الإسلاميون بين الأمس واليوم..حركة حماس: مراجعات استراتيجية
هل نحن كإسلاميين فلسطينيين بحاجة إلى المراجعات؟ وهل حركة حماس بعد سنوات الحكم التي قاربت على الثمان مطلوب منها كشف حساب يتم بناء عليه التأكيد على وجود ضرورة للمراجعة أو نفي الحاجة إليها.. كل المؤشرات واقتراحات النخبة الفلسطينية تلفت عناية الحركة إلى أهمية إجراء المراجعة؛ لأن متغيرات كثيرة سياسية ومجتمعية ومعيشية وأمنية طرأت منذ تسلم حركة حماس زمام الأمور، وتصدرها لمشهد الحكم والسياسة في كانون الثاني 2006م.
وإذا سلمنا بذلك، فمن أين تبدأ المراجعات؟ سؤال يتوجب علينا الإجابة عليه، حيث إن هناك خمس ملفات بانتظار أن نضعها على أجندة مفكري الحركة وقياداتها السياسية والميدانية ليقدموا – بعد المراجعات – معالم الرؤية حول المطلوب لتعزيز أو تعديل المسار، وهذه الملفات بتساؤلاتها المطروحة هي كالتالي:
أولاً) المقاومة إلى أين؟
ثانياً) تجربة الحكم، أين أصبنا.. وأين أخطأنا؟
ثالثاً) المشروع الوطني في بعده السياسي، إلى أين؟
رابعاً) موقع حماس من المرجعية الفلسطينية، هل هي جزء من منظمة التحرير أم فصيل يغرد خارجها؟
رابعاً) إعادة بناء تحالفات الحركة بالمنطقة؛ كيف يمكننا استعادة التواصل مع عمقنا العربي والإسلامي؟
خامساً) أين نحن من المصالحة الوطنية؟
إن مدارسة هذه الملفات الخمسة سوف تمنحنا خارطة طريق واضحة المعالم للسنوات القادمة، من حيث الأولويات والرؤية الاستراتيجية، لاستعادة وحدة الفهم والموقف داخل الحركة، وإيضاح طبيعة التفاهمات والشراكة السياسية مع الآخرين.
إن المراجعات هي سياسة حكيمة تلجأ لها الحكومات كما الحركات، وهي وسيلة للتصويب الذاتي، وقد سبقتنا خلال السنوات العشر الماضية الكثير من الحركات الإسلامية في إجراء تلك المراجعات، ونجحت في تصحيح أوضاعها لتنضبط مع واقع المتغيرات وشكل المستجدات والتوازنات الحاصلة.
المراجعات: نبذة تاريخية
في مطلع الثمانينيات تأسس المعهد العالمي للفكر الإسلامي (IIIT)؛ وهو مؤسسة فكرية علمية تعمل في ميدان الإصلاح الفكري والمعرفي، وتتعامل مع مصادر التراث الإسلامي والمعرفة الإنسانية المعاصرة؛ لبلورة تيار فكري إسلامي متميز، يمهّد لاستعادة قدرة الأمة على العطاء الحضاري، وتوجيه التقدم الإنساني.
ويقوم على إدارة المعهد عددٌ من المفكرين الإسلاميين الذين تعود أصولهم العربية إلى العراق والسعودية والأردن وفلسطين، ولهم شبكة اتصالات واسعة مع قيادات الحركة الإسلامية في العالمين العربي والإسلامي.
وفي منتصف التسعينيات، بدأ الإخوة في المعهد، الدكاترة: جمال البرزنجي وهشام الطالب وعبد الحميد أبو سليمان والشيخ طه جابر العلواني وفتحي الملكاوي، باعتبارهم قيادات إسلامية في أمريكا إدارة العديد من النقاشات وجلسات الحوار والعصف الذهني (Brain Storming) الداخلي بين الإسلاميين، وطرح الكثير من التساؤلات والإشكاليات الفكرية بين شباب الإخوان المسلمين في أمريكا، والتي كنا ننظر إليها بدرجات عالية من القلق والتوجس على أساس أنها تمثل تجاوزات ودخول على خط المُحرَّمات أو المحظور من الحمى، لأنها – من وجهة نظرنا آنذاك – كانت تمس بطهارة ما نعتقده من أفكار، وتبعث على التشكيك بنهج الحركة التي تمثل جماعة المسلمين؛ أي الفرقة الناجية، وتهز قناعاتنا الراسخة بفكرها ذي الصبغة الربانية والذي لا يأتيه الباطل.
