الفلسطينيون يحولون محمد عساف إلى أسطورة

بقلم: 

 

 

يقوم هذه الأيام المطرب محمد عساف الحائز لقب ‘محبوب العرب’ وبرفقة نجمي برنامج أراب أيدول اللبناني زياد خوري والسورية فرح يوسف، بجولة فنية في عدد من المدن الرئيسية في الولايات المتحدة وكندا من ديترويت إلى شيكاغو، ومن إليزابيث بنيوجرزي إلى واشنطن، ومن لاس فيغاس إلى سان فرنسيسكو، ومن مونتريال وتورونتو وأوتاوا إلى دلاس وهيوستون. كما سيشارك الفنان محمد عساف يوم الاثنين 25 تشرين الثاني/نوفمبر الحالي بإحياء اليوم الدولي للتضامن مع الشعب الفلسطيني في مقر الأمم المتحدة بنيويورك بصحبة الفنانة الفلسطينية الصاعدة ناي برغوثي. وبصفته سفير نوايا حسنة لوكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) سيشارك في حفل استقبال صغير في بيت سفيرة أوروبية مؤيدة للحق الفلسطيني، لجمع التبرعات لصالح الوكالة التي تعاني من أزمات مالية خانقة. وبقدر ما كانت الحفلات ناجحة بكل المقاييس فقد كشفت أيضا عن حالة نفسية يعاني منها الفلسطينيون في كل مكان، هي أقرب إلى الضياع وانفراط العقد وغياب روح الجماعة والانفلات، فما ان ظهر محمد عساف في سمائهم حتى التفوا حوله ورفعوا مقامه عاليا إلى مراتب الأبطال الأسطوريين، واحتل موقعا من قلوبهم يحظى بإجماع لم يسبق له نظير، فكيف حدث هذا وإلى متى ستستمر هذه الموجه الهستيرية أو الظاهرة العسافية؟

في حفلة نيوجرزي مساء الجمعية 15 نوفمبر كنت واحدا من بين ألفين ملأوا كل مقاعد مسرح رتز بمدينة إليزابيث. استمتعنا أولا بصوت زياد القوي الذي أشعل المسرح بأغاني سيد الموالات اللبنانية الفقيد وديع الصافي، ثم جاءت بعده فرح يوسف لتستعرض جماليات صوتها الأسمهاني القوي والعذب وتفتت قلوبا وهي تستعرض الأغاني الشامية والمقامات الحلبية- ولكثرة ما أصابها من إرهاق نقلت إلى غرفة الطوارئ في أقرب مستشفى بالمدينة فور انتهاء فقرتها الغنائية. وعندما دخل محمد عساف بعد طول انتظار اشتعل المسرح بالصراخ والصفير والتصفيق والزغاريد والهتاف. لم يبق أحد جالسا في مقعد، وتدافعت الصفوف الخلفية إلى الأمام واستطاع عساف بأغانــــيه الوطنية والحماسية أن يرفع حرارة المكان ويدب طاقة غير محدودة في الجمهور، بحيث كادت الأمور أن تفلت أكثر من مرة بسبب التدافع وإصرار بعض الأشخاص على أن يقفزوا إلى المسرح أو يدفعوا بأطفالهم إلى أحضان المغني. وقد اضطر منظمو الحفل إلى وقف الغناء أكثر من مرة لإعادة الحضور إلى مقاعدهم، ثم قطع عساف الأغنية الأخيرة من النصف وانسحب من المسرح بسرعة خاطفة حتى لا يتكرر ما حدث في شيكاغو وأماكن أخرى من محاصرته في النهاية لأخذ الصور التذكارية.

