من الخوذة إلى "القبّة الحديدية "
(الجزء الاول)
يذهب هايدغير في تحليله " للتكنولوجيا " في الازمنة الحديثة إلى أن التكنولوجيا تحولت من وسيلة لتحقيق غاية ما الى نمط من الوجود/ طريقة للحياة، تعاش الحياة فيها لا بها.
في المواجهة الاخيرة بين غزة والخاصرة الجنوبية للنظام الاستعماري في فلسطين تحولت منظومة " القبة الحديدية " النظام الصاروخي المضاد لصواريخ غزة الى حيّز لكرنفال استعماري، أو الى "طوطم" تدور حوله مجموعة متنوعة من الطقوس تشبه طقوس "الحج"، لكن وفي الوقت ذاته تتفجر فيه تناقضات النظام الاستعماري مع كل انطلاقة لقذيفة " تامير " المعده لاعتراض صواريخ غزة.
(1)
حوّلت صواريخ غزة محيطها الاستعماري الى حيّز تمارس فيه نوعا عنيفا من ما أسميه "بالسلطة النفسيّة/ النفسانيّة" تزاحم فيه سيادة السلطة الاستعماريّة، يمكن تعريف "السلطة النفسيّة " بكونها ممارسة للقوة/الحاكميّة عبر سياسات تتخذ من الحياة النفسيّة- السيكولوجيّة هدفا لتقنياتها في مقابل السلطة الحيوية/الحياويّة تتحكم بالناس من خلال ما هو "بيولوجي"/حياوي من مثل الحصار الغذائي على غزة المبني وفق معادلات رياضية تحدد عدد السعرات الحرارية اللازمة للفرد للبقاء على قيد الحياة.
أعادت صورايخ غزة ترسيم حدود السيادة الاستعمارية على الاقليم كما يظهر في تصنيف الحيز المحيط بغزة - والذي تستهدفه صواريخها – من قبل السلطة الاستعمارية الى مناطق سكنية ومناطق مفتوحة، والمناطق االسكنية الى تلك المحاذيّة للقطاع وتلك التي تبعد عنه من 4-7 كم، هذا " التدريج السيادي" / التصنيف تم برمجته في الحواسيب المتحكمة بالقبة الحديدية بحيث لا تطلق القذائف الاعتراضيّة الا في حالة استهداف للمناطق السكنية والتي تبعد عن حدود القطاع اكثر من 7 كم، فإحداثيات السيادة على الاقليم وحدودها تحسم من قبل القدرات التكنولوجيّة للقبة الحديدية لا العكس.
نتج عن سياسات "السلطة النفسانيّة" لصواريخ غزة تشكل ما يعرف "بدولة الجنوب" ( كما يسميها سكانها الصهاينة تعبيرا عن قناعتهم بالتمييز والتهميش الأمني) كمنطقة موبوءة بمجموعة من الاضطرابات النفسية ( الصدمة، ما بعد الصدمة، العصاب، الذهان، الفشل الوظيفي، اضطرابات النوم، اضطرابات الأكل، التبوّل غير الارادي وصولا الى بداية تشخيص حالات من الفصام ( الشيزوفرانيا ) التي وصلت الى مشغلي منظومات القبة الحديدية ذاتهم.
تقف "القبة الحديدية " عاجزة أمام المهمة الاكثر جديّة وهي منح "دولة الجنوب" الفرصة للعودة الى الحياة الاعتيادية، فطالما تسمع أصوات صافرات الانذار فقد أصابت صواريخ غزة أهدافها بدقة عالية، ولا يهم بعدها أين تسقط أم اُعترضت أم لا؟
هذه الحالة "الحياة برسم الصافرة" أصبح يعبر عنها "بكيّ الوعي" ومصطلح كيّ الوعي استخدمه للمرة الاولى رئيس الاركان السابق "بوجي يعلون" في 2002 لتوصيف الهدف من العمليات العسكرية ضد الفلسطينين والعرب بقوله " يجب كي الوعي الفلسطيني والعربي لييأسوا من جدوى ممارسة العنف ضد " اسرائيل"، بعد عشرة سنوات من هذه المقولة يتم استخدام ذات المصطلح (كي الوعي ) في الصحافة الاسرائيلية ولكن هذه المرّة لتوصيف تأثير صواريخ غزة على نفسية ووعي سكان سديروت وعسقلان واسدود ونتيفوت وبئر السبع، لعله مَكر الطَريدة !
(2)
حالة من النشوة تجتاح المستعمرة، وخاصة الجزء الجنوبي منها، لعل مردها عند الجنوبيين "هجانة" ( الهجانة هنا بالمعنى الدارج " الهجين اللي وقع بسل التين " لا بالمعنى الفلسفي ) مواطني الدرجة الثانية أو سكان الاطراف ( في مقابل سكان منطقة " غوش دان " تل اببيب وما حولها )، نشوة نجاح المنظومة "الخارقة" او "السحرية" في اعتراض 80% من صورايخ غزة – على ما يزعمون – ونشوة الفخر "بالجين اليهودي" المتمثل في عبقرية مهندسي "رفائيل" الشركة المصنعة للمنظومة، لم تسلم المفاهيم العسكرية للجيش "الاسرائيلي" من هذا المَسّ المنتشي ، فصار يُطلق على الجنود المُشغّلين لبطاريات القبة الحديدية أسم "المقاتلين"، بعد ما كان مسمى "المقاتِل" حكرا على الجنود المنتمين الى الوحدات القتالية المباشرة ( المشاة ، المظليين ، المدرعات ..... ) والانتماء لهذه الوحدات المقاتلة يعني التحصل على "رأسمال اجتماعي عسكري " يتفاخر به الجنود وأهلهم، هذا الاحتفاء الكرنفالي "بالمقاتلين الاذكياء الجدد" أثمر زيادة في عدد المتطوعين في صفوف وحدات الدفاع الجوي التي تشغل منظومة القبة الحديدية مما يعني تعميقا لأزمة التجنيد في الوحدات القتاليّة التي تعاني أصلا من تناقص متزايد في أعداد المقبلين عليها للمخاطرة العاليّة .
قدّمت "القبة الحديدية" كمنظومة دفاعية بكونها ستوفر للقادة السياسيين الوقت و"الجو النفسي" المناسب لاتخاذ قرارات عسكرية حكيمة ومناسبة بعيدا عن ضغط الشارع والحاجة الى الرد "غير المتكافئ" في حالة إصابة مباشرة للمدنيين، بما يعني ضمنا وبالاستناد الى بعض دروس حرب تموز 2006 انّ التكنولوجيا العسكرية وخاصة التكنولوجيا المحلقة غير قادرة على الحسم، وبالتالي عودة الى أهمية السيطرة على الارض عبر العمليات البرية وخاصة عمليات الوحدات الخاصة، قد تمنح القبة الحديدية -وغيرها من منظومات الدفاع النشط عن الجبهة الداخلية- الوقت لمتخذي القرار للتخطيط والمناورة ولكن نعمة الوقت الممنوح قد تنقلب بسهولة الى نقمة في ظل التردد في اتخاذ قرارات باتجاه العمليات البرية وفي سياق التوجه العام نحو الدفاع من وراء الجدران ( الجدار في الضفة وغزة والحدود مع مصر والحدود مع لبنان الاغوار)، لعلها لعنة "الجيتو " الأبديّة.
(يتبع)