ومع مرور الوقت، كثرت اجتهادات الإخوة القائمين على المعهد، وزاد نشاطهم من خلال دعم الكفاءات الإخوانية التي ترى في مراجعاتهم محاولة للتنوير الإسلامي، حيث أسهموا في دعم الاصدارات الفكرية التي تعمل على تحريك العقل المسلم، مثل مجلة "المسلم المعاصر"، ودورية "إسلامية المعرفة"، وشجعوا الكثير من طلبة الدراسات العليا في الجامعات الغربية والعربية على الاهتمام بتقديم أطروحات علمية تخدم مسار المراجعات وحركة الوعي والتنوير التي يتطلعون إليها، ولقد نجحوا – خلال عقد من الزمان - في تأسيس مدرسة فكرية جمعت الكثير من أساتذة الفكر الإسلامي في بلاد المشرق ودول المغرب العربي.
اليوم، وأنا أسترجع الذاكرة لتلك المرحلة التاريخية، أشعر بأننا قد ظلمنا إخواننا الذين حاولوا مبكرين إيجاد تيار إسلامي متفتح يتمتع بذهنية حركية واعية، ومُحصَّن بفكر يستوعب مقاصد الشريعة وفقه المآلات، ويتفهم طبيعته الرسالية ودوره باعتباره "رحمة للعالمين".. لقد حاول د. عمر عَبيد حسنة؛ سوري الجنسية، وهو أحد المفكرين الإسلاميين الذين حملوا رسالة المعهد، وكان من أول الذين تناولوا موضوع الحركة الإسلامية، وطالب بضرورة إعادة النظر في العديد من المسائل الفكرية والدعوية والحركية في كتابه الشهير: "مراجعات في الفكر والدعوة والحركة" والذي أشار فيه لأهم مظاهر إصابات العمل الإسلامي، والتي عدّد منها: سيادة العقلية الذرائعية، وشيوع الفكر التبريري، وعجز الحركات عن تمثل المعاني المفقودة في الأمة، وحرمان أبنائها من ممارسة الحرية، وسيطرة الشخصية وتضييق نطاق الحرية بين الإطار التنظيمي، وانقلاب الوسائل إلى غايات، ومساهمة بعضها - بقصد أو بدون قصد -في بعثرة وتفرق المسلمين، والقضاء على مفهوم الأخوة الشامل، وعدم القدرة على ضرب أروع الأمثلة في الولاء للفكرة، وتحكم فكر المواجهة، وعدم تقدير قيمة التخصص، والضيق بالرأي الآخر، والعجز عن استنبات قيادات متجددة، وعدم القدرة على إظهار شخصيات فكرية كافية، والانشغال بحماية المرأة عن الانشغال بتنمية شخصيتها، وعدم الإفادة من الفرص المتاحة، والنظرة الساخرة للآخرين، والتمترس حول ما يسمى بالحق المطلق والصواب المحض، وتحكم العقلية الحزبية التعصبية الذميمة.. وبعد تعديده للمظاهر والصور السالفة الذكر وغيرها، اعتبر من أخطر الإصابات، انقلاب عددٍ من الجماعات الإسلامية إلى طوائف منفصلة عن جسم الأمة، وأهدافها وشعورها بتميزها، واستعلائها، وكأنها الناطق الرسمي باسم الإسلام، والممثل الشرعي والوحيد له، الأمر الذي جعلها تحيد عن مهمتها الأساسية في الدعوة والهداية والارشاد إلى نطاق استعداء المخالفين وعدهم في صفوف المجرمين والحكم عليهم بالضلالة وعدم التفاعل معهم، والحرمان من الافادة من خبراتهم.
