ما بقي بعد موت "جبع"
أكثر ما يبعث في النفس رهبة في أماكن الموت أنها كانت شاهدة على أرواح تفارق الأجساد وتتركها خواء، هذه الرهبة الساكنة سرير ميّت أو مقعده أو مكانه المعتاد، فكيف بها إن كانت أرواحا عدة رحلت في بقعة واحدة صغيرة! حتى لو كنت لا تعلمهم ستشعر بانقباض ما يبدأ في أطراف جسدك ويسري عبرك حتى يخرج من منطقة ما في الحلق؛ كما الروح تماما حين تخرج – أو على الأقل كما قيل لنا عن خروجها-.
هناك ... في الشارع المشقوق في الصخر بين حاجز جبع ومفرق الرام؛ تحديدا على الجرف الصخري الذي يعلو موضع رحيل الأطفال في حافلة المدرسة، هناك فوق بقايا الحقائب وقطع الثياب وفتات الأجساد المحترقة لم يلملمها أحد، وقطع الحافلة، وبقايا أعقاب سجائر الباكين على الأطلال؛ هناك فوق اللافتة الوحيدة المخلّدة لذكرى الضحايا والموقّعة باسم شركة كهرباء القدس، هناك فوق الأزهار الذابلة الصفراء البغيضة، هناك فوق استغلال المأساة والاستشعار عبرها واجتراح الخواطر عنها ... هناك فوق كل شي وعلى حافة الجرف ... حصان ميّت.
صدقا ... هنالك في أعلى الجرف حصان أبيض ببقع بنيّة ... ميت، جسده ملقى على حافة الصخر كأنه انزلق أو تعثّر فوقع وفارقته أنفاسه، أو لعلّه كان الشاهد على ما لا يرى البشر يوم الفاجعة فلم يقوَّ على النهوض فمات مع الموتى الصغار، أو لعلّه الموت يسكن بقعة ويستسهل صيد كل حيّ.
هناك الموت هو الحقيقة الوحيدة، وحولها حفنة معلومات:
- هنالك فرق كبير بين لجنة التحقيق ولجنة التحقق وفق منطق رئيس الوزراء سلام فياض؛ والفرق هذا أن لجنة التحقيق لا بد لها من اتهام جهة أو شخص بالمسؤولية، ولجنة التحقق تستخلص العبر وحسب؛ وهنا كان واضحا لماذا اختار هو الثانية.
- هنالك تنسيق أمني على أعلى المستويات وهو كالموت حقيقة؛ يقرّ بها الجميع ولم تعد في عرفهم تهمة، ولكنّ التنسيق مع مستشفى هداسا لمعرفة عدد المصابين والموتى لديهم؛ لم يكن في حسبان السلطة؛ ولم تجهد في سبيل النوع الوحيد الذي يبرر من التنسيق، ربما لم يتوفر لديهم الوقت فخطابات المواساة والبكائيات كانت تشغل الجميع.
- يومها ولد نوع جديد من النواح والبكاء والعويل ... الافتراضي، وفي بعض الحالات وصل الأمر إلى شقّ الجيوب والتمرّغ بالتراب ... افتراضيا، وهذا بالضرورة لا يعيد ميتا ولا يدين مسؤولا ولا يعاقب مجرما.
- كان الإيمان طافحا وكانت الجنّة حقيقة وكان " عزرائيل" قرين اليقين، وكان القضاء والقدر كلمة السرّ وبلسم جراح كل من لا صلة له بروح فارقت جسدا يومها.
- في كل بقعة نَفَقَ فيها جندي إسرائيلي أو مستوطن هنالك صرح مهيب وهذه تملأ الضفة الغربية، أمّا أطفال الحافلة فليس لهم إلا "دعاية" شركة كهرباء القدس.
- سيظّل كل سائق يمرّ من موقع رحيل الأرواح ذاك يدوس على الكوابح؛ هكذا كحركة لا إرادية، ومع الزمن قد تصبح هذه الطريقة الوحيدة لتخليد ذكرى الضحايا، ولا يتمنن أحد علينا؛ فهذا التخليد تولّاه الموت وحده.
- كانت انتهازية ذلك اليوم أقبح من أي شيء آخر.
معلومة أخرى هي أقرب إلى التوقّع:
سيبقى جسد الحصان الميت على الجرف فوق موقع الحادثة حتى يتحلل؛ فلا ساكنين في المنطقة لتزكم أنوفهم رائحة تحلله، والمنطقة ضمن نطاق السيطرة الإسرائيلية – عفوا كل المناطق ضمن نطاق السيطرة الإسرائيلية- فلن تذهب طواقم السلطة لدفنه دفنة لائقة، وعابرو الطريق يمرّون خائفين يشيحون بأوجههم ... خجلا ربما.
معلومة أخيرة قد لا تعني أحدا :
كأن قامة الحصان لا تكون إلا منتصبة شامخة؛ فكأنه غيره حين تراه ميتا.