بالرغبة والإرادة أن يتم القفز عن هذه التفاصيل التي بطبيعة الحال يمكن حلها خلال عملية إعادة اللحمة للمؤسسة ولشرعية النظام السياسي، بيد أن ثمة مصالح حزبية وزبائنية تقتضي الدفاع عن هذه المصالح.
إن النظام الزبائني البتريمونيالي الذي تم بناؤه يقتضي أن يحافظ على أكبر قدر ممكن من أعمدته وهياكله حتى يصلح للعودة إلى الوراء في الوقت المناسب.
وهذه معضلة أخرى من معاضل المصالحة، وربما هي أحد أهم تحديات تجسيد الوحدة الوطنية، حيث إن الأجسام التي خلقت بعد الانقلاب كان يقصد منها أن تدوم للأبد، فلو أن ما حدث في حزيران الدامي العام 2007 كان نقطة سوداء في تاريخ شبعنا (وأنا بكل يقين أقول ذلك) ولو أنه كان خطأ يجب تصحيحه كما قد يميل بعض الناس ممن دافعوا عما حدث في السابق ضمن مراجعات الذات، ولو أن ما تم كان مجرد غضبة وردة فعل، لكانت العبرة في تخفيف تبعات هذا الانقسام المؤسساتي، لا أن يتم تعزيزه وتمكينه.
فوراً تم الشروع في بناء مؤسسات موازية وأجهزة موازية وقوانين بديلة وتشريعات تلغي التي سبقها، وتم التعامل مع هذا الوضع الشاذ كأنه باق للأبد، وعليه فإن عملية المصالحة الوطنية (على وزن عملية السلام) عليها أن تتعاطى مع كل شيء لأنه صار أمراً واقعاً، ليس هذا فحسب، بل لأن هناك من سيأتي على طاولة الحوار الوطني حتى يدافع عن هذه التفاصيل، وتأسيساً، فإن هذه الجهود واللقاءات قد تفشل في إلغاء تشريع صغير يتعلق ربما بزي المحامين في المحاكم أو ببعض الأحكام المدنية العامة.
هل هناك من يقول إننا وقعنا في نفس المطب في قضية المفاوضات منذ أوسلو، حين قبلنا النظر إلى التفاصيل على حساب الحقوق الكبرى التي لم تقر بها إسرائيل، فباتت القصة هي الانسحاب من كذا كيلو متر وعملية تسهيلات لمرور خط الكهرباء إلى تلك المنطقة، وكان الأساس هو مبدأ الانسحاب الكامل وإطلاق سراح الأسرى بشكل كامل، نعم هذا ما حدث أيضاً في المصالحة الوطنية.
هل من ضمانات بأن هذه المرة لن تختلف عن سابقتها، يبدو أن ثمة شعورا بأن الحديث مع "حماس غزة" أكثر جدوى من الحديث مع "حماس الخارج"، لأن من يمسك بزمام أمور الانقسام هي غزة وليس السيد خالد مشعل ومكتبه السياسي في الخارج، ويبدو هذا في بعضه منطقياً ولكن هذه المرة يجب الانتباه أن تفاصيل الانقسام من شأنها أن تغرق مركبة المصالحة الأكبر، وهي أكبر من مجرد تقاسم السلطة أو إيجاد سبل للعودة لرأي الشارع حتى يقرر، إذ إن الانقسام ليس على السلطة بل أيضاً نحن بحاجة لتجسيد أشمل للوحدة الوطنية يضمن أن نكون شعباً واحداً يتحدث بصوت واحد، يختلف داخل البيت وفي مؤسسات النظام السياسي ولا يختلف عليها وخارجها.
على من يريد أن تنجح هذه الجهود أن يكون أولاً صادقاً مع نفسه ومع شعبه.
إن إدراك "حماس" بضرورة فعل ذلك مهم، وإن النظر إلى دوران العجلة بوصفه انحناءة أمام العاصفة الشديدة التي تهب على "حماس" أيضاً يغلف الحقيقة بالكثير من القشدة الفاسدة التي ستفشل تجسيد المصالحة في حال تم التوصل إلى اتفاق، لأنه من الممكن مرة أخرى أن يتم وضع خطط عملية لتنفيذ ما تم الاتفاق عليه، ولكن في التنفيذ ندخل مسلسلا جديدا من الحبكات غير المتناهية والدوامة التي تنقضي، وينتهي نيسان بكذبة آخر نيسان الجديدة.