لم تقف قصة المراجعات عند د. عمر عبيد حسنة، بل تبعه د. خالص جلبي في كتابه "النقد الذاتي"، وكذلك د. عبدالله النفيسي في كتابه "الحركة الإسلامية: ثغرات في الطريق"، إضافة للإصدار الذي أشرف على تحريره في بداية الثمانينيات بعنوان: "الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية: أوراق في النقد الذاتي"، إضافة لكتابات د. فتحي عثمان (رحمه الله) وأيضاً د. جمال الدين عطية في مجلة "المسلم المعاصر".
لقد أشار كل هؤلاء وآخرون إلى أهمية إجراء المراجعات، باعتبار أن كل ما أنتجه الفكر الإسلامي من المعارف والعلوم لا يعدو أن يكون من باب الاجتهادات البشرية، والآراء الإنسانية، القابلة للنقد والتصوير، والمحتملة - أيضاً - للصواب والخطأ.
وكما قامت بعض الحركات الإسلامية في إجراء تلك المراجعات والتكيف مع الظروف والمتغيرات بما يسمح باستمراريتها داخل ميادين العمل الدعوي ومراتب التأثير والحراك السياسي وساحات الفعل الجماهيري، فإن هناك أيضاً الكثير من الشخصيات المرموقة أمثال: الأستاذ د. طارق البشري، د. عبد الوهاب المسيري، د. عادل حسين، الأستاذ منير شفيق...الخ، حيث كان لهؤلاء منطلقاتهم الفكرية ورؤاهم التي تعبر عن انتماءاتهم لمعسكرات قوى اليسار أو الليبراليين.. وبعد إجراء المراجعات، كانت عملية التحول التي قادتهم - في نهاية المطاف - إلى معسكر الإسلاميين.
المراجعات: الفكرة والتطبيق
من الجدير ذكره، أن العقدين الأخيرين قد شهدا إجراء الكثير من الحركات الإسلامية مراجعات تتعلق برؤيتها الفكرية أو تجربتها السياسية، وخلصت لنتائج وقناعات دفعتها إلى التصريح بوجود أخطاء وتنطع في التعاطي – أحياناً - مع مفاهيم إسلامية ذات علاقة بالدين والسياسة، وسوء تقدير لبعض الاجتهادات والمواقف المتعلقة بالنظر تجاه الآخر، وقد شملت هذه المراجعات حركات إسلامية جهادية مثل: الجماعة الإسلامية في مصر، وجبهة الانقاذ الإسلامية (FIS) في الجزائر، وكذلك حركات إسلامية دعوية، مثل: الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة، والجبهة الإسلامية للإنقاذ في السودان، وحركة النهضة في تونس، وحركة مجتمع السلم (حمس) في الجزائر، وحركة التوحيد والإصلاح في المغرب، وحركة الإخوان المسلمين في سوريا، والجماعة الإسلامية في لبنان، وحزب التجمع اليمني للإصلاح، والحركة الإسلامية في تركيا (حزب العدالة والتنمية)، وأيضاً الحركة الإسلامية في كل من ماليزيا وإندونيسيا.
وبما أن مفهوم المراجعات هو مسألة مرتبطة بالأساس بعملية النقد الذاتي، وإعمال الفكر والتمحيص وإعادة النظر في بعض المفاهيم والقناعات والعمل على تصحيحها.. لذا؛ فإنه يمكننا - في الواقع - رصد وضعية هذه المراجعات التي أجراها الإسلاميون ضمن ثلاثة مستويات: أولها؛ الانتقال من العمل الجهادي العسكري إلى الخيار السلمي، وثانيها؛ الانتقال من العمل الثوري إلى المشاركة السياسية، وثالثها؛ مراجعات ما بعد المشاركة السياسية، ويمكننا هنا الإشارة إلى تجارب التيارات الإسلامية في تونس والسودان والمغرب.
لقد أخذت التحولات التي حصلت عند الإسلاميين - بشكل عام - ثلاثة اتجاهات:
الاتجاه الأول: تحولات فجرت نسق الرؤية (النسق الجهادي) من الداخل، وهو ما وقع للجماعة الإسلامية والجهاد في مصر، وكذلك الحركة الإسلامية في المغرب التي فجرت النسق القطبي من الداخل.