في اليوم التالي أعد نشطاء الجالية العربية في نيوجرزي حفل استقبال وتكريم للفنانين الثلاثة، بحضور عدد محدود لا يتجاوز المئة شخص. وقد طلب مني أن أكون المتحدث الرئيسي في تلك الأمسية. فوجئنا أولا أن عدد الذين حضروا وفرضوا أنفسهم على الحفل قد تجاوز الستين شخصا لتصبح القاعة مضغوطة بشكل غير مقبول. وقد أعلن عريف الحفل أن الفنان عساف سيمر على كل طاولة لأخذ الصور التذكارية مع الجميع، لكن هذا لم يقنع أحدا. الفردية طغت على روح الجماعة – كل فرد يريد أن يأخذ صورة معه ولا يهمه بعد ذلك ما يحدث- شرطيان أمريكيان يحرسان الطاولة، ومع هذا فلا يتوقف سيل المعجبين لالتقاط الصور، والرجل لا يصد أحدا ولا يتكبر على أحد. بعد العشاء وعلى أنغام أغاني محمد كبها قفز عساف لمشاركة الشباب والشابات في الدبكة الفلسطينية، وإذا بكل الحضور يندفعون نحوه يريدون أن يشاركوه الدبكة. دبت الفوضى وتزاحمت الناس حوله فقام مرافقوه بسحبه من القاعة فورا مخلفين حالة من الإحباط والقهر والفوضى. كل واحد ينظر في عيون الآخر ويسأل: لماذا يتصرف الفلسطينيون بهذه الفوضى ‘غير الخلاقة’؟

 

مواهب عساف المتعددة

 

لا شك أن الفنان محمد عساف متعدد المواهب يملك صوتا قويا يستطيع أن ينتقل من مقام إلى آخر بمنتهى السهولة. يتقن فن التطريب والأغاني الشعبية الفلسطينية والمواويل الجبلية، وينتقل بسهولة من اللهجة الفلسطينية إلى اللبنانية فالخليجية فالمصرية فالمغاربية بدون عناء، مما يذكرنا بقول الناقد الفني الشهير حسن الشافعي عندما وصف صوته بأنه مسطرة. كما أن حركاته على المسرح تمتاز بخفة الدم والعفوية والرشاقة، حيث يرافق أغانية الشعبية بحركات الدبكة الفلسطينية التي تشعل الجمهور، شيبا وشبابا رجالا ونساء، يدفع بعض الحضور إلى القيام بحركات هستيرية وكأنهم يريدون أن يحلقوا في سموات الطرب عاليا. أضف إلى كل ذلك ما يمثله عساف من شباب متدفق ووسامة لا تخطئها عين فتاة، دفعت ببعضهن إلى القفز على خشبة المسرح والتوجه إليه لتقبيله أو ضمه بطريقة غير لائقة. كما أن عساف، على صغر سنه، زين هذه المواهب بأدب جم فلا يحاول أن يصد أحدا ولا يمنع شابا قفز إلى جواره ليشاركه الدبكة، ولا يترفع عن حمل طفل أو طفلة حتى على المسرح ولا عجوزا ثمانينية، مثلما فعلت الحاجة آمنة أم محمد التي صعدت إلى مسرح الرتز لتأخذ منه الميكروفون وتغني له وتزغرد وتقبله على وجنيته، وعندما حاول رجال الأمن إبعادها مسك عساف بيدها وقبل رأسها مخاطبا إياها بكلمة ايمّهب المحببة للفلاحين الفلسطينيين ورقص معها، مما أفاض دفقات من دمع في عيون من يملكون قلوبا رقيقة مثل ابنتي بيسان.

ومع إقرارنا بهذه المواهب وهذه الحيوية المتدفقة التي تميز بها الفنان، إلإ أننا لا نستطيع أن نفهم أو نهضم أو نتجاوز حالة الفوضى التي صاحبت تلك الحفلات وانفلات الفلسطينيين خاصة من كل القوانين والمحظورات لدرجة تثير الاشمئزاز من تصرف لا يليق بشعب االجبارينب والانتفاضات والبطولات. قد نفهم هذه الفوضى في بلاد القهر والضغط والاحتلال، فكيف نستوعب مثل هذا التصرف من أبناء الجاليات العربية ومعظمهم من جيل شبابي ولد في هذه البلاد وتعود أن يحترم قوانين السير والوقوف بأدب في طوابير الحفلات والسينمات والمسارح واجتياز الجسور والأنفاق وداخل البنوك والدوائر الحكومية ومباريات كرة السلة وكرة القدم، التي تجمع عشرات الألوف – فلا أحد يزاحم أو يتجاوز دوره أو يثير فوضى. لماذا نتصرف عند الأجانب بكثير من الأدب والانضباط، وعندما نوضع في إطار عربي تنهار كل الضوابط والقوانين والتصرفات الحضارية وتنتصر الفوضى؟