الاتجاه الثاني: تحولات أبقت على الإطار في كليته وقامت بتعديلات داخله، والمثال على ذلك هو حركة النهضة التونسية، والحركة الإسلامية في السودان، والتي رغم تبنيها الواسع للبراغماتية السياسية، فإنها لم تستطع الخروج من الإطار العام لفكر سيد قطب ورؤاه السياسية.
الاتجاه الثالث: تحولات تعكس توتر نسق الرؤية ومحاولة التعايش معه، ومثال ذلك هو حركة الإخوان المسلمين.
إن هناك - أيضاً - ثلاثة مؤشرات مطردة في تحولات الإسلاميين الصاعدين إلى الحكم، وقد تمثلت في القطع مع المنطق الدعوي في الاشتغال السياسي، والتوجه نحو السياسات العمومية، والتخفيف من المفردات الدينية في الخطاب السياسي، والتدبير الذكي للعلاقة بين البعد المرجعي العقائدي والبعد البراغماتي في السياسة، من خلال اعتماد مدخل الدمقرطة والحرية والحكامة.
إن هذه التحولات حدثت بشكل وازن لدى حزب العدالة والتنمية في كل من المغرب وتركيا، وأيضاً داخل حركة النهضة التونسية، فيما لا يزال الخطاب الدعوي والخطاب السياسي يتعايشان – بشكل عام - داخل الرؤية السياسية للإخوان المسلمين.
ويُرجع البعض ذلك إلى التوتر القائم في الأصول الفكرية لحركة الإخوان المسلمين، والتي تجمع بين نسقين معرفيين: الأول؛ مقاصدي، والثاني؛ عرفاني صوفي، يعطي مساحة كبرى للمرشد أو الإمام، مما يبرر ارتهان السياسي للدعوي.
ومن الجدير ذكره؛ أن النقطة المحورية التي تَحدث عندها المراجعات هي لحظة المدخلات والمخرجات، حيث تمضي على أشكال الممارسة والخطاب وأنماط الفعل سنوات تكون كافية للحكم على حالة الإخفاق وتعثر المسار، وتصبح معها وظيفة التبرير غير قادرة على تجنيد التنظيم وتأطيره وضمان استمراريته على نفس الرؤية، مما يحرك الدافعية لإجراء عملية المراجعة، والتي تأخذ مساراً مطرداً إلى أن تصل إلى أحد المستويات الثلاثة التالية: تفجير نسق الرؤية أو تعديله أو خلق شروط تتعايش فيها مكوناته مع ما هي عليه من توتر.
* حركة حماس: قراءة في المشهد
كانت حركة حماس - وما زالت - هي الأقوى دعوياً وحركياً في ساحة العمل الإسلامي، فمنذ انتفاضة الحجارة في كانون الاول 1987م وحتى قيام السلطة الوطنية عام 1994م وما أعقب ذلك من تطورات سياسية وأمنية، ظلت الحالة الإسلامية التي تمثلها حركة حماس في تنامي مضطرد، وقد أضافت النجاحات التي حققتها الحركة في ساحة الفعل المقاوم والعمل الإغاثي مكانة متقدمة، بل وأعطتها قدم السبق، وجعلتها على رأس كل القوائم للنقابات العمالية والمهنية والاتحادات والكتل الطلابية، ومنحتها صدارة المشهد السياسي بامتياز بعد انتخابات كانون الثاني 2006م.
في الحقيقة، جاءت نتائج الانتخابات مفاجأة للجميع، وإن كانت التقديرات لدى بعض الإسلاميين بأن حظوظ حركة حماس بالفوز كبيرة، وقد تتجاوز نسبة الـ40%.
لا شك بأن الحصول على الأغلبية في الانتخابات التشريعية قد غيّر مسار النقاش والموقف داخل أروقة الحركة في الداخل والخارج حول قضية "المشاركة في الحكومة أو تشكيلها" أو الاقتصار فقط على ثقل الأغلبية في المجلس التشريعي.. وبدون الدخول في تفاصيل الكيفية التي تمَّت فيها عملية حسم الخيارات والبدائل باتجاه تشكيل الحكومة، انتهى المشهد بحكومة تقودها حركة حماس، وتفجر المواجهات مع حركة فتح - السلطة الحاكمة - على كل الصعد.. للأسف؛ لم يكن هناك أي دور مؤثر لفصائل العمل الوطني للعمل على تحقيق حالة من التوازن تسهم في استقرار الساحة السياسية والأمنية.
استمرت أشكال التآمر الدولي والتواطؤ الإقليمي وأساليب الكيد والمناكفة السياسية والفلتان الأمني، وكذلك عمليات الاجتياح المتكررة لجيش الاحتلال وقصفه المستمر لقطاع غزة، إضافة للحصار الخانق والتضييق على أهل القطاع وتحويله إلى سجن كبير تحاصره إسرائيل من فضاءاته الأربع، استمرت كل هذه المكابس المحلية والاقليمية والدولية تضغط بقوة، بهدف كسر إرادة حركة حماس وإفشال عمل الحكومة التي تديرها، ودفعها للاستسلام أو الغرق.
أدت هذه الأوضاع غير المستقرة - أمنياً وسياسياً - إلى الانفجار والمواجهات الدامية في حزيران 2007م، والوصول إلى حالة من التشظي والانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وقيام حكومتين بلا رؤية وطنية واحدة، وتشرذم الساحة الفلسطينية واكتظاظها – للأسف - باصطفافات حزبية جناحاها هما فتح وحماس.
في الحقيقة؛ كان هذا المشهد هو كل ما تريده إسرائيل للتهرب مما عليها من استحقاقات للطرف الفلسطيني، واتخذت من هذا الانقسام ذريعة لاستهداف غزة - عسكرياً - بأكثر من عدوان في كانون الاول 2008م وكذلك في تشرين الثاني 2012م، وأيضاً في إضعاف مكانة الرئيس أبو مازن؛ باعتبار أن ولايته أصبحت مقصورة فقط على الضفة الغربية.
مع نسائم الربيع العربي ومظاهر الإصلاح والتغيير التي صاحبته كانت هناك فرصة لتحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام، إلا أن البعض لم يحسن قراءة اللحظة ولم يوفق في تقدير الموقف، فضاعت الفرصة. اليوم، ومع الانتكاسة التي أصابت مستجدات الربيع العربي، وخاصة في مصر وسوريا تلوح أمامنا الفرصة مرة أخرى لكي نجمع شتات هذا الوطن، ونخطو باتجاه الانتخابات التي هي اليوم بمثابة "طوق نجاة" للجميع لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني سياسياً وأمنياً ومجتمعياً، في سياق شراكة سياسية وتوافق وطني، وإصلاح لعلاقاتنا المتوترة نسبياً مع عمقنا العربي والإسلامي، وأيضاً التحرك باتجاه المجتمع الدولي الذي يبدو أنه بدأ يتفهم ضرورة إنهاء إسرائيل احتلالها للضفة الغربية، وأهمية قيام دولة فلسطينية حرة ومستقلة، لتحقيق الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، والتي تشكل محطة استراتيجية لمصالحه النفطية وأسواق تجارته الحيوية.
اليوم، وفي ظل حالة الأزمة الخانقة التي تعيشها غزة، والضغوطات التي يتعرض لها الرئيس أبو مازن، نجد أنفسنا جميعاً في مركب واحد يوشك على الغرق، الأمر الذي يفرض علينا أن نقدم من التسهيلات والتنازلات ما يمنحنا الأمل بإمكانية النجاة، حيث إن أي خيارات أخرى سترهننا للزمن الذي قد يأتي - ولكن - بعد فوات الأوان.
لذا فأنا أضم صوتي لكل إخواني من جماهير هذا الشعب العظيم، ومن فصائل العمل الوطني والإسلامي ومنظمات المجتمع المدني، الذي نادوا بضرورة الإسراع بتحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام، عبر تشكيل "حكومة تكنوقراط" بحسب المهام التي جاءت في تفاهمات اتفاق القاهرة وإعلان الدوحة.