 

شعب يبحث عن بطل

 

الشعب الفلسطيني لأكثر من ستين سنة كان يصنع رموزه من المناضلين. في ما مضى كانت الأغنية الشعبية الفلسطينية تقول: اوإحنا الصلح ما نرضاه الحاج أمين (الحسيني) علمنا إياه’، ثم استبدلوا الاسم بالشقيري ثم بجمال عبد الناصر ثم بـ اأبو عمارب ثم بأحمد ياسين وحسن نصرالله ثم توقفوا تماما. كل هذه الرموز تهشمت وانتهت، إما إلى موت حقيقي أو مجازي لائق أو غير لائق. في الأدب نصب الفلسطينيون محمود درويش رمزهم الأعلى، وفي الفن احـتل ناجي العلي الموقع بلا منازع، وفي العلوم الإنسانية توج إدوارد سعيد رمزا لعبقرية أبدعت وحلقت عاليا في السماء، وفي الطهر الثوري ظل حكيم الثورة جورج حبش قديسا في عيون شعبه إلى آخر لحظة، واحتل ياسر عرفات رمزية صنع جزءا منها الناس وأضفوها عليه، ومثـّل أحمد ياسين والرنتيسي رمزا لترجمة العقيدة الصلبة إلى شهادة، وفي سجون الاحتلال عندما وصل الأسير سامر العيساوي درجة الموت بعد إضراب قياسي عن الطعام، بدأ الشعب الفلسطيني يستعد لتشفيره رمزا أسطوريا فاكتشفت إسرائيل ذلك وتوصلت إلى اتفاق تستجيب لشروطه تقريبا. صفحات وانطوت من على أرض الواقع. إذن يعيش الفلسطينيون حالة فراغ كبرى خالية من الرموز الأسطورية- ووجود قيادات بائسة في رام الله وغزة لا تتفقان على شيء إلا على استمرار الانقسام. المفاوض يصل إلى طريق مسدود يضيع القضية ويتجاوز خطوطها الحمراء ويضيع الشعب معه. والوعد بإقامة الدولة عن طريق المفاوضات قدم غطاء لإسرائيل لضمان عدم قيامها. وأما الذين انتخبوا بسبب ورقة المقاومة فتحولوا إلى جهاز سلطة كان يضبط اقتصاد الأنفاق وحركات المقاومة الأخرى، ثم وجدوا أنفسهم محاصرين برا وبحرا وجوا من العدو الإسرائيلي والجار العربي فتتمحور آمال الناس حول إيجاد غذاء أو دواء أو ضوء كهرباء أو غالون من المحروقات.

فليكن الهروب الجماعي من ذلك الواقع المر… لنمارس إذن ما قاله لنا سيد الكلام احريتي فوضايب إلى أن يأتي البطل من ساحات النضال والمقاومة كي نلتف حوله كلنا أو معظمنا.

وإلى أن يأتي ذلك البطل، وقد لا يأتي، سنبقى انعلي الكوفية ونلولح فيها ونغني عتابا وميجانا وسامر فيهاب مع البطل الأسطوري الذي توجناه ملكا على قلوبنا على الأقل في المرحلة الحالية. ماذا تنتظرون من شعب مبعثر، تحت الاحتلال أو الحصار أو المنافي أو مخيمات اللجوء أو مواطنين من درجة ثالثة أو رابعة؟ من يستطيع أن يوحدهم خلف هدف واحد إلا النضال؟ فإلى أن يأتي ذلك البطل سنبقى نلتف حول بطـلنا الشاب محمد عساف، الذي على الأقل يوحد مشاعرنا ويعزز من انتمائنا لوطننا الواحد والوحيد ويزرع على شفاهنا بسمة أمل إلى أن ينبلج الفجر بعد هذا الظلمة الحالكة.

 

* أستاذ جامعي وكاتب فلسطيني مقيم في نيويورك

 

المصدر: 
القدس العربي