إن رأس حماس – الحركة والمقاومة - ما زال مطلوباً، والحكمة تقتضي – كما يرى البعض - أن تُعفي حماس نفسها من تبعات وتكاليف الحكم الباهظة؛ سياسياً ومالياً واقتصادياً، وأن تحرر نفسها وجماهيرها من مسؤولية الالتزام والمساءلة المباشرة أمام الشارع الفلسطيني في ظل تعاظم التآمر والكارثة الاقتصادية.. كما أن الابتعاد عن صدارة مشهد الحكم سوف يسد باب الذرائع أمام أي عدوان إسرائيلي قادم، وسيقطع دابر الفتنة على أية خلفيات دينية أو سياسية يتم الترويج لها، وسوف يمنح الحركة فرصة التفرغ لإعادة بناء وترميم وتدعيم مؤسساتها الحركية والتنظيمية والاجتماعية، ويهبها آفاقاً أرحب نحو تفكير أدق وأصوب حيال المشروع المقاوم، وسبل صيانته وتنميته وإرساء قواعده ونشر أشرعته وفق رؤى تجديدية وتطويرية تتم بلورتها في ظل التحديات التي تعصف بالوضع الفلسطيني قاطبة.
ومن الجدير ذكره؛ أن عملية الخروج من الحكومة يجب أن تتم بتوافق مع الأخ الرئيس أبو مازن، والذي حرص في لقاءاته مع بعض قيادات الحركة في الضفة الغربية على التأكيد بأن الشراكة السياسية مع حركة حماس هي قناعة راسخة عنده وليس مسألة فيها نظر.
المراجعات بين الواجب والضرورة
في الفترة الأخيرة تكاثرت الاقتراحات من داخل حركة حماس ومن خارجها تطالب الحركة بضرورة القيام بمراجعات لملفاتها السياسية والحركية والأمنية، وأنا أتفهم بواعث ذلك، حيث إن الكثيرين من هؤلاء وأولئك لهم دوافع صادقة، مبعثها الحرص على هذه الحركة الإسلامية التي شكلت عنواناً نضالياً كبيراً، وأسهمت بجهادها ودماء شهدائها وتضحيات أسراها داخل السجون والمعتقلات الإسرائيلية بصناعة ملحمة من البطولة والمجد، عجّلت بخروج المحتل من قطاع غزة في ايلول 2005م، ومنحت المقاومة رافعة تحملها وتحميها، وقد تبدّى ذلك في دفاعها الأسطوري عن قطاع غزة خلال حرب الفرقان وحجارة السجيل.
اليوم، لا يشعر أحدٌ بالحرج عندما يتحدث البعض عن المراجعات؛ لأن هذا العمل قد باشرت الحركة العمل به بشكل رسمي وغير رسمي، فهناك داخل مؤسسات الحركة الشورية والبحثية من يتولى ذلك، وقد تأخذ المسألة بعض الوقت، لكن العمل قد بدأ وسوف يتمخض عن مواقف تعبر عن الإجماع داخل الحركة فيما يتعلق بشأن السياسة والحكم، والنظرة لشكل وفعل العمل المقاوم، وأيضاً لطبيعة السلوك وأنماط التحالف مع الآخر، وتوجهات وأبعاد العلاقة الاستراتيجية مع دول الجوار.
إن الأسابيع والشهور القادمة سوف تشهد لقاءات فكرية موسعة، وحراكاً داخلياً للخروج برؤية أكثر وضوحاً تجاه التحولات السياسية المطلوبة والانفراجات باتجاه الكل الوطني في ظل صياغات أوسع نضجاً تجاه مشروعنا الوطني، وشكل الشراكة السياسية التي نتطلع إليها مع باقي إخواننا في فصائل العمل الوطني والإسلامي.
وأختم - هنا - بهذا الاقتباس الذي يمثل موقف ورغبة الكثيرين من الكوادر والقيادات الإسلامية: "أخيراً.. على حماس أن تدرك أن حالة المراجعة والتقييم والاستدراك بقدر ما تُعبّر عن حكمة وحيوية وسعة أفق وفهم للمصلحة وإعمال لفقه الموازنات، بما يحفظ الوطن وفصائله المقاومة، والشعب وقضيته العادلة، وسط محيط التحديات العاصفة التي تنهشه من كل حدب وصوب، فإنها تعبر أيضاً عن فهم دقيق لنواميس الكون، وانسجام واضح مع قوانين الوجود والحياة، التي لا تُحابي أو تستثني أحداً مهما كان"، وللحديث بقية.